شكراً تركيا.. النموذج الحضاري الإسلامي المعاصر

 

انتهى مؤتمر " شكرا تركيا "، والذى اختتم بحشد كبير كتب فيه الآلاف من الجاليات العربية بأجسادهم "شكرا تركيا " ، اعترافا بفضلها ، لما لها من جهود ومواقف إنسانية لا تدانيها فيها دولة أخرى، فى إيواء المشردين، ونجدة الملهوفين ،والدفاع عن قضايا المستضعفين ، حتى أضحت الوجهة الآمنة للمضطهدين والملاذ الآمن للمضيومين ، حيث استقبلت عدة ملايين من الفارين من الحروب ، والملاحقين من الأنظمة المستبدة ، ولو فعلت دولة أوربية عشر ما فعلته تركيا لتغنت بذلك إلى الأبد ، ولقلدت وسام الحرية وحقوق الإنسان .

 

وكل هذا حق تحمد عليه ، وتشكر لأجله ، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله .

 

لكنى أشكر تركيا من زاوية أخرى ، أشكرها من حيث مثلت نموذجا حضاريا للمشروع الإسلامى المعاصر فى ضوء الممكن والمتاح والمستطاع الذى يوجه إليه قوله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " التغابن 16، فأحسنت وأجادت، ووضعت حدا للذين كانوا يتهكمون على أصحاب المشروع الإسلامى من قبل ، وكانوا يقولون : أى مشروع إسلامى تريدون : مشروع إيران ، أم مشروع أفغانستان ؟. ولم يكن أمامنا مشروع قائم يمثل الفكرة الإسلامية الإصلاحية لنرد به على هؤلاء المتعالمين ، وكان العلماء يكتفون بالرد عليهم نظريا ، ويتحدثون عن صورة الإسلام التى ننشدها ، متجنبين السلبيات التى وقعت فيها التجارب السابقة .

 

فلما قام المشروع الحضارى الإسلامى التركى نستطيع أن نقول بكثير من الاطمئنان : هذا تطبيق أمين ، وترجمة صادقة للمشروع الإسلامى المعاصر ؛ فهل حقا كنتم أيها الكارهون للمشروع الإسلامى تفتقدون هذه الصورة ؟ أم أنها كانت تكأة لتشويه صورة الإسلام والمنادين بمشروعه الحضارى ؟ وهل سترفعون القبعة احتراما لهذا النموذج الحضارى ؟ أم أنكم ستناصبونه العداء .؟

 

حكومة تركيا التى تمثلت قيم الإسلام وحضارته ومعالمه ، تركت الشعارات والأقوال ، وعملت فى صمت ، وتركت إنجازاتها تتحدث عنها ، وضربت مثلا للنموذج الحضارى الإسلامى الذى يرتقى بالشعوب، وينهض بالبلاد، ويحترم العهود والمواثيق، ويحافظ على الحريات . وسيشهد التاريخ أن حكومة الإسلاميين فى تركيا واجهت معارضيها بخراطيم المياه ، ولم تقصفهم بطائرات الميغ ، ولا ببراميل الموت والدمار .

 

هذا النموذج الناجح أزعج الغرب ، فهم لا يريدون نموذجا ناجحا لتطبيق الإسلام ، يغرى الآخرين ، ويقنع الشعوب بعظمة الإسلام وقدرة أبنائه على بناء حضارة ونهضة تقوم على دعائم هذا الدين، وإنما الذى يروق لهم أن يصدروه للعالم عن الإسلام من خلال آلتهم الإعلامية القوية، صورة داعش، والإرهاب، وتسليط الضوء على قسوة العقوبات فى الإسلام ، وإبرازها فى صورة الوحشية والهمجية .

 

وقد وقفت على تقرير يبرز إنجازات حكومة تركيا خلال عشر سنوات فى عام 2013، سأقتبس منه ما يفى بالغرض ،وآثرت أن أدع الإحصارات والأرقام تتحدث عن التطور الهائل الذى حدث ، حتى نتبين الطفرة التى شهدتها تركيا الحديثة ، ومدى تحقيق حكومة تركيا لمقاصد الحق ، ومصالح الخلق من الحرية والعدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان وتشييد أعمدة النهضة الاقتصادية والعلمية والصحية والعسكرية ، فى الوقت الذى يتهم فيه بعض الإسلاميين أردغان بالعلمانية ، وأنه لم يأخذ على عاتقه تطبيق الشريعة الإسلامية ، ولم يع هؤلاء أن تطبيق الشريعة إنما هو مضامين لا عناوين ، وتطبيقات لا شعارات ، والعبرة للمقاصد والمعانى لا للألفاظ والمبانى ، وهل هؤلاء عمريون أكثر من عمر حين قبل أن يأخذ الجزية من نصارى تغلب باسم الصدقة ، حين استنكفوا أن يأخذها منهم باسم الجزية .

 

ففى مجال الاقتصاد تمكنت حكومة الإسلاميين الأتراك من تحويل تركيا من دولة فقيرة تعيش تحت وطأة الديون , إلى واحدة من أقوي 11 اقتصاد في العالم .

 

وسدّدت عجز الميزانية البالغ 47 مليارا، وكانت آخر دفعة للديون التركية 300 مليون دولارا ، تم تسديدها في يونيو 2013 للبنك الدولي ، بل وصل الأمر أن أقرضت تركيا البنك الدولى 5 مليارات، إضافة إلى وضع 100 مليار في الخزينة العامة .

 

و كان دخل الفرد في تركيا 3500 دولار سنوياً فارتفع عام 2013 إلى 11 ألف دولار ! وهو أعلى من نسبة دخل المواطن الفرنسي، ورفعت قيمة العملة التركية إلى 30 ضعف، وارتفعت الرواتب والأجور بنسبة 300% ، وانخفضت نسبة البطالة من 38% إلى 2 % .

 

وفى مجال التجارة أصبحت صادراتها 153 مليار بعد أن كانت 23 مليار، وتحتل السيارات المركز الأول، تليها الإلكترونيات .

 

وتبنّت الحكومة عملية تدوير القمامة لاستخراج الطاقة وتوليد الكهرباء ؛ ليستفيد منها ثلث سكان تركيا ، وقد وصلت الكهرباء إلى 98%من منازل الأتراك في المدن والأرياف ، وزرعت مليارين و 770 مليون شجرة مثمرة .

 

وفى مجال الدفاع صنعت تركيا ولأول مرة في عهد حكومة مدنية ، أول دبابة مصفحة، وأول ناقلة جوية، وأول طائرة بدون طيار، وأول قمر صناعي عسكري حديث متعدد المهام ، فى الوقت الذى كانت فيه إنجازات حكومات عسكرية فى المنطقة العربية إنتاج المكرونة والصلصة والكفتة والبيض .

 

وفى مجال التعليم ، بنت حكومة تركيا 125 جامعة جديدة ، و 189 مدرسة ، و 169 ألف فصل دراسي حديث حتى لا يتجاوز عدد الطلاب بالفصل 21 طالبا، وفاقت ميزانية التعليم والصحة ميزانية الدفاع .

 

وعندما رفعت الجامعات الأمريكية والأوروبية الرسوم الجامعية إثر الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت أوروبا وأمريكا ، أصدرت الحكومة التركية مرسوماً يجعل الدراسة في كل الجامعات والمدارس التركية مجانية وعلى نفقة الدولة . 

وفى مجال الصحة أنشأت 510 مستشفى جديدة ، وأولت العناية الصحية اهتماما كبيرا .

 

وفي مجال البحث العلمى، تمّ إنشاء 35 ألف قاعة مختبر لتكنولوجيا المعلومات، وقواعد بيانية حديثة يتدرب الشباب الأتراك فيها، وتعمل الدولة جاهدة لتفريغ 300 ألف عالم للبحث العلمي للوصول إلى عام 2023، وهو العام الذي حدده أردوغان لتصبح تركيا القوة الاقتصادية والسياسية الأولى في العالم .

 

يبقى أن أقول : إن هذه الحكومة التى يتهمها البعض بالعلمانية أعادت تدريس القرآن والحديث النبوي إلى المدارس الحكومية بعد تسعة عقود من الحكم العلماني، وأقرت قانون حرية ارتداء الحجاب في الجامعات الحكومية ودار القضاء ،وهى التى أجبرت إسرائيل على الاعتذار عن ضربها لسفينة مرمرة التي كانت متوجهة إلى غزة، واشترطت لقبول الاعتذار رفع الحصار عن غزة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين