شرح دعوة الشيخ محمد إلياس ومبادئه (3)

شرح دعوة الشيخ محمد إلياس ومبادئه

بقلم الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله.[1] (3/3)

 

الطريق العامة للعلم والذكر:

ولقد تكررت كلمة الذكر والعلم في بيان مبادئ هذه الحركة وأركانها، وكان الشيخ يدعو للمسلمين إليها دعوة عامّة ويوصيهم بهما، وكان له تحقيق واصطلاح في ذلك ومعنى خاصّ لهما وفق ذلك، فالحاجة إلى شرح الكلمتين شرحاً مستقلاً، لأنّ ذلك باب مهمّ من أبواب الدعوة الإصلاحية والتجديدية التي أنشأها الشيخ، لقد شاع منذ مدة كلمتان في الهند وفي العالم الإسلامي كله وهما العلم والذكر ولهما طريقان، فللذكر أوراد مستقلة ووظائف معينة، وللعلم نظام معيّن ومقررات دراسية ومدارس مستقلة، ويحتاج طلب العلم إلى بذل مدة لا بأس بها وفق هذا النظام، وبالتدريج انحصر العلم والذكر في هذا النطاق وبدأ الناس يحسبون أنه لا سبيل إلى اكتسابهما إلاّ باتباع نظام كلّ منهما، وأصبح الخروج عنهما ونيل العلم بغير ذلك مستبعداً كأنه خارق للعادة ، ومن مكارم الشيخ التجديدية وحسنات حركته الدعوية أنه ركز فب عقول الناس أنّ هذا النظام وإن كان لا بدّ منه لاكتساب العلم في عامة الأحوال ولكنه قسم خاصّ لا يستفيد منه إلاّ الخاصة من الناس، وبذلك يمكن لهم أن يرووا غليلهم ولكن لا يمكن الاستفادة منه لعامة الناس بل يحرم السواد الأعظم من الأمة عن منافع العلم وبركاته وخيراته في هذا المنهج الخاصّ من العلم، والمنهج الطبيعيّ والطريق الحقيقي لاكتساب العلم في حقّ العامة إنما هو الذي كان سائداً في القرن الأول.

إنّ الشيخ رحمه الله كان قد قام بدراسة حياة المسلمين في القرن الأول دراسة إمعان وتدقيق، ولم يزل دائباً إلى آخر حياته على أن يستمع سير الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين واخبارهم من أحد يتلوها عليه من أحد كتب التراجم والرجال، فأصبح ذا نظرة واسعة على خصائص الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ومزاياهم، وعلى أجزاء عدة وجوانب مختلفة من حياته حتى أننا لم نشاهد من يعادله في ذلك، وكان جلّ همه إنما هو إحياء أنماط تلك الحياة التي عاشها أهل المدينة في القرن الأول ومنهج العلم والذكر القديم ذلك، وكان يرى عن الذكر أنّ التغافل عنه كلّياً وإن كان حراماً إلاّ أنه ليس محصوراً في القسمين منه، وهما الذكر باللسان والذكر بالقلب، بل يشمل جميع أعمال الحياة وأشغالها مع الالتزام بما ورد لكلّ منهما من حكم شرعيّ، ولو فعلنا ذلك فعسى أن يغير ذلك الكثير من مناهج حياتنا الخاطئة، ثمّ لا بدّ من يركز جلّ عناياتنا بإحياء صفة الإيمان والاحتساب فإنه لا يحتاج مجتمعنا إلى العبادات  ـ التي هي بعدد كبير ـ أكثر مما يحتاج إلى الاحتساب والإيمان، كما أنه يرى الحاجة ماسّة إلى ضمّ القسمين من الذكر اللساني والقلبي إلى السعي للدين والمحاولة لأجله، وعلى هذا كان عمل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أنهم كانوا يضمون الذكر إلى دعوتهم للدين والجهاد والسعي لإعلاء كلمة الله، وينبغي أن يكون كذلك في هذا العصر، يقول في رسالة له إلى أحد "عليك بالمواظبة على هذا العمل والدوام عليه مع الإكثار من الدعوات في السجود والاشتغال بالذكر علماً بأنه أقوى وأسهل وسيلة للتقرب إلى الله وابتغاء رضوانه".

وكذلك يؤكد الجميع على هذا حتى يلتزموا به، والإكثار من الدعاء والذكر إنما هو روح هذه الدعوة، ويقول لأحد عماله " لا بدّ أن تشتغل بالذكر عند ما تكون في الخلأ والدعوة إلى الحق مع مراعاة عظمة الله الجليلة عندما تكون في الملأ، ولا تعش تعبان متكاسلاً مضمحلاًّ، فإنّ الله عزوجلّ يحبّ الرجل القويّ النشيط المنتعش والذي يمشي فرحان جذلاً، كما أنّ الله يحبّ من همّه الآخرة، فإنّ النبيّ عليه السلام كان دائم الفكر متواصل الأحزان".

ويقول في خطاب آخر: "لا بدّ من أن تعرف وتكون على علم بما ورد من فضائل لكلّ وقت وما هي مكانتها وعظمتها ومحارمها، واقض تلك الأوقات مشتغلاً معتقداً بفضائلها، فذلك هو طريقة هذه الدعوة، فلكلّ وقت فضائل عدة ولكلّ لحظة بركات وأنوار وردت في الأحاديث، ويكفي لنا نحن ـ عامة الناس ـ أن نطلب من الله عزوجلّ عند كلّ صلاة فريضة أن لا يحرمنا ما لهذا الوقت من أنوار وبركات، بل يرزقنا منه نصيباً.

كما كان يرى عن العلم أنّ تحديد العلم في المدارس والكتب إنما هي طريقة عمل القرون المتأخرة، وبذلك يحرم الجزء الأكبر من الأمة من العلم، فلا يكاد ينتفع عن هذا الطريق الخاصّة بالدين إلاّ جزء قليل من الأمّة ومعظمها لا يتعلم إلاّ بالفكر والنظر لا بالعمل، أمّا المنهج الحقيقي والطبيعي لذلك الذي يكاد يكتسب به الملايين من الناس في وقت واحد لا علم الدين فحسب بل حتى نفس الدين إنما هو صحبة العلماء والاحتكاك بهم وزيارة المشائخ الربانيين ومرافقتهم في السعي والعمل والخروج عن البيئة التي يعيش فيها الطالب، فكما أنّ اللغة والحضارة والمدنية لا تكاد تحصل لأحد إلاّ باحتكاك أهلها ومصاحبة رجالها، وذلك هو الوسيلة الطبيعية لتعلمها، كذلك يتمّ حصول العلم وكماله بالاجتماع بأهل الدين والتمسك بذيلهم ومجالستهم ومصاحبتهم فذلك هو الطريق الطبيعي لحصوله، لأنّ بعض أجزاءه مما لا يكاد يحيط بوصفه ريشة قلم، فإنّ الدين هو الشيء الحيّ المتحرك لا الجامد المتحجر مثل النقوش الكتابية، والمحاولة لاكتساب المتحرك من الجامد تخالف الفطرة، وهناك أجزاء للدين تتعلق بالجوارح وهي لا يمكن حصولها إلاّ بحركة تلك الجوارح، ومنها ما يتعلق بالقلب ولا يمكن انتقاله من قلب إلى قلب، أمّا ما يتعلق منها بالذهن فهو الذي يمكن حصوله بالكتب، وقد شرح الشيخ  هذه الفكرة قائلاً "إنّ لكلّ عضو من أعضاء الإنسان وظيفة تخصه دون غيره، فالإنسان يستعمل العين للنظر وهي مضطرة على عملها، كذلك الشعور بالبيئة وما هو خارجها هو عمل القلب، فالقلب يشعر بشيء والذهن والفكر يؤكده ويطالب به، فالدماغ والفكر طوع أمر القلب، وينشأ الشعور والإحساس في القلب في بيئة، والذي ينفث الدماغ هو العلم، والذهن والفكر يكتسب العلم عندما يحسّ قلبه بإحساس صحيح، ولا يحصل ذلك بالنقوش الكتابية الجامدة وصحبتها، بل يتمّ بالعمل، ولا يعني ذلك أنّ تغلق المدارس ولكنها لتكميل العلم والدراسة لا للبدء في العلم".

وإنّ هذا تحولاً علميا عميقاً مؤيداً بالبراهين ينبغي للعلماء المحققين أن يتناولوه بالبحث والتحقيق والتدقيق، وهذا الجزء التعليمي لدعوة الشيخ رأي حصيف وفكرة سديدة للتعليم، يمكن أن تحدث انقلاباً، فعلى رجال التعليم من معاهدنا العلمية أن ينظروا في هذه الوجهة الفكرية بكلّ جدّ واهتمام، وكان عليهم أن يستفيدوا من هذا الرأي الحصيف ولكنّ هذه الفكرة كانت أقلّ نصيباً مما نال من أراء الشيخ رواجاً وانتشاراً. أمّا الشرط الثاني للرقيّ في العلم عند الشيخ فكان قوله هذا: "اعلموا أنه لا ينال عالم درجة في العلم ورقيّاً ملموساً فيه ما لم تبلغ ما تعلمه إلى الآخرين الذين لا يعلمون ذلك، وهو أقلّ علماً منك، ولا سيّما إلى أولئك الذين قد بلغوا حدّ الكفر، ورأيي وقولي هذا مستفاد من الحديث النبوي الشريف "من لا يرحم لا يرحم"، فتبليغ العلم إلى كلّ من بلغ حدّ الكفر فريضة من فرائض الدين وتكميل للعلم، وشفاء المرض هو تبليغ العلم إلى الجهلة من المسلمين، وكان الشيخ قد أدرك بفطنته وذكاءه أنّ لكلّ عصر فتنة تخصه وفتنة هذا العصر إنما هي القناعة في الدين والسكون في ذلك والانهماك في ملذات الدنيا والاستغراق فيها والانقطاع إليها بالكلّية، والذي لم يترك فرصة في الحياة ومكاناً للدين، فهذه العلائق والأشغال في هذا العصر أرباب من دون الله وأصنام جديدة لا تسمح لأحد بالتوجه إلى غيرها، وقد دعا بكلّ صراحة وقوة أنّ الحاجة ماسّة إلى التحرر من ربقة هذه الأوثان والخروج من الجوّ الذي يعيش فيه لمدة لتعليم الدين ويجذب في نفسه تأثيراته، وإنّ هذه العلائق والأشغال قد اتصلت بالقلب وعلقت به، وبلغت مبلغه، وسدّت له كلّ طريق حتى أنّ حقائق الإيمان وتأثيرات الأعمال لا تكاد تجد أصغر منفذ للدخول إليه، ولا يعود بعد مخالطته بظاهره.

وكان الشيخ يرى أنّ الحاجة ماسّة إلى توفير فرصة وتفريغ وقت من أوقاته من خضمّ أشغاله ليتعلم الدين كلّ طبقة من طبقات المسلمين، وينشأ فيهم الدين ويجد حياة ونشاطاً في حياتهم، والذين هم أهل الدين والعلم يرتفعون فيها درجات بذلك.

واكتساب علم الدين وتوثيق صلته بالشريعة هو أهمّ جزء من أجزاء حياة المسلمين، وبدون ذلك تخالف حياتهم الشكل الذي بنيت عليه، فالاقتصار على الأكل والشرب والاكتساب والتغافل عن الدين وجهله به ليست في الحقيقة من حياة المسلمين، كما أنّ حياتهم لا تخلو من السعي الحثيث والجهد الجهيد للدين وإعلاء كلمته، بل لا بدّ أن لا يكون هناك حظ أو نصيب من ذلك في حياته، يسعى له ويعمل ويجد ويجتهد، فالصحابة رضي الله عنهم كانت حياتهم جامعة لهذه الأشغال والأعمال الأربعة، التعليم والذكر وخدمة الدين والتبليغ، والآن قد أحاط المعاش والكسب بجميع الحياة، وحلّ محلّ البقية الثلاثة حتى لم يبق مكان في الحياة لشيء آخر.

ولكن لا يصلح هذه الظروف والأحوال الدعوة إلى الانقطاع إلى الأعمال البقية دون المعاش والإعراض عنه كلّياً، وأن تقف حياته كلّها لنشر الدين، بل الطريق الأصحّ والأقوم هو أن نهتمّ بإحياء حياة الصحابة الكرام، فإنه هو الأجدر بالتأسي بأسوته، ولا نضطرهم إلى ترك جميع الأشغال، والسعي لأن يكون أكثر إفادة واكتساب نتائج منها حتى مقاصد تعاليم الدين، وصورة ذلك أن يبذل وقت عند من هم أهل العلم ومن يحتاجون إلى ذلك فنتعلم منهم ونعلمهم أشياء كما يتمّ اكتساب الدين بكامله في بيئة دينية بجميع ما أوتي من قوة من السمع والبصر،  وتتمّ دراسة الدين وأهله والنظر فيهم مثل تدقيق النظر والإمعان في كلّ شيء في بلاد غريبة يزورها أحد، ثمّ يجذب تأثيرها في نفسه كما تجذب الأرض الماء والهواء، ولا يتمّ الالتفات منه إلى بعض أجزاء الدين دون غيرها، بل يقوم باستيعاب أجزاء الدين من جميع نواحيه، ولا يقتصر على تعليم الفرائض وأحكام العبادات وآدابها بل يكتسب آداب جميع جوانب الحياة من المعاملات والمجتمع والمدنية والأخلاق وقواعدها ومسائل وآداب الأكل والشرب والنوم والقيام والقعود ولا يقتصر على العلم بل يعمل بها، كما أنّ الحاجة تدعو ـ في جانب آخر مع الالتزام بما سبق ـ إلى إثارة روح الدين وحبه وعواطفه القلبية، ولا بدّ لذلك من مرافقة أهل الدين ومصاحبة أهل العلم، والأقلّ أن يكونوا من أهل الطلب الذين اجتمعوا للوصول إلى هذا الغرض المهمّ، والغاية القصوى ويكون اجتماعهم على بعد عن مكانهم السابق وفي تحرر عن قيوده، ويقضوا مدة من الزمن تكفي للمرور بمر احل ومنازل هي لازمة للحياة الإنسانية حتى يطلعوا على أحكام وآداب تلك المنازل والمراحل على الفور وحسب الواقع، والأمر الثاني الجدير بالاهتمام هو مذاكرة الفضائل والمسائل، فإنّ الفضائل هي روح الحياة الدينية وعجلتها التي تسيّر ركبها وتحركها، والمسائل هي آدابها وقواعدها ومبادئها، ولا بدّ من وجود كليهما، ولكنّ الفرق بينهما هو الفرق بين الروح والجسد، كما أنه ينبغي مذاكرة القصص والوقائع من حياة أصحاب النبي عليه السلام وسيرهم مما يشوق إلى التأسي بأسوتهم ويثير في النفوس عواطف للدين وحباًّ له.

وقد كان الشيخ قد جمع هذه الخصائص والمزايا كلّها، وكان يتمنى أن يفتح هذا الباب لتعلم الدين وتعليمه على مصراعيه، والذي يتمكن به الملايين من الناس من أمة سيدنا محمد عليه السلام بدون النظم الواسع الكبير والنفقات الباهظة التي تصرف على ذلك في المدارس، من الظفر بالثمرات الكبيرة العالية للتعليم والتربية  التي لا نكاد نقطع بالحصول عليها حتى في بيئة المدارس، وينتشر هذا الطريق للجميع، يقول في رسالة له "فلو شاع ذلك الطريق وانفتح هذا الباب حتى بعد التضحية بنفوس عديدة لتجدد الطريق التي كانت سائدة وهي أن يحظى أكثر أفراد الأمة اشتغالاً بالحياة والذين لا يجدون فرصة للتفرغ لاكتساب الدين بنصيبهم من الرشد والهدي. فكما أنتم تبذلون في المدارس أعماركم لتتعلموا الدين وتصرفون أوقاتكم فيها كذا ابدؤا بأنفسكم تفريغ شيء من فرصكم للدين المحمدي على النهج استقلالاً وادعوا كذلك الآخرين إلى ذلك، والحاجة ماسّة في ذلك إلى أن تكون هممكم عالية".

والحقيقة أنّ هذا العصر الذي يمتاز عن جميع العصور في التاريخ الإنساني في الغالب بشدة الاشتغال والانهماك لا نجد فيه طريقاً أسهل وأحسن وأكثر اختصاراً وأجدر بالعمل من هذا الطريق لتعلم الدين، وهو أن يركز الاهتمام بتفريغ شيء من الوقت من بين خضمّ أشغاله ويفرغ نفسه لفترة ويعايش البيئة التي تهتم بالتعليم والتربية حسب المبادئ التي اختارها الشيخ ويشارك الاجتماعات والجولات الدعوية التي تشتغل بالدعوة والتبليغ.

وما يحصل الإنسان في أمثال تلك الرحلات من بركات علمية وإفادات علمية وتربية أخلاقية دينية وتأثيرات طيبة لا يمكن تقييدها بالكلمات، فلا يمكن الإحاطة بالكيفيات والعواطف تقييداً بالكتابة قط،  فالإيثار وخدمة المصاحبين والمرافقين وأداء الحقوق وحسن المعاشرة والقيام بأداء الواجبات الأخرى والشعور بالمسؤولية والاستحضار لكلّ شيء والنشاط والملائمة مع الطبائع المختلفة هي كلها من شعب الإسلام التي لا نجدها إلاّ في القرآن والسنة النبوية وكتب السيرة وحياة الصحابة، أمّا حياتنا الاجتماعية فقد سارت على نهج منذ مدة لم توفر فرصة للعمل ببعض منها حتى طول الحياة، ولأجل ذلك لا يحصل لنا شيء من التجربة حول هذا، وربما نواجه مثل هذا فنواجه الفشل في العمل به ومباشرته، أمّا الجولة الدعوية فربما يتفق لنا أن نعمل بهذه الشعب من الإيمان جميعها أو كثير منها في واحد أو اثنين من الجولات والرحلات.

ثم القيام بالدين عملا به والتعامل مع أنواع من الناس ومعاشرة الأصحاب المخلصين من أهل الدين وأهل الإخلاص منهم ودراسة أحوال الصحابة ومطالعة السيرة النبوية كل ذلك يحدث في الناس الحكمة في الدين ويعلم الطريق الصحيح له، وتصقل المواهب في الإنسان وتزيد قوته العقلية وتنمي ذكاءه وقد شعر بعض الأحبة فعلاً بهذا التأثير في بعض رفقته وأبدوا بذلك في خطاباتهم ورسائلهم.

والذين لم يوفر لهم الفرصة للمشاركة ولو مرة في مثل هذه الجولات والرحلات لا يتيسر لهم الإدراك لتأثيرات ذلك وكيف تعمل هذه الجولات عملها في أهلها. ونقدم ههنا كتابة وجيزة لجولة دعوية ليقدروا به شيئا من هذه التأثيرات التي يحظى بها المتجولون، والكتابة مأخوذة من رسالة فاضل مثقف بالثقافة العصرية، وقد حذفنا فيها اسماء الرجال عمداً

"خرجت الجماعة وفداً بعد الظهر في الساعة الثالثة في ٤من نوفمبر وكان يوم السبت، وتوجهت نحو مدينة خرك فور من بلاد بنغالة، وكان أمير الوفد هو ......الذي اختاروه، والجماعة كانت تشمل ٢٢ عدداً، وكان الجميع فيهم - سوى رجل منهم - ممثلين للدعوة والوفود في مناطقهم، وكان العشرة منهم من كان قد خرج من قبل في الجولات الدعوية، والبقية ١٢ كانوا لهم هذه التجربة هي التجربة الأولى للخروج.

ومدينة خرك فور تبعد من مدينة كلكتا بـ ٨٢ ميلا، وقد دخل الجميع في الدرجة الثالثة من عربات القطار وجلسوا باطمئنان وذلك في أيام الحرب وفي مدينة مثل بمبائي، وهي من بركات هذه العملية الدعوية، ووصلنا قبل المغرب بقليل إلى خرك فور وقمنا بأداء صلاة المغرب على رصيف القطار جماعة، وبعد الصلاة توجهت الجماعة إلى المدينة، ودعونا على عادة أهل الدعوة قبل التوجه إلى البلد، واستأذنا للإقامة بجامع البلد من المنظمين له، وكان العمل على إعداد الطعام إلى.......فتناول الوفد الطعام اجتماعا، وبعد صلاة العشاء ذكر للناس بعض أهداف هذا الوفد وخروجه إلى نحو ١٠ أو ١٥ دقيقة، وطلبنا من الناس واستدعينا الحضور إلى المشاركة في الجولة الدعوية، وقبل النوم والذهاب إليه استمع جميع أهل الوفد شيئاً من كتاب "حكايات الصحابة" للشيخ زكريا الكاندهلوي. ثم بعد ذلك طلب منا أحد المجودين المقرئين الذي كان معنا في السفر أن يتلو عليه كل من الوفد سورة الفاتحة وهو يصحح ما في تلاوته من لحن، ثم تم لهم الشرح لمسائل الصلاة والوضوء من كتب الفقه آدابها وشروطها ومستحباتها، ولقنوا ذلك حتى يستحضروها، ثم طلب من الجميع نوبة بعد نوبة شرح الصفات الست للدعوة، ثم شرحها لهم أحد في وجازة، ثم قصصت أنا والأمير الكريم تفاصيل رحلاتنا إلى ميوات ودهلي، واستغرق جميع ذلك نحو أربع ساعات، ولما انتهى العمل كله وفرغنا منه حان وقت الطعام.

ولما فرغنا من الطعام وقمنا بأداء الصلاة للظهر احتشد جمع من الناس وأنا شرحت لهم مبادئ الجولة الدعوية في حديث مختصر لهم، وكانت مسؤولية التكلم مع الناس في اللقاءات علي وعلى السيد الأمير وآخر.......، وكان هناك عدد كبير من الناس من المنطقة والبلد الذي كنا فيه سوى أصحاب الوفد. وقد حصل لنا بحمد الله نجاح باهر أكثر مما رجونا في كل مكان، واستمع جميع المسلمين إلى مقالاتنا بكل طمأنينة، ووصلنا متجولين إلى حارة أخرى، وقمنا بأداء صلاة العصر هناك في مسجدها، وبعد أداء الصلاة أخبرناهم بما وقع في ميوات من انقلاب وما حدث من تغيير في المجتمع، وتكونت هناك جماعة بتعاون كريم من إمام المسجد، وقدمنا لهذه الجماعة نماذج للجولة التبليغية حتى وصلنا إلى الجامع إلى نحو صلاة المغرب، وكان عدد المصلين في صلاة المغرب كثيرا، وسرّنا ما شاهدنا من حضور الإخوان الذين طلبناهم خلال الجولة للحضور، وكانوا على وشك الدخول في حياة جديدة فكانوا قد اغتسلوا ولبسوا لباسا جديداً، رزقهم الله الاستقامة، أمين.

وطلب مني الأمير أن أتحدث بعد صلاة المغرب ولم أدر ما ألقى الله في روعي حتى قلت ذلك للناس، ولكن بفضل الله ظهر تأثير ذلك الكلام فوق ما رجونا، ونشأ فيهم نشاط وحماسة، وبعد الفراغ من الجماعة عرض ٢٥ رجلا أسماءهم للخروج حتى عرض اسمه رئيس الهيئة وتم اختياره كأمير والحمد لله على ذلك.

وبما أن....... ههنا في هذه الأيام فعيناه لاستخدام الجماعة والإشراف على الأعمال حسب المبادئ والأصول، وبعد الاجتماع استمر اللقاء من الناس مدة، أدام الله حماسهم ونشاطهم ورزقهم الاستقامة وبارك في أعمالهم ونياتهم، آمين.

وبعد الفراغ من العشاء عادت الجماعة إلى المحطة حيث سقطنا نائمين، وجاء القطار في الساعة الثانية والنصف والحمد لله على أن دخلنا عربة سعت للجميع في مثل هذا الضيق، حتى حصلنا على مكان يكفي لنوم أربعة أو خمسة رجال، وقام الجميع بأداء صلاة الفجر في داخل القطار وسهل الله لذلك ووفر جميع التسهيلات، وصلنا يوم الاثنين في الساعة الثامنة إلا الربع صباحا ودعونا على الرصيف ثم عاد كل منا بعد المعانقة إلى بيته.

 

الانطباعات الخاصة لهذه الرحلة.

ولقد سرّني كثيرا ما قام به ......من واجبات الإمارة، ولقد شاركت وفودا ما رأيت أمير أحد منها أكثر نشاطا من هذا الرجل، من أمثال مراعاة جميع الرفقة في السفر ومعاهدة الجميع وأخذ أمتعة جميع الناس وإلقاء الماء في الكأس وعرضه على الجميع وقت الطعام، وكان لا يجلس على المائدة ما لم يجلس الجميع، وكان يوضئ الجميع على القطار بيديه، وأعار العناية ولفت الانتباه نحو العمل بالآداب والمستحبات في الوضوء وتخليل الأصابع، كما كان يحافظ على من ينام ويراقبهم وذلك مع التلقين للذكر والإكثار منه، وغيرها من الأشياء التي لا يمكن عدها وتفصيلها، كما قدم....... خدمة يعسر لأمثالنا القيام بها، وكان أكبر الانطباعات هو تقديم الأكبر منا مالا وسنا ودنيا ودينا نفسه كخادم والسعي له، رحمه الله وجعله في كنف فضله وعنايته، وخصه بكرمه لسعيه للخدمة.

والرجل الثاني الذي تأثرت به بعد الأمير هو........المكرم فقد أحسن وأجاد في تنظيم وتهيئة جميع التسهيلات وتوفير الحوائج، فقد أنفق أولاً من نفسه ثم حينما فرغ قدم التفاصيل وحسابات المصارف لكل واحد من أجرة السفر والتذاكر ونفقات الطعام وحصل على المبلغ منه، وهو خير ممثل للنشاط والقوة والكفاءة للتنظيم، زاده الله توفيقاً ونشاطا.

والرجال الذين لم يشاركوا اجتماعا أو جولة دعوية من قبل تلهج ألسنتهم وتتفق على أن الأيام التي قضوها في هذه الرحلة كانت أحلى وأجمل أيام حياتهم، ولم ينالوا مثل هذه الفرصة الطيبة ومثل هذا السرور من قبل".

وهذه الخطة للتعليم والتعلم تحمل في طيها سعة كبيرة لأن تتقدم وتخطو خطوات، وكان الشيخ يريد ويهوى أن يراها كاملة جامعة تشمل جميع طبقات من رجال العلم والدين لكي ينالوا فرصة كاملة للتربية في ضوئها، وكان في ذهنه خطة كاملة خاصة لأهل العلم، توافق مستواهم وتناسب حالهم، يقول في خطاب له "إن الحاجة ماسة إلى أن تدون المباحث والدروس التي تحرض على نشر الدين والاعتصام بالكتاب والسنة وكلام الصحابة والعمل بالعربية لأهل العلم ورجاله، ولا بدّ من التفكر والنظر في ذلك بكلّ جدية واهتمام، والحاجة تمسّ إلى أن تستعدّ الأوساط العلمية لهذا العمل، وإلاّ فهناك خوف شديد على هذه العملية الدعوية للتكسر الذي لا يمكن جبره أو الزلة العلمية، وبالنسبة إلى نقصها أو زيادتها تبتني الطبقة العلمية على النهوض والقعود، وفي خيال هذا العبد الفقير في هذا الباب من الآراء والخطط ما لا يريد أن ينطق بها الآن لأنه قبل نزول الأوان".

      والحقيقة أنّ هذا النظام الواسع الكبير للدعوة والتعلم يحمل في طيه سعة كبيرة وهي تجدر بأن تساير الركب وتواكب الزمان وتحمل استعداداً كاملاً لأن تزاحم الحركات المخالفة للدين وتحلّ محلّها لعامة الناس، ويعلم رجال العلم والفكر والنظر أن أكبر سلاح وأضخم قوة للحركات الهدامة الملحدة هي الاحتكاك بالناس والتعايش معهم واللقاء بهم مباشرة وتربية الأجيال وفق مبادئها ودعاتهم هم عمل في عمل، ونشاط في نشاط، يتحمسون في أعمالهم ويحملون في أنفسهم روح الإيثار والفداء ويتحملون المشاق لأجل هذا ويذللون الصعاب ويتجشمون لذلك، وعندهم أعمال وأشغال يشغلون بها الناس عن غيرهم ويجذبونهم إلى أنفسهم، وهذه الجوانب كلها هي القوة الجاذبة وكالمنغناطيس للطبائع القلقة المضطربة، ولم يكن هناك شيء لمقاومة هذه الحركات الهدامة اللادينية لا الفلسفات النظرية ولا الخطط القرطاسية ولا الاقتصار على الأدلة والبراهين، ولا الدعوات التي انحصرت بين الخاصة من الناس ولم تكد تخرج من هذا المضيق إلى سعة الناس حتى يشغل بالهم ويستهوي أفئدتهم، وهذه الحركات اللادينية ـ أو المادية المحضة بتعبير أخف ـ تنتشر بين الناس في العالم كله مثل اشتعال النار في الحشيش اليابس، وقد نصبت حبائلها وحفرت أنفاقها في كلّ مكان من العالم، ولا تقاوم هذه الحركات إلا الحركة الدينية التي ترى على نفسها لزاماً أن تعاشر الأوساط العامة من الناس وتعايشهم، ولا يهمل العاملون في حقله طبقة من طبقات الناس، ولا يتركوا كوخ فقير أو بيدر زارع أو مصنع صانع إلا و يدخلوه ويقرعوا بابه ويخاطبوا العامة من الناس، ولا يكون حماسهم أقلّ مما هو في غيرهم، والفداء بالنفس وتحمل المشاق والنشاط والمخاطرة بما عنده والجهد الجهيد لا يكون كلّ ذلك إلاّ أضعاف ما يكون في المتحمسين للحركات الهدامة، وكذا يكون فيهم النصح والمواساة واللوعة والحرقة أكثر من جميع رجال الحركات الأخرى، لأنهم يهتمون لا بحياتهم الاجتماعية والاقتصادية المترفهة بل يتألمون على ما بهم من بعد عن الدين وما هم فيه من همجية رعاع، فهؤلاء هم الذين تولوا رفع شأنهم ومستواهم العلمي والخلقي والدني والمدني والروحي، والبعث فيهم الشوق للإنسانية والوقار الإسلامي والعلم، فيكون هؤلاء مثل من لا يكون له غرض من شيء، يحمل بنفسه أوزاره ولا يكون كلاَ على غيره، وهم يعلمون الطرق السهلة والأكثر جدارة بالعمل لإنشاء مواهب وأغراض المدنية والتعليم والأخلاق تنتج نتائج جيدة بدون شيء من الإنفاق ثمّ هو يكلفه بعمل ويسند إليه بشيء يشغل بالهم ويحيط بهم ولا ينتهي، أي هو يجتهد في الآخرين ما اجتهد غيره فيه، ويكون عندهم عمل يربط بين مختلف طبقات الناس، ويوجد فيهم روج التعاون في ما بينهم، ويوجد الاتحاد في الغرض والاجتماع في مكان واحد والمرافقة في الرحلات والتعاون والخدمة في ما بينهم وروح الإيثار لأخيه يوجد وينشئ كلّ ذلك فيهم الحبّ والوئام والمناسبة والمؤانسة، وينبغي أن تشق للناس طريق يكرس فيها الشباب جهودهم وقواهم ويعملون فيها طاقاتهم، وهو لازم لهم طبيعياً، فلو لم يجدوا عملاً مناسباً لضلوا الطريق.

وما قدم لنا الشيخ محمد إلياس رحمه الله من حركة تجمع بين تلك الخصائص المذكورة كلها، وخطتها تسع لأكثر من ذلك، وهو ليس وحياً أو تنزيلاً إلهياً، فإنه قد قدم لنا منهجاً للدعوة والعمل بناء على فهم القرآن والسنة والعلم بأحوال الصحابة وقصص بطولاتهم والمعرفة الدقيقة العميقة الواسعة لأصول الدين وما رزق من بصيرة إلهية وحكمة ربانية، ووضع لذلك مبادئ وأصولاً في ضوء تجاربه التي حصلت له عبر سيره الطويل في هذا المجال والدراسة العميقة والعلم الراسخ، وكلها مستفادة من الكتاب والسنة، وظهر بعد التجارب أن مدارها على مآت من المصالح.                                                                                        

 



[1] هذا هو الباب الثامن الأخير من كتاب "الشيخ محمد إلياس ودعوته الدينية" التي ألفها الشيخ الجليل أبوالحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، شرح فبه فكرة الشيخ محمد إلياس وهو الباب المهمّ ولكن الأسف أنّ الأستاد المرحوم نورعالم الأميني الندوي عندما نقل الكتاب أهمل هذا الباب المهم ولم يترجمه، فنقدمه إلى القراء العرب ليطلعوا علي فكرة الشيخ مؤسس هذه الدعوة ومبادئه لها، والناس في حاجة إلى الاطلاع على هذه الفكرة في هذا العصر الذي كثر فيه اللغط حول هذه الجماعة والحركة الدعوية.