عالم لم تسلط عليه الأضواء: الماوردي الفقيه الدستوري الأديب العربي


بقلم العلامة: محمد أبو الوفا المراغي
دستوري، قاض فقيه، أديب، مرب، هكذا كان الماوردي، طرازاً غريباً بين علماء الإسلام، لا نحسب أن نظراءه كثيرون. فقد نقرأ في تراجم الكثير من علماء الإسلام أن فلاناً فقيه، أو أديب، أو قاض، أو نحو ذلك من ألقاب الأدب والفقه والحديث إلا أنه يعوزنا الدليل على ما ذكر المترجمون من تلك الألقاب.
أما الماوردي فقد ترك لنا الأدلة على فقهه ودستوريته وأدبه على أنصع ما تكون الأدلة، وحسب الماوردي أن يترك لنا (الأحكام السلطانية) لنعرف كيف كان قانونياً دستورياً في الإسلام، وأن يترك لنا (أدب الدنيا والدين) لنعرف مبلغ تضلعه في الأدب، وتذوقه للأساليب وفقهه في تخير المستجاد منها، وأن يترك لنا كتاب ( الحاوي الكبير) في فقه الشافعي لنعرف غزارة علمه بالفقه ، وقدرته على استقصاء مسائله، وهكذا تجد للماوردي شخصيات علمية متعددة، وينبغي لمن يتحدث عنه أن يفرد كل شخصية بحديث خاص.
الماودري القاضي:
قال المترجمون للماوردي أنه أقضى القضاء، وأنه لقب بذلك اللقب سنة 429هـ، وأنه ولي القضاء في بلاد كثيرة، ولكنهم لم يذكروا لنا نادرة غريبة من نوادره في القضاء، كما ذكروا عن غيره، إلا أنهم ذكروا في ترجمته حادثة في الفتيا، تدل على حريته واستقلاله في الرأي، وهي فتيا تتصل ببعض كبار رجال الدولة في عصره، فقد أمر الخليفة أن يزاد في لقب جلال الدولة ابن بويه لقب شاهنشاه الأعظم ملك الملوك ـ وخطب له بذلك، فأفتى بعض الفقهاء بالمنع، وأنه لا يقال ملك الملوك إلا لله، وانحاز إليهم العامة، ورموا الخطباء بالطوب، وأفتى بعض الفقهاء بالجواز، على تأويل أن المراد بلقب ملك الملوك: ملك ملوك الأرض ـ والعبرة في ذلك بالقصد والنيِّة.
وكان ممّن أفتى بالمنع وشدّد فيه الماوردي، مع أنه كان صديقاً لجلال الدولة، ولما افتى بالمنع، انقطع عن جلال الدولة، فطلبه، وقال له: أنا أتحقق أنك لو حابيت أحداً لحابيتني لما بيني وبينك، وما حملك إلا الدين، فزاد بذلك محلك عندي.
الماوردي الدستوري القانوني:
لقد كان الماوردي ـ بلغة عصرنا ـ دستورياً بأوسع معاني الكلمة، وكان دستورياً إسلامياً، وإذا قلنا دستورياً إسلامياً، فمعنى ذلك أيضاً أنه قانوني بأوسع معاني الكلمة أيضاً، فالدستوري الإسلامي يستمد مادته من الشريعة الإسلامية، والشريعة تناولت كل ما تحتاج إليه الدولة في علاقتها بغيرها من الدول، أو علاقات رئيس الدولة بالمواطنين، أو علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وإذا تناول العالم هذه العلاقات بالتَّقنين والترتيب كان دستورياً وكان قانونياً، وهكذا كان الماوردي، فلقد تناول هذه العلاقات بالدراسة والتَّصنيف فكان نمطاً غريباً بين علماء الإسلام.
تناول هذه العلاقات في كتب أربعة، وهي: (الأحكام السلطانية) و(قانون الوزارة) و (السياسة والملك) و (تسهيل النظر وتعجيل الظفر)، ولم يصل إلى أيدي العلماء فيما نعلم إلا الأول، وضاع الآخرون فيما شاع من تراث الإسلام، ولم تبق إلا أسماؤها في كتب التراجم.
(الأحكام السلطانية)
وإذا كان الكتاب مرآة الكاتب، فالأحكام السلطانية بترتيبه وتقنينه وصياغته مرآة صافية لشخصية الماوردي الدستورية القانونية، فلقد كانت القواعد الإسلامية، الدستورية، والاقتصادية، والإدارية، والجنائية، والعسكرية، ممتزجة بغيرها، مبعثرة هنا وهناك، موزّعة قبله في أبواب كتب الفقه وفصولها فانتدب لها واستخلصها من مظانها، ووحّد موضوعاتها فجمع النظير إلى نظيره، والشبيه إلى شبيهه، وجعلها كتاباً موضوعياً خالصاً، يسهل على الولاة والمسؤولين سبيل الرجوع إليها، والبت في الأمور بدقة وسرعة، وفي ذلك يقول في خطبة ـ أي: المقدمة ـ كتاب الأحكام السلطانية: (ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها، مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتاباً امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته، ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه).
وقد سبق الماوردي بعض العلماء فألفوا في موضوعات خاصة من القانون، فألف الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة كتاباً في ناحية من نواحي الاقتصاد الإسلامي، وهو كتاب (الخراج) الذي تناول فيه حقوق الدولة في الأراضي المملوكة، ثم توسع بعده الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام فألف كتاباً شاملاً في النواحي الاقتصادية وهو كتاب (الأموال).
ولكن الماوردي كان أشمل نظراً وأعم موضوعاً، فتناول في كتابه ما سبق به، ثم ضم إليه كل ما تحتاج إليه الدولة في عصره، من القوانين الدستورية والاقتصادية والجنائية والعسكرية.
فقد تناول الماوردي في كتابه موضوع اختيار رئيس الدولة، وقواعد اختيار الوزراء، وفصَّل حقوقهم، وهذا مما يدخل الآن في القواعد الدستورية، ثم تناول اختيار أمراء الأجناد ونوابهم، ممّا يدخل في القوانين العسكرية، ثم تناول طرق تحصيل الأموال للدولة من فيء وغنيمة وجزية وغيرها ممّا يدخل في القوانين المالية، ثم تناول أحكام الجرائم والمظالم وغيرها، ممّا تتناوله القوانين الجنائية.
تناول الماوردي ذلك كله، وصاغه صياغة قانونيّة، ليس بينها وبين الصياغات القانونيّة الحديثة إلا الشكليات والاصطلاحات، كتسمية القاعدة مادة، والجملة منها فقرة، ونحو ذلك مما لا ينقص من حظ الكتاب وقيمته العلمية.
ولقد كانت طريقة تأليف الكتاب وترتيبه وصياغته، حدثاً غريباً في عالم التأليف في عصره، حتى قال ابن قاضي شهبة فيما نقله عنه ابن العماد في (الشذرات): (إنه تصنيف عجيب).
وأخذ ذلك الكتاب مكانه بين تراث الإسلام القانوني قروناً عديدة، وما زال مرجع المتحدثين في تاريخ التقنين الإسلامي في سائر فروعه، ويعتبر هذا الكتاب من وجهة نظرنا مرحلة هامة من مراحل التقنين الإسلامي الموضوعي والشكلي، وقد ترجم هذا الكتاب قديماً إلى اللغة الفرنسية، إذ كانت فرنسا من الأمم التي عرفت بالتخصص القانوني.
الماوردي الأديب:
ليس الماوردي في حاجة إلى دليل على أنه أديب بعد كتابيه ( أدب الدنيا والدين)، و(الأحكام السلطانية)، فما من أديب إلا وكان ( أدب الدنيا والدين) من مناهل أدبه، وما من واعظ إلا وكان عدّته وزاده، وعليه اعتماده، والكتاب في اختياره وصياغته آية من آيات التضلع في الأدب والحكمة، فقد جمع إلى حكمة العرب حكمة الهند، وآداب الفرس، وفلسفة اليونان، وإذا كان الماوردي نسيج وحده في تصنيف كتاب (الأحكام السلطانية ) على ما أشرنا، فهو نسيج وحده في تصنيف (أدب الدنيا والدين)، فقد صنف الأول ليكون دستور الحكام والأمراء والولاة، وصنف الثاني ليكون دستور المسلم في دينه ودنياه، وقد بناه على أساس أخلاقي، فأدار الحديث فيه على الفضائل، وما يقابلها من الرذائل، ليطمع المسلم في الأولى، ويكون على حذر من الثانية، فيسير في حياته على بصيرة تفضي به إلى سعادة الدنيا والآخرة، وتحدث عن الفضائل وأصولها في القرآن والسنة، وعن رسومها في فلسفة اليونان، وأدب الفرس والعرب، بما وسعته ثقافة عصره وثقافته، فكان الكتاب مزيجاً من الأخلاق والأدب والحكمة، أفرغ فيه الماوردي ثقافته الأدبية الخصبة التي ندر أن يتوافر مثلها لفقهاء الإسلام.
على أن (الأحكام السلطانية ) أيضاً آية من آيات الثقافة الأدبية للماوردي، فقد تناول ما أودعه فيه من الأحكام بأسلوب سهل، بعيد عن تعقيدات المصنفات الفقهية، ولا يعسر على الدارس المتوسط تفهمه، والإفادة منه، ورصعه في بعض المواضع بفرائد من الشعر والمثل والحكمة، لينسى القارئ أنه يقرأ في كتاب فقه أو قانون.
وقال المترجمون للماوردي: أنه شاعر ولكنهم لم يذكروا من شعره إلا بيتين لم يقطع المترجمون بنسبتهما إليه، فقد قال صاحب "معجم الأدباء": قرأت في كتاب "سر السرور" لمحمود النيسابوري هذا البيتين منسوبين للماوردي:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله=وأجسادهم دون القبور قبور
وإن امرؤ لم يحي بالعلم صدره=فليس له حتى النشور نشور
مع أن الماوردي ذكره في كتاب (أدب الدنيا والدين ) بعنوان: و أنشدت لبعض أهل هذا العصر.
أسلوب الماوردي:
وإذا صح أن نتّخذ من كتابي: (أدب الدنيا والدين) و(الأحكام السلطانية) نموذجاً لثقافة الماوردي الأدبية، وأسلوبه في الكتابة، حكمنا بأن الماوردي قد تشبّع بثقافة عصره الأدبية، عربية كانت أم غير عربية، ووعاها، وحفظ كثيراً منها، وكان ينفق منها متى أراد، ويستشهد بها في مواطن الاستشهاد شعراً ونثراً، وحكمةً ومثلاً، وحكمنا بأن أسلوبه الكتابي من الأساليب الأدبية المسجوعة على المعتاد من الأساليب في ذلك العصر، مع مراعاة حق المعنى، على أنه كان يترسل أحياناً.
 وهاك نموذجاً من كتابه في (أدب الدنيا والدين) عن سلطان الهوى على النفوس: (ولما كان الهوى غالباً ،وإلى سبيل المهالك مورداً، جعل العقل عليه رقيباً مجاهداً ،يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع بادرة سطوته، ويدفع خداع حيلته، لأن سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتي العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه، أعني بأحد الوجهين قوي سلطانه وبالآخر خفاء مكره، فأما الوجه الأول فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه، حتى تستولي عليه مغالبة الهوى والشهوات، فيكَلّ العقل عن دفعها، ويضعف عن منعها، مع وضوح قبحها في العقل المقهور بها، وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب، لقوة شهواتهم وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم، وأنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم كما قال محمد بن بشير:
كل يرى أن الشباب له =في كل مبلغ لذة عذر)
وللماوردي رأي في الأدب، وهو أنه يتغيّر بتغيّر الأحوال، وتنقل العادات، وأن لكل عصر أسلوباً في الأدب خاصاً به يكون أوقع في النفوس، وأسبق إلى الأفهام.
 ويقول في ذلك في "أدب الدنيا والدين": (إن لأهل كل وقت في الكلام عادة تؤْلف، وعبارة تُعرف، ليكون أوقع في النفوس، وأسبق إلى الأفهام، وله حكمه في استصفاء الأدب، وقبول بعضه، ورفض بعض).
الماوردي الفقيه:الماوردي الفقيه:

احتل الماوردي مكاناً بارزاً بين فقهاء الشافعية، وتردد اسمه، وشاعت أقواله في المراجع الكبرى من كتب الشافعية، وقد قال الخطيب عنه: (كان ثقة من وجوه الفقهاء الشافعية، وله في الفقه كتابا "الحاوي" و"الإقناع"، ولا يخطئ من يعد كتاب "الأحكام السلطانية " كتاباً من كتب الفقه، حيث عالج ناحية خاصة منه، وهي الأحكام المتعلقة بنظم الحكم والإدارة والاقتصاد الإسلامي، وكتابه "الحاوي" من أشهر كتب الفقه، وهو من أكبر الكتب وأشهر المراجع المعتبرة في المذهب، قال في "كشف الظنون": إنه كتاب عظيم يقع في عشر مجلدات، ويقال: إنه لم يؤلف مثل. وقال العلامة الإسنوي: لم يصنف مثله، وقال ابن خلكان: لم يطالعه أحد إلا وشهد له بالتبحر والمعرفة التامّة بالمذهب.
وكتاب "الإقناع" كتاب مختصر في الأحكام المجردة عن الأدلة، قال الإسنوي عنه: يشتمل على غرائب، وقد نقل ابن السبكي في طبقاته مختارات من فوائده الفقهية في كتابيه الحاوي والأحكام السلطانية،، ولشهرة كتاب الحاوي عرف به الماوردي فقيل عنه: إنه صاحب كتاب "الحاوي".
وقد نقل ابن السبكي في طبقاته مختارات من فوائده الفقهية من كتابيه الحاوي والأحكام السلطانية، ولشهرة كتاب الحاوي عرف به، فقيل عنه: إنه صاحب كتاب (الحاوي) وفي المكتبات مخطوطات من كتاب الحاوي، وأجزاء متفرقة منه، وهو ثروة فقهية عسى أن يقيض الله لها من يعمل على نشرها من القادرين على ذلك من أصحاب الرأي والقيادة في الأمم الإسلامية، وإنها لخدمة إسلامية ستظل ذكراها باقية مقرونة بالدعاء والثناء ما بقي الفقه الشافعي بل ما بقي الإسلام.
الماوردي المربي:
قبل أن أتكلم عن الماوردي كعالم من علماء التربية يحسن أن أشير إلى معنى التربية عند علماء التربية الإسلامية... فهي عند هؤلاء ما يشمل تثقيف الذهن بالعلوم والمعارف، وتزكية النفس بالآداب والفضائل، فهي تربية لسعادة الدنيا والآخرة، وقد ألحّ علماء التربية الإسلاميون في أن تسير الترتيبات جنباً إلى جنب لأن الإخلال بإحداهما إخلال ببناء الشخصية الإسلامية الكاملة، فالعلم بلا خلق جهل أو كالجهل، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بنفسه وبرأيه، أو يتكثّر بعلمه، والخلق بلا علم إجْحاف بالعقل، وإهدار لمواهب الإنسان.
ولقد تحدث الماوردي في التربية بمعناها الواسع، ولم يكن حديثه في كثير من مسائلها حديث الراوي والحافظ والمقلد، ولكن كان حديثه حديث الملاحظ والمجرب والمبتكر، فقد مارس مهنة التعليم، وعانى رياضة المتعلمين، ودرس طبائعهم وأمزجتهم، وتفطَّن إلى تفاوت مواهبهم، واختلاف درجاتهم في الذكاء والاستعداد والتلقِّي، وخرج من تجاربه بنتائج في التربية، تكاد تكون خلاصة لما اتفق عليه علماء التربية من القواعد: قديماً وحديثاً، أودعها كتابه "أدب الدنيا والدين".
ولا ندري لماذا أهمل الكاتبون الماوردي كعالم من علماء التربية، حين تحدثوا عن علماء التربية الإسلامية، ورأيناهم جميعاً حين تصدوا للحديث في التربية تخطّوه إلى من بعده بنصف قرن أو قرون، فتحدثوا عن الغزالي، وهو بعده بنصف قرن، وعن ابن جماعة، وابن خلدون، وهما بعده بحوالي ثلاثة قرون، ويأخذ اللاحق من الكتاب عن السابق، ولا يتنبه أحد منهم إلى مكان الماوردي في تاريخ التربية، وهو أولى بأن يحتل مكان الصدارة في هذا التاريخ، فهو أسبق من الغزالي وابن خلدون وغيرهما، وأدق حديثاً منهما في مسائل التربية، فله فضل السبق والابتكار، وإذا أمعنّا النظر فيما كتبه هؤلاء، مما اتفقوا فيه مع الماوردي من مسائل التربية، وجدناهم قد ساروا على خطاه، واقتفوا آثاره في كثير مما عالجوه منها، وللمقارنة بينهم وبينه مجال فسيح، وهاك شيئاً مما سجله الماوردي في "أدب الدنيا والدين" من مسائل التربية.
1 ـ العلوم شريفة، ولكل منها فضيلة، والإحاطة بجميعها محال، والمتعمق في العلم كالسابح في البحر ليس يرى أرضاً ولا يعرف طولاً ولا عرضاً.
2 ـ إذا لم يكن إلى معرفة جميع العلوم سبيل، وجب صرف الاهتمام إلى معرفة أهمها، والعناية بأولاها وأفضلها.
3 ـ لكل علم أثر في النفس، فمن تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تعلم الفقه نبل مقداره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم اللغة رق طبعه.
4 ـ ينبغي ألا يمنع كبر السن من التعلم استحياء، لأن العلم إذا كان فضيلة، فرغبة ذوي الأسنان فيه أولى، والابتداء بالفضيلة فضيلة، ولأن يكون شيخاً متعلماً، أولى من أن يكون شيخاً جاهلاً، والجهل بالكبير أقبح ونقصه عليه أفضح.
5 ـ ينبغي على الإنسان أن يجعل للعلم حظاً من زمانه، فليس كل الزمان زمان اكتساب، ولابد للمكتسب من أوقات استراحة، وأيام عطلة، ومن صرف كل نفسه إلى الكسب، حتى لم يترك لها فراغاً، فهو من عبيد الدنيا وأُسراء الحرص.
6 ـ ليس الكبير أقل استعداداً للتعلم من الصغير، ولكن شواغله أكثر تستوعب زمانه، وتستنقذ أيامه، والصغير أفرغ قلباً، وأقل شغلاً، وأكثر تواضعاً.
7 ـ يجب أن يتجنب المتعلم الحفظ دون فهم للمعنى، حتى لا يروي بغير روية، ولا يخبر عن غير خبرة، فيكون كالكتاب الذي لا يدفع شبهة، ولا يؤيد حجة. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (كونوا للعلم رعاة، ولا تكونوا له رواة، فقد يرعوي من لا يروي، ويروي من لا يرعوي).
8 ـ ينبغي ألا يكتفي العالم بما تعلم، بل عليه أن يزداد منه، وليكن مستقلاً للفضيلة منه، ليزداد منها، ومستكثراً للنقيصة فيه، لينتهي عنها، ولا يقنع من العلم بما أدرك، لأن القناعة فيه زهد، والزهد فيه ترك، والترك له جهل.
9 ـ على العالم أن يرفق بالمتعلمين ولا يعنفهم ولا يحقرهم،ويبذل النصح لهم، فإن ذلك أدعى إليه وأعطف عليه، وأحث على الرغبة فيما لديه. وفي الآثار: علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المصنف.
هذه بعض المسائل التربية التي تحدث فيها الماوردي، فماذا كان موقف علماء التربية الإسلامية ؟ إن بعضهم اقتبس منه، وأشار إلى ذلك، عملاً بالأمانة العلمية، واعترافاً بالفضل لأهله، وبعضهم اقتبس منه، وتغافل عن فضله عليه.
والباحث في تاريخ التربية، والمتتبّع لجهود علمائها بإنصاف، يعرف إلى أي مدى كان فضل الماوردي في بناء علم التربية، ويعرف إلى أي مدى كان جحود الكاتبين في تاريخها لفضل الماوردي.
الماوردي الأخلاقي:
تكلم الماوردي في مسائل في التربية، جعلته يأخذ مكانه بين علمائها، كما أشرنا وتكلم في مسائل من علم الأخلاق، تجعله في الصدارة بين علماء الأخلاق الإسلاميين، وحين يتكلم عن الأخلاق يجعل من وكده أن يجمع وينسق، ولكنه يأخذ نفسه بتحليل السلوك الإنساني خيره وشره، ويربطه بأصوله في مغارس النفوس الإنسانية، وهو حين يتكلم عن مسائل الأخلاق، يستعين في مادته وتوضيح آرائه بما ورد في القرآن والسنة، وبما ورد عن علماء العرب والفرس واليونان، حتى إنه ليدهشك كيف تجمع للماوردي هذا المعين الثقافي المختلف المصادر في مادتي التربية والأخلاق.
 والتربية والأخلاق صنوان، فالتربية تهذيب للسلوك بالمجاهدة والرياضة، وإني أستميح القارئ عذراً إن أطلت في الاقتباس بعض الإطالة لأن توضيح آراء الماوردي الأخلاقية يستدعي ذلك.
من القواعد الأخلاقية عند الماوردي: أن للهوى سلطاناً على النفوس، وآثاراً تنعكس على السلوك، ويقول في ذلك: وأما الهوى، فهو عن الخير صادّ، وللعقل مضاد، لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مهتوكاً، ومدخل الشر مسلوكاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طاعة الشهوة داء، وعصيانها دواء) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (الهوى إله يعبد من دون الله، ثم تلا قوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ{الجاثية:23}.
وعلاج تسلط الهوى عند الماوردي يكون عن طريق التفكير في مساوئ آثاره، وما يستجره من الآثام والمغارم، ويقول في ذلك: وحسم ذلك ـ أي: ما يقود إليه من المكاره ـ أن يستعين العقل بالنفس النفور، فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر، وقبح الأشر، وكثرة الإجرام، وتراكم الآثام، قال العباس بن عبد المطلب: إذا اشتبه عليك أمران فدع أحبهما إليك وخذ أثقلهما عليك.
وعلة هذا القول هو أن الثقيل تبطئ النفس عن التسرع إليه، فيصح مع الإبطاء، وتطاول الزمان صواب ما استعجم.
ومن القواعد الأخلاقية عند الماوردي: أن صلاح الجماعة يكون بصلاح الفرد، وفسادها بفساده، وكذلك العكس أي أن صلاح الفرد يكون بصلاح الجماعة وفسادها بفسادها: لأنهما مرتبطان ومتفاعلان، يؤثر أحدهما في الآخر، ويتأثر به، ويقول في تقرير ذلك: لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلال أمورها، لن يدعم أن يتعدى إليه فسادها، ويقدح فيه اختلالها، لأنه منها يستمد، ولها يستعد، ومن فسدت حاله مع صلاح الدنيا وانتظام أمورها لم يجد لصلاحها لذة ولا لاستقامتها أثر، لأن الإنسان دنيا نفسه، فليس يرى الصلاح إلا إذا صلحت له، ولا يجد الفساد إلا إذا فسدت عليه، لأن نفسه أخص، وما له أمر، فصار نظره إلى ما يخصه مصروفاً، وفكره على ما يمسه موقوفاً، وصلاح الدنيا مصلح لسائر أهلها لوفور أماناتهم، وظهور دياناتهم، وفسادها مفسد لسائر أهلها، لقلة أماناتهم، وضعف دياناتهم، وقد وجد ذلك في مشاهد الحال تجربة وعرفاً، كما يقتضيه دليل الحال تعليلاً وكشفاً، فلا شيء أنفع من حلاصها كما لا شيء أضر من فسادها.
ذلك ما قاله الماوردي عن ارتباط الفرد بالجماعة، وارتباط الجماعة بالفرد، وقد أعقب ذلك ببيان ما يصلح كلاً منهما وما يفسده في تحليل نفسي،وتعليل منطقي، يشدّ القارئ إلى تتبعه واستبانة ما فيه من عمق وأصاله.

أخلاق الماوردي:
لم يعن المترجمون بالكلام عن أخلاق الماوردي، وفي سيرته وتراثه ما يعين على التعرف إليها، ففي فتواه التي أشرنا إليها ضد جلال الدولة وفي مواقفه من المعتزلة، وفي وصيته للعلماء بتجنب الرياء والعجب، في كل ذلك ما يدل على شجاعته وحرية رأيه، وخشيته من الله تعالى، وتواضعه وبغضه للرياء، فكان شديد المحبة والتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يراه في المنام، وكأنما يستوضحه بعض الأمور.
قال في " أدب الدنيا والدين": رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ذات ليلة فقلت: يا رسول الله، أوصني فقال: استحيي من الله عزَّ وجل حق الحياء، ثم قال: تغير الناس، قلت: وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال كنت أنظر إلى الصبي فأرى من وجهه البشر والحياء، وأنا أنظر إليه اليوم فلا أرى ذلك في وجهه، ثم تكلم بعد ذلك بوصايا وعظات تصورتها، وأذهلني السرور عن حفظهما، ووددت لو أني حفظتها، فلم يبدأ بشيء صلى الله عليه وسلم قبل الوصية بالحياء، على أن صاحب "معجم الأدباء" قال: لم أر أوقر منه، ولم أسمع منه مضحكة قط، ولا رأيت ذراعه منذ صحبته  إلى أن فارق الدنيا.
هل كان الماوردي معتزلياً:
في تاريخ الماوردي نقطة هامة لها تقديرها في تاريخ العلماء الإسلاميين الأقدمين، ولها أثرها في توثيقهم والتلقي عنهم، والإفادة منهم أو تضعيفهم والإغضاء عنهم، وهي سنية العالم أو اعتزاليته ـ وهي هل كان معتزلياً أو سنياً؟
ذكر ابن العماد في "الشذرات" نقلاً عن ابن الصلاح، أنه اتهم بالاعتزال في بعض المسائل بحسب ما فهم عنه في تفسيره في مواقفه المعتزلة فيها، ولا يوافقهم في جميع أصولهم، ومما خالفهم فيه أن الجنة مخلوقة، نعم يوافقهم في القول في القدر، وهي بلية على البصريين.