كانت الدولة المملوكية في آخر أيامها، من منتصف القرن الثامن إلى سقوطها على يد السلطان سليم الأول سنة 922 هجري / 1516 ميلادي، يسودها الظلم والعسف والفوضى السياسية بشكل غير طبيعي.
ومن المظالم، بل والإجرام، الذي كان يرتكب بحق الناس من قبل العساكر المماليك وأمرائهم بحق الناس ما ذكره ابن تغري بردي في تاريخه النجوم الزاهرة عن أحد كبار المماليك الظاهرية وأمرائها ممن ولي نيابة صفد وحماة وطرابلس، وكان يسمى يونس بلطا - هكذا جاء اسمه، أنه كان(ظالماً جباراً متكبراً، سفاكاً للدماء، قَتل بطرابلس من القضاة والعلماء والأعيان خلائق لا تدخل تحت حصر)، قال:
وقد مر ذكر هذه الوقائع كلّها في أوائل ترجمة الملك الناصر فرج الأولى، فلينظر هناك). (النجوم الزاهرة 13 / 17).
فنظرنا هناك فوجدناه يقول:
(ونهب يونس أموال الناس كافّة بطرابلس، وفعل في طرابلس وأهلها ما لا تفعله الكفرة، وقتل نحو العشرين رجلا من أعيان طرابلس وقضاتها وعلمائها منهم:
• الشيخ العالم المفتي جمال الدين بن النابلسي الشافعي.
• والخطيب شرف الدين محمود،
• والقاضي المحدّث شهاب الدين أحمد الأذرعي المالكي،
• وقاضى القضاة شهاب الدين الحنفي،
• والقاضي موفّق الدين الحنبلي،
وقتل من عامة طرابلس ما يقارب الألف، وصادر الناس مصادرات كثيرة، وأخذ أموالهم وسبى حريمهم، فكانت هذه الكائنة من أقبح الحوادث، وكانت فى الخامس عشر من شهر ربيع الأوّل) - من سنة 802 هجري.(12 / 191).
والذي يقرأ حوادث القرن التاسع هجري على الخصوص في (النجوم الزاهرة) يقف على مقدار الفساد والضلال السياسي والإجرام الذي كان يصدر من الأمراء المماليك، والقتال بينهم الذي لا ينتهي، والكيد والمكر الذي كانوا يمارسونه تجاه السلطان وتجاه بعضهم البعض، ولو اضطر الأمر إلى الحلف الكاذب على القرآن
الكريم. وقد اختصر كل ذلك ابن تغري بردي في عبارة، فقال:
(ولهذه الأَيْمان الحانثة ذهب الجميع على السيف فى أسرع مدّة، حتى إننى لا أعلم أن أحدا من هؤلاء الأمراء مات على فراشه، بل غالبهم تفانُوا قتلا على أنواع مختلفة لتجرّئهم على الله تعالى).
إذا علمنا هذا، عرفنا حينها لم قال عالم الشام الشيخ محمد جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى في رسالته (الجرح والتعديل) واصفا تلك الفترة وما تلاها من انتصار الأتراك العثمانيين على الأتراك المماليك:
(ولقد أريقت دماءٌ مُحَرَّمَةٌ، وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان أَعْوَامًا وسنين، حتى عَجَّ لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض والسموات، بكشف هذه الغمم والظلمات، ولم يزل سبحانه يملي لها - أي دولة المماليك - ويستدرجها في غَيِّهَا، ولم تحسب للأيام ما خُبِّئَ لَهَا فِي طَيِّهَا، إِلَى أَنْ امْتَلأَ إِنَاؤُهَا، وحان حصدها وإفناؤها، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة، ودارت على دولتها الدائرة، وَمَحَقَ اللهُ بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة،
وأورثها للدولة الصالحة العاقلة - ويقصد الدولة العثمانية -، فَأَمَّنَتْ النَّاسَ على أنفسها ودمائها، وذهبت عصبة الجمود بزبدها وغثائها).
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول