شرح دعوة الشيخ محمد إلياس ومبادئه (2)

شرح دعوة الشيخ محمد إلياس ومبادئه

بقلم الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله.[1] (2/3)

 

توجيه الدعوة إلى الغافلين والذين ليس لهم طلب إلى الدين:

وفعلاً قد أعرض الشيخ عن جميع الأقسام المكملة للدين وركز جلّ اهتمامه على ترسيخ أصول الدين ومبادئه، بناء على رأيه الذي سبق من أنّ التمسك بالإيمان وأصوله هو الأرض التي تنبت عليها الأشجار وتزدهر الحدائق وانقطع إلى هذا العمل انقطاعاً كلّياً مع أنه لم يكن يتردد شيئاً في أنّ مكملات الدين هو خير في خير، وكان يحمل لكلّ من يباشر هذا العمل ويشتغل به في قلبه إجلالاً بالغاً وفي صدره رحابة وسعة، بل كان يدعو لهم دائماً ولكنه ألزم نفسه ـ بعد تجارب حصلت له عبر سيره الطويل في هذا المجال ـ الاقتصار على هذا العمل والانقطاع إليه ولا يصرف شيئا مما رزقه الله تعالى من قوة وحرقة ولوعة على شيئ غير هذا، فقد قال في مرضه الأخير يوماً للشيخ عطاء الله البخاري وهو يخاطبه : لقد عملت مدرساً بادئ ذي بدء ودرّست الطلبة بعدد كبير ففكرت لحظة ماذا يفيدني ما أبذل في ذلك من مجهودات وإلى ما يصير، فإنّ الذين ينتسبون إلى المدارس ليكونوا علماء فإنهم سينالون هذه المرتبة ثمّ يشتغل كلّ واحد بما يشتغل به المتخرجون عامة، فأحد يتعلم الطبّ ثمّ يتكسب به، وآخر يؤدي اختبارات الجامعات الرسمية ثمّ يتوظف في إحدى المدارس الرسمية كمدرس حتى أنّ أقصى ما يفعله عالم هو أن يعمل مدرساً في إحدى المدارس الدينية ويدرّس الطلبة ولا يزيد على ذلك، ولمّا خطر ببالي هذا مال قلبي عن التدريس، ثمّ في وقت من الأوقات لما أجازني شيخي بدأت ألقن الناس الذكر وأعلّم الطالبين هذا حتى أقبلت عليه إقبالاً كاملاً، وكان من فضل الله أن غلبتهم الكيفيات وتملكهم الحال بسرعة وتقدموا في سيرهم الروحاني تقدماً حيرني نفسي، ثمّ فكرت ماذا يثمر هذا وإلى أين مصيره، فلا يزيد ـ إن عشت مشتغلاً به ـ على أن تنشأ جماعة من الذاكرين وأهل الكيفيات الروحية والأذواق ويشتهر أمرهم فيحضر أحداً منهم الناس ليدعو لهم بالنجاح في ما رفع إلى المحكمة من قضاياه، وربما يحضرون غيره ليدعو الله لهم بالولد ويكتب لهم العوذة حتى ينجح في الحصول على الولد، وربما يقولون ادع لي حتى يبارك لي في تجارتي، ثمّ يتعداهم هذا الأمر فتنشأ جماعة أخرى للذاكرين ولا يجاوز الأمر هنا، وهذه الخاطرة ثبطت همتي عن البقاء في هذا العمل ومنعتني عن مواصلة هذا الركب، وعزمت على أن أصرف ما منحت من الله من قوة في العلم والجسم في ما صرفه فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أجهد نفسي لما أجهدها عليه الصلاة والسلام، وهو دعوة عبادالله ولا سيّما الغافلين المعرضين منهم إلى دين الله عزوجلّ والاستهانة بالنفس وقيمتها لإعلاء كلمة الله في سبيل هذا النداء بذلك بين الناس وتدريبهم على هذا، فليس لي إلاّ هذه الحركة ولا أقول للناس شيئاً إلاّ هذا، فلو سلكنا هذا الطريق واتخذنا هذا العمل شعاراً لازداد عدد المدارس أضعاف ما كانت، وكما تمسّ الحاجة إلى إنشاء زوايا أضعاف مضاعفة، بل يكون كلّ مسلم مدرسة مستقلة وزاوية متنقلة في نفسه وتقسم ما جاء به النبيّ عليه السلام من نعم حقّ التقسيم، وفي آخر أيام حياته ربما كان يردد بلسانه كلمة الشيخ عبيدالله الأحرار التي أدرجها الشيخ الرباني في بعض رسائله، وهي "إنني لو تصدرت للإرشاد والبيعة لما وجد غيري مرشداً، ولكن ليس لي إلاّ همّ واحد وهو ترويج بضاعة الدين وتقوية شأنه"، وشرح الشيخ المجدد الرباني هذه الكلمة قائلاً "فكان الشيخ يحضر إلى الملوك ويصاحبهم ويسخرهم بقوته الروحية حتى ينقادوا له، ثمّ بواسطته يقوم بنشر الدين وتقويته".

وإنّ الشيخ كان قد قطع نفسه عن كلّ شيئ إلى هذا بالكلّية حتى أنّ أحداً تكلم بكلام غير هذا أو طلب شيئاً آخر أو شغله عن هذا الأمر اعتذر عن ذلك، كتب في خطاب له إلى صديقه وهو يردّ عليه طلبه لكتابة رقية له " يا أخي ـ نضّر الله وجهك ـ أنا لا أعرف رقية ولا عوذة ولا شيئاً آخر مما يتعلق به، فلم أتعلم شيئاً من هذا، فلو أنت تعلمت مني الدعوة والتبليغ للثبات على الدين لكان أحسن وأكثر فائدة لك، وهذا الذي يسهل الحياة الدنيا وينضر الحياة الآخرة، وأنا أحبّ أن اشتغل بالتبليغ، ويقول في خطاب يوجهه إلى طالب من الطلبة "أنا لا أعرف شيئاً من الرقية، والدواء لكلّ داء عندنا هو الدعوة والتبليغ، والله يرضى بإعلاء كلمة الدين وفي ذلك قرة لعيون سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبات لقلبه الشريف في قبره الشريف، وإذا كان كذلك فإنّ الله يسدد كلّ شيء وكلّ أمر ويقول في خطاب ثالث "صديقي! إني لست عاملاً أو راقياً للأمراض، ولا أعرف شيئاً من الرقى، بل خامل الذكر طريح في مسجد من المساجد، أجتهد بفضل الله ورحمته لإصلاح الحياة الآخرة وأدعو الله أن يضمني ويجمعني إلى الرجال الذين يغتنمون وجود سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعدّونه نعمة ويستفيدون منها، وأنا مشتغل بهذا العمل، فإن كنت بحاجة إلى هذا فابذل شيئاً من عنايتك لعلك تظفر ببعض بغيتك".

 

الحاجة إلى إعارة الاهتمام بأصول الدين وجذورها:

وكان الشيخ قد أدرك بفطنته وذكاءه جيداً أنّ جذور الأشجار قد أصيبت بالجفاف فتتضمحلّ أغصانها وورقاتها، وقد ذهبت نضارة التطوعات وبهاؤها لتخلل الوهن والضعف في الأركان والفرائض، ولا تزال ظلال الأنوار في الطاعات والعبادات تتقلص وقبولها عند الله لم يزل في انتقاص مستمرّ، وقوة الأوراد وتأثيرات الأدعية لم تزل تفقد قيمتها في الأمة، ويوضح هذه الحقيقة في أحد خطاباته قائلاً "حبيبي الكريم! إنّ هذه الأوراد والأحزاب والأدعية وكلّ ما يمتّ إلى الدين بصلة إنما هو في الحقيقة زهرات الإيمان المتفتحة وأوراقها، وأنى لشجر يبست جذوره أن يورق ويثمر، وبناء على ذلك يرى هذا العبد أنّ هذا العصر لا ينفع فيه دعاء ولا حزب، ولا يفيد دعاء ولا يؤثر عناية صوفية من أحد المشائخ، فقد جاء في الحديث أنّ العصر الذي أهمل الناس فيه التفكر في إعلاء كلمة الله والسعي للدين ـ وهو الذي نعبر عنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ لا تستجاب فيه دعوة من الدعوات الصالحة حتى بالبكاء في السحور والليالي، وتسدّ أبواب الرحمة ولا سبيل إلى  فتحها، ولا يمكن تصور نهوض المسلمين بدون السعي في نشر الدين وتنشيطه، وإنّ الله تبارك وتعالى قد وعد المسلمين بالنصر والإكرام وإسباغ الرحمة عليهم بشرط أن ينصروا دينه ويسعوا في سبيله، ويجاهدوا لنشره، وقد أقضّ مضجع الشيخ ما كان يشاهد بأمّ عينيه من تفاقم زائد في الإباحية والبعد عن الدين بالغاً ما بلغ والمادّية الشائعة والعبادة لها، وما كان من تدهور مستمرّ في الإقبال على الدين والطلب له، وأثّر كلّ ذلك في شخصيته الابيّة وطبيعته المرهفة تأثيراً بالغاً، وكأني به يلمس ما يتألم به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من واقع الأمة حتى لم يكن يقرّ له قرار، وهو الذي كان يقلّبه دائماً على أحرّ من الجمر، يقول في خطاب إلى أحد أحبته " أنني أرى روح سيدنا محمد عليه السلام ومضطربة قلقة إذ لم أقم بإحياء الدعوة التي قمت بتخطيطها كما أنني أشاهد رأي العين دواء لكلّ داء ودفعاً لكلّ بلاء حلّ بالأمة الإسلامية في العالم في تجديد هذه الحركة وتنشيطها، ولا أرى لها سبيلاً غير ذلك، وإنني أرى آيات باهرة وعلامات واضحة لنصرالله عزوجلّ ينزل على العباد بالقيام بهذا العمل، والآمال بإثمار هذه الجهود معقودة وأشاهد السعادة والنصر لمن يبادر إليه وينافس فيه، ولكن الذي لا يبادر إليه ويسابق بقلب واع إلاّ عدد قليل من الناس.

 وكان الشيخ يرى الالتياع والتحرق للدين مما لا بدّ منه لكلّ مسلم، ويرى الشقاء والخزي والذلّ في الآخرة والبعد عن الله تعالى في الانهماك في الملذات والمادّيات والاستغراق في الحياة الدنيا والتغافل عن العمل والسعي للدين فربما يوجه خطابات إلى أصدقاءه وأحبته يقول فيها " أيقنوا ـ رحمكم الله ـ أنّ الذي مات دون أن يحمل بين جوانحه شيئاً من التألم والتحرق للدين إنما مات شر ميتة ، فإنّ الغافل عن السعي لدينه المنهمك في لذاته والمستغرق فيها لا يقوم يوم القيامة إلاّ ذليلاً مهاناً، فيا أصدقائي! إنّ الذي يموت وهو مشتغل في العمل للدين يموت ناضر الوجه ويستطيع أن يلقى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم من الله بوجه باسم يتهلل يوم القيامة، بينما الرجل الذي لا يصرف من وقته شيئاً للدين لا يستطيع أن يلقى الرسول عليه السلام ويواجهه بل يواجه الندامة والخسران يوم القيامة ويموت شرّ ميتة، وإنّ الاجتهاد للدين هو قرة عيون سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهالة كلّ الجهالة أن لا نفكر في أن تقرّ عيون هذا الإنسان الأعظم الذي لا أحد أشرف وأفضل منه في الدنيا"، وكان الشيخ قد عقد آمالاً كثيرة كيبرة يوم القيامة للإسهام في الأعمال الدعوية والسعي للدين وإعلاء كلمة الله وما يتعلق به، وكان يشاهد مناظر جميلة، يقول في رسالة بمناسبة الاجتماع الدعوي الذي عقد في ميوات "بشرالذين سعوا في عقد هذا الاجتماع الدعوي أنكم إذ حاولتم واجتهدتم لتغيير مجالس الصراع ومخالفته البيّن إلى مجالس الدين والسعي لإعلاء كلمة الله ينوه بذكركم وبمكارمكم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة إن شاء الله تعالى، حيث يجتمع فيه الجمع من الأولين والآخرين والجنّ والإنس حتى يجتمع جميع الخلق والأنبياء والملائكة، وفقنا الله للتضحية للدين وشأنه والفداء بالأنفس له.

 

الدعوة قبل السياسة:

إنّ الشيخ كان يقدم الدعوة للدين والتبليغ والسعي له على كلّ شيئ، ويرى هذا العمل قبل كلّ عمل، وكان يرى أنّه هو الذي يوجد في الناس القوة على العمل بالدين كله والاستعداد لأخذ الأخلاق والمعاملات بتصحيح العبادات وتبرز المواهب السياسية وتنمو بالنجاح في الدعوة للدين والاجتهاد الكامل له، فإنّ السياسة التي ليس في بنيانها الدين بناء قد تضعضع كيانه وفقد بنيانه.

وليس غرضنا من السياسة ههنا إلاّ القيام بعمل وإنجازه بواسطة قوة مع التنظيم والتنسيق، والغرض من الدعوة التشويق والترغيب والحثّ على العمل ببيان فوائده وفضائله.

وقد كان الشيخ يرى رأيا مستقلاً ـ كخلاصة تاريخ الأمة كلها ـ أنّ الأمة قد فقدت منذ مدة حرارتها للقيادة السياسية وسلبت قوتها السياسية، فالحاجة ماسة إلى العمل على أصول الدعوة إلى فترات طويلة مع الالتزام بكلّ صبر، وبعد ذلك تنشأ فيهم وتعود إليهم القوة المفقودة المسلوبة منهم، وصلاحية للعمل وفق نظام وخطة معينة ملتزماً بالمبادئ معرضاً عن جميع المصالح والمنافع المادّية وأهواء النفس واستعداد للطاعة وقبولها والتمسك بالنظام والكمّية القليلة من السياسة تحتاج إلى الكمية الهائلة من الدعوة، وكلّما كانت الدعوة تفقد حماساً ونشاطاً وتخلو من أيّ عاطفة وقوة روحية، وكلّما استعجلنا في هذه المرحلة بهذا القدر تكون السياسة ناقصة غير واضحة، وهي لا تخلو من حالين، إمّا أن لا تظهر وتوجد رأساً، وإمّا أن تظهر ولكن سرعان ما يتهدم بنيانه.

والحقيقة أنّ قوة الخلافة الراشدة وقوة امتثال الأمر والطاعة وتنظيم المسلمين خلال هذه المدة الطويلة إنما كانت ثمرة للجهود الدعوية الطويلة التي تمتدّ فترتها من أول عام النبوة إلى عهد الخلافة الراشدة، أمّا الضعف والانحطاط الذي تسرب إلى الجماعة إنما أدى إلى ذلك ما حدث من ضعف وتغافل عن الدين، وبقي سائداً في العهدين الأموي والعباسي، وكان الشيخ كثيراً ما يردد كلمة لسيدنا الحسن رضي الله عنه الذي أوصى بها شقيقه الأصغر سيدنا الحسين رضي الله عنه، أنّ عمل هذه الأمة الآن سيتمّ عن طريق الدعوة، وكان الشيخ قد ألزم نفسه وعزم عليه بأن لا يشارك جماعة تعمل على مبادئ الضابط والخادم وليس فيها إلاّ رابطة السياسة والأصول، وكان يرى أنّ سبب الفوضى والمفاسد التي عمت وشاعت إنما هو الخوض في السياسة قبل القيام بعملية الدعوة، والمحاولة لإنجاز عمل دينيّ وفق الأصول التي اختطها الغرب.

 

لا بدّ للإصلاح من تغيير المناخ والبيئة:

إنّ البيئة التي نشأ فيها الشيخ وعاشها لم تكن لتسمح أحداً غيرتها الدينية وحبها للسنة وغرامها بالحفاظ على الشريعة المحمدية أن يعرض عن المنكر ويتركه في المجتمع ينمو وينتشر ويوسع مكانه، ويوفر له فرصة لتحيا وتعيش كما ينتظر ويترقب في نشر أيّ معروف ـ مهما كان صغيراً ـ، والحقّ أنّ الفضل يرجع إلى هذه الغيرة الدينية والتصلب على الدين والشريعة المحمدية والاستقامة عليها أن نالت عشرات من المعروفات حياة جديدة في هذا المجتمع الديني والجماعة الدعوية، كما اضمحلت عشرات من المنكرات وقامت عشرات من السنن بعد أن أميتت بفضل جهود هؤلاء وتضحياتهم، فجزاهم الله عن الإسلام خيراً.

وكانت هذه الحمية الدينية قد اختلطت بلحم الشيخ ودمه ووجدت في هذه البيئة قوتها ونشاطها وازدادت نموّاً وازدهاراً، ولكن على العكس من أن تنشأ وتقوى هذه الفكرة في الشيخ ألقى الله في روعه وكشف له ـ بما رزق من بصيرة في ذلك ـ أنه ليس طريق النهي عن المنكرات وإزالتها عن المجتمع التصدي وبذل جميع القوى لإزالة كلّ منكر، ولربما ينقضي العمر وينتهي ي إزالة منكر ولا يزول ولا ينتهي، ولو زال فعامة في منطقة دون غيرها، وربما نشأ مكانه منكر آخر، وفي هذه الدنيا مآت من المنكرات هيعلى قدم وساق ولو ذهب الجميع يحكها عن المجتمع لأفنوا أعمارهم ولم ينجحوا، وكان الشيخ يرى أنّ أصحّ الطرق لإزالتها الإعراض عن التعرض لها مباشرة مثل تلك الحاجة بل بعث كامن الإيمان وإشعال الجذوة الدينية في القلوب، والإكثار من المعروفات والاهتمام بنشرها في المجتمع.

ولم يكن الشيخ يرى الاكتفاء والاقتصار على إصلاح جزئي يخصّ منطقة دون أخرى، وكان يقول ابدأوا بتغيير المناخ ونشر المعروفات من بعيد حتى تضمحلّ تلك المنكرات مكانها، ويلفظ أنفاسها الأخيرة، وكلما ازداد المعروف وانتشر اضمحلّ المنكر وانكمش.

قال أحد من البدو السذج البسطاء ـ الذي تربى في كنف الشيخ وأصبح من أخصّ تلاميذه الروحيين ـ يوماً كنت أرشّ الماء على الأرض فجعلت الماء على كلّ مكان وبقي المكان الذي كنت قائماً فيه ولم يصبه ماء، ولمّا هبت الرياح الباردة أصابت ذلك المكان، ولو أنني قد ألقيت الماء ونضحت المكان الذي كنت فيه ولم أرشّ وأنضح ما حولي وبقي هكذا لم يبرد شيء من مكاني وغيره، عند ذلك تفطنت لما يقوله، ومبدؤه هذا الذي التزم به في عمله.

ويقول في خطاب وهو يرشد إلى الالتزام بهذا المبدأ "واتخاذ هذا المنهج لتنشأ في الناس قوة لقبول هذه الدعوة وتأثيرها، وذلك في قرية لم يكن في أهلها أيّ تأثير للدين، ومخاطبتهم مباشرة وهم لا يبالون بذلك ولا يعرفون قدره غير سديدة، فتبينوا أحوال القرى التي تقع قريبة عنها على بعد أميال، وأحوال رؤساءها وكبارها وأكدوا لهم أن يخرجوا جماعات، وانظروا ما ينتج عن هذه الجهود الدعوية، فهكذا ينشأ فيهم الاستعداد لقبول الدعوة والدين ويفيدهم الخطاب والخطبة والتذكير، وإلاّ فالخطر أشدّ، إنّ الإنسان دائماً يتأثر ببيئته ومناخه الذي يعيش فيه فتمشيته خلاف ما يجري حوله عمل صعب، فعلينا التركيز على تغيير الجوّ والسعي لذلك، وكان الشيخ يرى السعي لأصل الدين ونشر الأجزاء المتقق عليها السبب الحقيقيّ لإفشاء جميع الخيرات وشيوع جميع البركات، والدواء لكلّ فتنة ومرض نشأ في هذا العصر، وكان الترتيب الصحيح هو إظلال جميع حياة المسلمين بظلال الإيمان، وبهذا يسدد نظام حياتهم، يقول في خطاب له إلى أحد أصدقاءه، " اجعل همتك عالية لنشر أصل الدين وشمر عن ساق الجدّ فإنه يسرّ روح سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حدّ أن لا يكاد يقع منك بحسبان، لو شاء الله فسترى تقدماً ملموساً لا تكاد تدركه قوة من القوى، ويقول في خطاب آخر، "أصدقائي! إنّ المحاولة في ذلك سيحيي مآت من سنن سيدنا الرسول عليه السلام، وعلى إحياء كلّ سنة أجر مائة شهيد، وأنت تعرف درجة الشهداء ومكانتهم"، كما يكتب إلى صديق كان يتمنى الإصلاح في أهل الحرف والصناعات من المسلمين "يرى الفقير أنّ غاية تلك الدعوة التي دعوتك وطلبتك لها، وأسعى فيها أنا بنفسي هي أن تكون جميع أعمال المسلمين من الحرف والصناعات والتجارات والزراعات وجميع المكاسب وفق الشريعة والدين، ومبادئ التبليغ هي العبادة وهي حروف الهجاء له، ولا يمكن المراعاة للأحكام الإسلامية في المعاملات وأمور الحياة، ما تظهر العبادة متكاملة، فلا بدّ أن يبدأ أوّلاً إلى خطة لتصحيح العبادات ثمّ نشتغل ونسعى لأن تبلغ منتهاها، وحينما تصلح أخلاقنا ومعاملاتنا نصل إلى السياسة الكاملة، والوقوع في الأمور الجزئية المتفرقة قبل ذلك ليس إلاّ تعريض ما رزقنا من نعمة الحرقة والتألم للشيطان حتى يبيد ذلك.

 



[1] هذا هو الباب الثامن الأخير من كتاب "الشيخ محمد إلياس ودعوته الدينية" التي ألفها الشيخ الجليل أبوالحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، شرح فبه فكرة الشيخ محمد إلياس وهو الباب المهمّ ولكن الأسف أنّ الأستاد المرحوم نورعالم الأميني الندوي عندما نقل الكتاب أهمل هذا الباب المهم ولم يترجمه، فنقدمه إلى القراء العرب ليطلعوا علي فكرة الشيخ مؤسس هذه الدعوة ومبادئه لها، والناس في حاجة إلى الاطلاع على هذه الفكرة في هذا العصر الذي كثر فيه اللغط حول هذه الجماعة والحركة الدعوية.