شرح دعوة الشيخ محمد إلياس ومبادئه (1)

شرح دعوة الشيخ محمد إلياس ومبادئه

بقلم الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله.[1] (1/3)

                                                                                                                                                                                                                                                                               طلحة نعمت الندوي[2]

إنّ البيئة التي عاشها الشيخ محمد إلياس وقضى فيها طفولته كانت بيئة دينية وجوّاً إيمانيّاً  روحيّاً قلما يتنبه فيه أحد لما يدبّ إلى مجتمع المسلمين من ضعف في الإيمان والدين ويتسارع إليه من الخواء الروحيّ، فإنه كان ينتمي إلى أسرة دينية عريقة من أشرف البيوتات، فلم يكن مبعث إعجاب لو لم يدرك إعراض المسلمين عن الدين ولم يطلع على ما كان يواجهه الدين من ازدراء وا واحتقار من أهله، ولم تكن له تجربة عملية كذلك، فكلّ من عاش في تلك البيئة ظنّ أنّ المجتمع المسلم هو اليوم يتمتع بقوة إيمانية وهو قد سدّ الفراغ في الدعوة إلى الدين الذي كان يشبه العهد المكي والآن كأنّ هناك العهد المدنيّ، الذي لا يحتاج إلاّ إلى ما يكمل الدين ويبلغ به إلى نهايته، فكان من الصعب لمن لم يعايش هذه البيئة أن تعمل فكرته على شيئ سوى تأسيس المدارس الدينية ونشر الكتب وإلقاء الدروس في الحديث والتصنيف في العلوم والقضاء والإفتاء والردّ على البدع والخرافات ومجادلة أهل الباطل وإحقاق الحقّ والتربية الروحية والسلوك، وكان مثال العمل هناك كأنّ الأرض قد أعدت حرثاً لقبول البذور وغرس الأشجار، ولم تكن هذه الفكرة فكرة خاطئة لأنّ جهود العلماء والمشائخ في تلك البيئة كانت مثمرة تؤتي أكلها، وكانت الأرض قابلة للزرع غير جرداء قاحلة، فكان من مقتضيات هذه البئية ـ طبعاً ـ أن يلتفت الشيخ إلى أحد هذه المجالات يكرس جهوده فيه ويبرز مكانته، ولكنّ الله تعالى قد تولى إرشاده إلى هذه الناحية وكشف له عن وجه الحقيقة فبصره بأن البضاعة التي تعتمد عليها هذه الأعمال وتتوقف جميع النشاطات هي لا تزال تنفد وهذه الثروة لا تزال تذهب من أيديهم، وحدث هناك ضعف ووهن في العقائد المهمة، ولم يزل في ازدياد مستمرّ، وبكلمة الشيخ نفنسه ليس في أمهات العقائد شأنها وأهميتها ولا قوة لتنمية نبات العقائد وترقيتها ولا يزال اليقين بألوهية الربّ الواحد ورسالة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في انهيار وإلى زوال، وعظمة الآخرة لم يزالوا في ابتعاد وإعراض عنها، ولا يزال إجلال الدين وتكريم الشعائر الدينية والشريعة الإسلامية والشوق إلى اكتساب الآجر والثواب أي الإيمان والاحتساب والوقار لقول الله عزوجلّ في انتقاص وتدهور في قلوب المسلمين.

 

تحوّل مسيرة الحياة:

وقد انكشفت هذه الحقيقة على بصيرته وتجلى له هذا الأمر بقوة غيرت مجرى حياته، وأحدث تغييراً في طريقته، فكان جلّ أعماله وجهوده الدعوية مؤسسة على ما أدركه من تزلزل ووهن في العقائد، وما أيقن به من أنّ الحاجة الحقيقية هي ترسيخ دعائم هذه العقائد وأسس الدين، فكانت هذه الفكرة هي المحور الأساسيّ والقطب الذي يدور حوله رحى جهوه ونشاطاته حوله، الذي جلب له كلّ انتباهه إليه، وشغله عن غيره، يقول الشيخ الكاندهلوي في رسالة له موجهة إلى الشيخ حسين أحمد المدني وهو يشرح أغراض هذه الدعوة وأهدافها، "إنّ الناس لم يدخروا وسعاً في الاستخفاف بشعائر الدين والعمل بأركانها، واتباع السنة المباركة والسخرية بأمورالدين والاستهزاء بها على ذكرها أو النطق بها، وإنّ هذه الدعوة إنما تركز جهودها على النداء إلى الالتزام بإجلال هذه الشعائر وتعظيمها، وأساس جهوده تحويل العالم من الاستخفاف إلى التعظيم.

 

فقدان عظمة الدين وطلبه في المسلمين:

وقد أدرك الشيخ ببصيرته النافذة وأيقن بأنّ الإيمان واليقين لم تزل القلوب في بعد وإعراض عنها، وعامة المسلمين لم يزل جهلهم بمبادئ دينهم في تزايد مستمرّ، ففي مثل هذه الظروف الحرجة الاشتغال بما يكمّل الشريعة والدين قبل رسوخ مبادئها وأصولها، عمل بلا حاجة، ولقد عرف الشيخ ـ بما أوتي من فراسة إيمانية وبصيرة دينية ـ وجهة السيل الجارف الذي كان يؤثر في النزعات والميول، وهي أنّ المدارس القديمة في خطر ويتعرض وجودها للاحتضار دون الفكر في تأسيس المدارس الجديدة، والعروق والشرايين التي كانت تنبض بالدم في المسلمين لا تزال تزداد جفافاً، ولا يوجد الاعتراف بمنن أولئك العظماء الذين قاموا بتأسيس هذه المدارس وكرّسوا فيها جهودهم والشعور بتأسيس مدارس جديدة وتجديد القديم منها والتقدير للقائمة منها، يقول في خطاب له موجه إلى الشيخ الحاج رشيد الذي كان أحد أعضاء المدارس الدينية الكبرى وعوناً لها ومساعداً " لقد أدركت السيل الجارف الذي سارع إلى طبائع أهل الوفاء قبل خمس عشرة سنة رغم قصور نظري بما رزقت من بصيرة في الدين، وقدّرت أنّ النزعة المتسارعة في الناس إلى تأسيس الكتاتيب والمدارس الدينية ورغبتهم فيها إلى إنشاء معاهد تعليمية ـ التي ربما تحملهم على إعانتها ودعمها المادّي ـ سيكون مصيرها إلى النهاية وتنسدّ في وجوههم الطرق، كما أدرك بذكاءه المفرط وفراسته الإيمانية خلال إقامته الطويلة في أوساط المدارس أنّ العلوم الدينية لا تزال  تكون حجة على طلاّبها ووبالاً عليهم دون أن تفيدهم لما خالط قلوبهم من طلب للنفع الآجل وإقبال على الدنيا وانتقاص في الأجر والشوق إلى اكتسابه والزيادة في الإيمان بينما هي تتعرض للضياع والإهمال من قبل الأوساط العلمية من المسلمين لعدم تقديرهم لها وإعراضهم عنها وعن الإجلال والتقديس لها، ولم يزل يسبب لهم ذلك العقاب من الله ويزيد في غضبه، وهذه الظروف تؤدي إلى الحرمان من بركات هذه المدارس ومنافعها وتأثيراتها، ويقول في ذلك الخطاب له "والسبب الثاني أنّ هذه العلوم لا تزال تفقد الشيء الكثير من منافعها وفوائدها لانفصال الأغراض عنها التي تحمل أصحابها على اكتسابها والاجتهاد فيها، فلا تحصل الآن تلك الأغراض التي ربما كانت تبعث الهمم في طلابها على اكتسابها والاجتهاد فيها والإجلال لها، وذلك ما لفت أنظاري ووجهني نحو القيام بمثل هذا العمل والنهج لهذا المنهج.

وكان الشيخ يرى وجود المدارس لازماً للمسلمين وتقلص ظلال رحمتها عن المسلمين وبالاً لهم وغضباً من الله عليهم، وكان عدد من المدارس والكتاتيب الدينية قد تعرضت للإهمال والضياع في منطقة "ميوات" بسبب أمراض المسلمين وتغافلهم عنها، يقول في ذلك الخطاب له "ينبغي لك أن تنبه الناس على وجود التباطؤ والتساهل في نشاطات المدارس فإنه ربما يؤدي إلى نزول وبال عليهم وحدوث أمر، وعسى أن يسألهم عن ذلك، لما ذا لم يحافظوا على تعليم القرآن الكريم واهتموا به حتى جهله المجتمع المسلم ولم تحترق قلوبنا حسرة وأسفاً ولم ننفق له من أموالنا شيئاً، فكلّ ذلك خطر شديد.

ولكنّ الشيخ كان يرى أنّ هذه المدارس كان قد مهّدها لنا مشائخنا وكبارنا، فكان قد حدث في قلوب الناس بفضل جهودهم الدعوية ومساعيهم التبليغية، كانت من نتيجة ذلك أن أنشأ المسلمون المتدينون الكتاتيب في أماكن كثيرة لتربية النشء الجديد وإبراز الشعور بالواجب الديني في الجيل الجديد، ورأوا هذا العمل لهم سعادة أيما سعادة، ومن مؤثرات هذه البقية الباقية من طلب العلوم الدينية أنّ المدارس لا تزال باقية قائمة على قدمها وساقها، ولا تزال في عمل مستمرّ ونشاط دائم، ويستفيد منها الطلاّب ويكتسبون العلوم الدينية ولكنه لم يزل في انتقاص مستمرّ دون تزايد فيه، وهذه الظروف شديدة تهدد مستقبل الإسلام في هذه البلاد وتهدد كيان المدارس الدينية، فإنّ الثروة التي لا يزال الأخذ منها مستمرّاً دون الزيادة فيها سيؤول إلى النفاد والفناء وإن كان بحراً.

 

الدعوة إلى إثارة هذا الطلب وإبراز الشعور به:

إنّ الشيخ قد نشأت في قلبه داعية ملحّة إلى أنّ أول عمل وأكثر ترجيحاً قبل كلّ شيء هو القيام بالحثّ على طلب الدين فيهم والشعور بكونهم مسلمين، وإنّ هذا الدين لا يمكن الحصول عليه إلاّ بالاكتساب والتعليم والحاجة إلى تعلمه أكثر من تعلّم الصناعات والحرف، فلو نشأت فيهم هذا الطلب والشوق إلى تعلم الدين والشعور بذلك، فستتمّ جميع المراحل بإذن الله، فإنّ المرض الشائع اليوم هو عدم الشعور وفقدان الطلب، وقد أخطأ الناس إذ حسبوا أنّ الإيمان هو موجود فصرفوا انتباهاتهم إلى ما هو من مكملات الدين، واشتغلوا بذلك، رغم أنّ الحاجة لم تزل داعية إلى إيجاد الإيمان أوّلاً وقبل كلّ شيئ، وقد حدث هناك تغيير كبير في التبليغ والتعليم عما كانا عليه في القرون الأولى، أن ضاق نطاقها في ما بعد للطالبين فحسب واقتصر عليهم، فقد كان هناك اهتمام كبير وعناية بالغة لمن يطلب الدين والهداية والتعليم، أمّا الذي لا يشعر بجهله شيئاً ولا يدركه إدراكاً ما فلم يكن أيّ عناية بإرشاده أو التفات إلى تعليمه وتثقيفه بالثقافة الإسلامية رغم أنّ الحاجة كانت ماسة إلى دعوتهم إلى أن ينشأ فيهم الطلب والشوق، فإنّ العالم كله يكون في العصر الذي يبعث فيها الأنبياء عامة في غنى عن نفعه وضرّه مقبلاً على الدنيا فهؤلاء يجتهدون لإثارة الطلب فيهم حتى يحصل لهم من الناس من ينحو نحوهم، فليس التبليغ إلاّ إنشاء الطلب في من يستغنون عنه.

 

الطريق إلى ذلك:

فما الوسيلة إذاً إلى تلقين تلك الأصول والمبادئ للإسلام وبعث الشعور لطلب الدين والحصول عليه فيهم؟؟

إنّ كلمة الإسلام هي حبل الله المتين الذي قد قبض المسلمون بجانب منه فعليكم أن تجذبوهم إليكم لو أمسكتم بهذا الحبل، وهو لا يمتعض عن ذلك ولا يخالف، فإنّ المسلم لا تزال فرصة دعوته إلى الدين وجذبه إليه مواتية ما دام مؤمناً بهذه الكلمة ناطقاً بها بلسانه، فلا بدّ من اغتنام الفرصة الذهبية وانتهازها قبل أن تفوتنا، ـ لا سمح الله ـ

فليس الوسيلة إلى إنشاء التعطش إلى الدين وبعث الطلب إليه في هذا العمران البعيد الأرجاء المترامي الأطراف للمسلمين غير أن يقربوا إلى هذه الكلمة وينادوا باسمها، ويخاطبوا بها، فيلقنوها ويعرفوا بها لو لم يعرفوها ولم يحفظوها، ويصحح نطقهم بها إن كان خطأ، ويشرح لهم معانيها ويكشف عن مزاياها وخصائصها وأغوارها ويبين لهم ما يطالبهم النطق بهذه الكلمة والإقرار باللسان بعبودية الله وطاعة الرسول، وهكذا نقربهم إلى الالتزام بأحكام الله ورسوله، أولها وأجلّها وأكثرها اهتماماً هو الصلاة، وقد جعل الله فيها قوة تبعث في الملتزم بها والمواظب عليها بكلّ اهتمام استعداداً للعمل بجميع أحكام الدين وسائر واجباته، كما أنها أكبر وأوّل دليل على ما يقرّب الإنسان من عبودية لربه تبارك وتعالى، ثمّ يبذل عنايته نحو التعلق بذات الله تبارك وتعالى وزيادته فيه، ويرغب في الإكثار من ذكر الله لكي يتقدم إلى الأمام ويزداد إيماناً وقوة في الدين، ويلقي في روعه أنّ قضاء هذه الحياة الدنيا كمسلم مؤمن بالله يتطلب الاطلاع على مرضاة الربّ تبارك وتعالى والوقوف على أحكام الشريعة وفرائضها، فكما أنّ أيّ صناعة أو عمل لا يمكن الحذق فيها دون الاكتساب والتعلم كذلك أمر الدين الذي لا يحصل بدون طلبه، والذي يظنّ أنه قد حصل له بدون اكتساب فهو على خطأ ووهم، فلا بدّ من بذل شيء من أوقاته وترك بعض أشغاله لنيل علم الدين.

وهذا العمل قد توسع نطاقه وانتشر إلى حدّ لا يكفي للقيام به عدد قليل من الناس، بل لا بدّ من بذل السعي لأجل ذلك في عامة الناس ودعوتهم إلى القيام بهذا العمل المهمّ، وكان الشيخ يقول لو لم يقم لمليارات من الناس ملايين لا يتمّ هذا العمل، لأنّ الناس لا يعرفون الدين يجاوز عددهم المليارات، والذين يعرفون لا يجاوزون المليون.

ويرى الشيخ أنّ هذا العمل ونشره في العالم الإسلامي يحتاج إلى حركة شاملة ونشاط دائم وحماسة دائبة وسعي متواصل، وهذا التحرك والسعي الدؤوب هو الأصل في حياة المسلمين، فإنّ الهدوء والسكون وأشغال هذه الدنيا هي كلها مؤقتة، وبناء جماعة المسلمين على هذا التحرك والحماس والعمل، وذلك هو غرض ظهورهم وخروجهم إلى هذه الأرض. "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله". وإلاّ فلم يكن هناك نقص في شيء من أعمال الدنيا من التجارات الرابحة والسكون فيها والانهماك في لذائذها والحياة المدنية حتى تمسّ الحاجة إلى إخراج أمة جديدة لها، والمسلمون قد أصيبوا بالزوال ومنوا بالانحطاط منذ أن اتخذوا هذا العمل المطلوب في حياتهم والحياة الاجتماعية للمسلمين وراءهم ظهريّاً، وأقبلوا على حطام الدنيا وأهملوا هذا الجانب من حياتهم الذي كان الغرض الأساسي لخلقهم، الذي كان عنوانه الخلافة الراشدة، وواجهوا التوتر الروحي والانحلال الخلقي والضعف الباطني، وبدأوا يتسربون إليه منذ أن انقطعوا إلى الحياة المدنية المليئة بالأشغال، يقول الشيخ محمد إلياس ـ والتاريخ يصدق كلامه تماماً  ويحمل في طيه شهادات على يدّعي ـ قائلاً "إننا تركنا الخروج في سبيل الله بشكل الجماعات والوفود رغم أنّ هذا العمل كان هو الأصل والأساس فكان ـ عليه السلام ـ يقوم بالجولات الدعوية بنفسه ويرافقه كلّ من أسلم وبايع على يديه كأنه مرافق مجنون، ولمّا كان المسلمون في مكة يعدّون على بنان الأصابع فكان كلّ واحد قبل الإسلام يحاول بعد إسلامه ويجتهد لعرض الإسلام على غيره على انفراد ويسعى لذلك سعياً بليغاً، أمّا المدينة المنورة فكانت الحياة فيها حياة اجتماعية ومدنية، فبدأ إثر وصوله إليها ونزوله بها يرسل الوفود ويبعث البعثات، وكلّ من تقدم خطا خطواته إلى القوة العسكرية، أمّا السكون فلم يحصل إلاّ لمن كان مرجعاً وفيئاً للدعاة المتجولين وسبباً للجولة والتحرك، فكان المشي والسعي والتحرك لأجل الدين والفرار في سبيل الله هو الأصل الذي إذا أعرض عنه أصيبت الخلافة بالانقسام.

 

نظام العمل وخطته:

وإذا ينشأ هناك سؤال، لمّا بدأت الجماعات تننقل وتسير من مكان إلى آخر وأخذت تتبنى هذا العمل فأي نظام تلتزم به وما طريق العمل، وإلى أيّ شيء تدعو الناس وما هي الأمور التي تلقن كلّ ما تلقاه وتواجهه، يجيب الشيخ ويقول ردّاً على هذه الأسئلة كلها في خطاب له "إنّ الدعوة في الحقيقة هي إلى أمرين، أمّا الأمور الأخرى فمن مكملاتها، منهما شيء مادّيّ وآخر روحيّ، والمراد بالمادّيّ أنه يتعلق بالجوارح، وهو إحياء سنة التنقل من بلد إلى آخر، ومن مدينة إلى غيرها جماعات ووفوداً لنشر جميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم وترسيخ جذور هذه السنة ودعمها وتطويرها، أمّا الأمر الروحي فمعناه الدعوة إلى التضحية بالعواطف وتعويد النفوس على التضحية بأنفسها في سبيل الله، وإليه يشير قول الله تعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"، وقول الله تعالى " وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون"، أي لا يرى لنفسه قيمة في طاعة الله تعالى و إزاء أمره.

1.ونعير اهتمامنا بعد خروجنا في سبيل الله بالأمور حسب الأهمّ فالأهمّ مما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الله، ومن سوء حظنا اليوم أننا نجهل الكلمة الطيبة وحقيقتها فلا بدّ من الاهتمام بها وإحلالها الأولية والأقدمية في أعمالنا، ولا بدّ من أن نهتمّ بالتركيز عليها، وهذه الكلمة هي المعاهدة الإلهية لطاعة الله، وأنّ لنا شغلاً غير التضحية في سبيل الله.

2.السعي الحثيث في تصحيح مسائل الصلاة وما يتعلق بها وأن تكون صلواتنا على طريقة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد إكمال عملية تصحيح الكلمة.

3.الاشتغال بالعلم والذكر حسب القوة والاستعداد البدني في ثلاث أوقات من الصباح والمساء وجزء من الليل.

4.الخروج والتنقل من بلد إلى آخر لنشر هذه التعاليم واعتبار ذلك واجباً من واجباتنا.

5.النية لتحسين الأخلاق في هذا التجول والتنقل والنشاط والتحمس في أداء واجباته سواء ما يتعلق بالخالق أو ما يتعلق بالخلق لأنّ كلّ إنسان مسؤول عن نفسه أولاً.

6.تصحيح النية أي محاولة جادّة لابتغاء وجه الله بالعمل بما أمره به نظراً إلى ما ذكر من الوعد أو الوعيد عن كلّ عمل، وكذا لإصلاح ما بعد الموت.

 

وأكبر فتن هذا العصر التي هي منبع لكثير من المفاسد والمهلكات والتي حرمت الكثير من المسلمين في ما بينهم حتى حرم بعضهم مزايا ومحاسن غيره، وكذا حرم الإسلام خصائص المسلمين وكمالاتهم الكثيرة هي احتقار المسلمين والاستهانة بهم، كأنّ كلّ مسلم قد عدّ نفسه صاحب الأخلاق الفاضلة جميعها ومتحلياً بجميع الحسنات والآخر معيباً لا خير فيه، وبناء على ذلك توهّم أنه أحقّ من غيره بالإكرام، وغيره ليس من نصيبه إلاّ الاحتقار والاستهانة، وهذه الفكرة إنما هي رأس كلّ فتنة ظهرت في حياة المسلمين الاجتماعية والدينية، والتي أقضت مضجع كلّ مسلم.

وكان من توفيق الله عزوجلّ له أنه ألقي في روعه الفكرة إلى الشعور بهذال الخلل وسدّه فجعل لإكرام المسلم مكانة في الأصول والمبادئ التي اختطها لحركته الدعوية، وبنيت هذه الفكرة وأسست على لقاء كلّ نوع من الناس، فالذي يقوم بهذه الدعوة يواجه رجالاً من كلّ فنّ وقسم، فلو لم يلتزم أصحابها بهذا المبدأ من مبادئ هذه الحركة ولم يدربوا على التمسك به لأدت إلى حدوث فتن وبلابل، وعلى قول الشيخ كلّ فتنة تظهر في قرون عامة ستخرج رأسها في أسبوع وشهر لو لم يتمّ الالتزام بالمبادئ والأصول المعينة لهذه الحركة الدعوية.

ولقد غير الشيخ ما شاع في هذا العصر من أنّ الإنسان في نفسه يحمل جميع الأخلاق الفاضلة بينما يحمل غيره جميع العيوب، غيّرها بالتأكيد على أنّ ينظر كلّ واحد إلى عيوبه وينظر إلى محاسن غيره ومزاياه حتى ينتفع بها، ولو اطلع على شيء من عيوبه ستره وأغمض عينيه عنه، فإنّ هذا هو الذي يسدّ جميع أبواب الشرّ ويدفع جميع الأمراض التي أصيبت به الأمة الإسلامية، يقول في خطاب له "لا يخلو مسلم من خير وشرّ، فإذا كان أحد يحمل في نفسه عيوباً ففي جانب يحمل محاسن، فلو شاع بيننا الإغماض عن العيوب وسترها وإخفاؤها والرضى بالمحاسن وتحسينها، ولو تعودنا على ذلك لارتفع عنا كثير من المفاسد والعيوب بدون عناء وتعودت النفوس على الحسنات بأنفسها ولكنّ العادة تجري خلاف ذلك، وقد ركز في قلب كلّ من يتصل به ويعمل عمل الدعوة تحت لواءه أهمية الكلمة والاحترام لكلّ من ينطق بها إلى حدّ أن أصبح ذلك من طبيعة هؤلاء ودأبوا على ذلك، وصار جزءاً من عادتهم وعملهم، ولم يكن ذلك قولاً وخطاباً فحسب، بل عوّدهم على ذلك بالعمل وجعل نفسه نموذجاً، وأول ما عمل به بنفسه، وقد عوّدهم على أن ينظروا من كلّ مسلم عند التعامل معه أو دعوته إلى إشعال تلك الجمرة الإيمانية التي لا زالت باقية في قلبه، ويحاولوا إشعال تلك الجمرة وإلهابها، وتكون بين أيديهم خلال دعوته نسبته إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه من أمته، فكأنّ الشيخ قد أعطاهم مكبرة ينظرون بها إلى كلّ ذرة حقيرة بقدر كبير، وقد أمنت هذه الحركة من عشرات من الفتن الموهومة التي كان يرجى أن تحدث بسبب التجول في مختلف القبائل وارتياد الكثير من الأماكن بعد ما انضاف إلى مبادئها هذا المبدأ المهمّ.

 

كما حفظت هذه الحركة مبادئها الأخرى من المواظبة على الذكر والاشتغال بالعلم والاجتناب عما لا يعني وطاعة الأمر والتأكيد على العمل حسب النظام الاجتماعي من كثير من المفاسد التي يتسارع إلى كلّ من ينهض لإصلاح الناس وتأديبهم وتذكيرهم دون التقيد بأيّ شرط أو وصف من الأوصاف التي يتطلبها هذا العمل المهمّ.

 

الحاجة إلى إعداد البيئة للقيام بهذه الدعوة والعمل عليها:

إنّ البيئة والأرض للدين عند الشيخ هما الإيمان وأصول الدين، وتبليغه والتنقل لترسيخ هذه الفكرة في القلوب من بلد إلى آخر والسعي لنشره بين الناس إنما هو بمنزلة حرث الأرض والتمهيد لها، والسعي لنشره ـ الذي سبق الحديث عن طريقته ـ كلّ ذلك بمنزلة حرث تلك الأرض وسقيها، أمّا المؤسسات والمعاهد الدينية وشعب الدين المختلفة ومظاهر الحياة الأخرى ومناظرها المختلفة كلّ ذلك بمنزلة الحدائق التي تنبت على تلك الأرض وتثمر قدر ما تسقى وتعاهد، فلا بدّ إذاً أوّلاً وقبل كلّ شيء من حرث الأرض وسقيها وإعدادها لقبول البذور.

وإنّ الشيخ رحمه الله كان قد كتب إلى بعض من رجال ميوات خطاباً وضح فيه هذه الفكرة وشرحها قائلاً " إنّ عملية الدعوة والتبليغ ـ من بين حميع الشؤون والأعمال الدينية والمؤسسات التي تعمل لها ـ والسعي له متنقلاً في البلاد مع الالتزام بمبادئه الصحيحة هي كلّها بمنزلة حرث الأرض وسقيها، أمّا الشؤون الأخرى فهي حدائق تجعل على تلك الأرض فتنمو وتؤتي أكلها، والحدائق أنواع فمنها للثمر ومنها ما هي خاصة بالرمان، ومنها ما تثمر التفاح وحدائق ينبت فيها الموز فحسب، وبعضها يختص للأزهار فحسب بالغة ما بلغت من الأنواع، ولكن لا ثثمر حديقة منها دون الالتزام بشيئين أوّلهما إصلاح الأرض وتمهيدها لهذا العمل، فلا تكاد تنمو شجرة على أرض صالحة فضلاً عن الحديقة كما لا تزدهر حديقة دون الاعتناء والاهتمام بها، وهو الأمر الثاني، فهذه الحركة الدعوية بمنزلة أرض الدين، والمؤسسات هي تلك الحدائق والأرض حتى الآن غير ممهدة وغير صالحة فأنى لها الإثمار وازدهار الحدائق عليها؟"

وكان الشيخ يرى أنّ الاشتغال بما هو أمر آخر قبل تمهد الأرض وتقوية بنيانها والاهتمام به وبذل جميع الهمم والمجهودات فيه وعقد الرجاء فيه بالخير كلّ ذلك خطأ، ويقول في رسالة له ويوضح هذه الفكرة "إنّ الأمة التي سقطت في هاوية حتى لم تكن تعرف حقيقة الكلمة الطيبة لا إله إلاّ الله كيف تصلح دون الاعتناء بإصلاح مبادئها، فإنها لا تكاد تبلغ منتهاها إلاّ أن تصلح بدايتها، ولذلك أعرضت عن الاشتغال بالتوسط والنهاية، فإنّ مبادئ الأمور إذا صلحت وسلكت طريقها فلا جرم أنها تشقّ طريقها إلى الأمام وتبلغ منتهاها، والاهتمام بالنهاية مع فساد البداية ليس إلاّ بلاهة وحمقاً".

وفي فترة ثارت هناك مناظرات ومباحثات في ميوات في بعض المسائل الخلافية حتى اجتمع لها الناس وأرهفوا أسماعهم إليها بلهف وشوق بالغين، ولمّا بلغ ذلك الشيخ كتب إلى أهل ميوات "ينبغي أن يعلن في كلّ مسجد وجامع وفي كلّ اجتماع أنّ الأمة التي لا يعرف عنها  ـ على الصعيد العالمي ـ أنها قامت بإصلاح الكلمة الطيبة والمعرفة بحقيقتها ومعناها والذي هو أساس الدين كيف يسوغ الاشتغال بما هو أكبر منه، فإنّ الانقطاع عما هو الأهمّ إلى المرحلة التي بعدها خطأ بيّن، فإنّ الأشياء الكبيرة لا تصحّ وتصلح بدون إصلاح مبادئها.

حركة الإيمان:

وبناء على هذا إنّ الشيخ كان يسمي دعوته تلك ـ التي ظهرت لإثارة الإيمان وتقويته في النفوس وترسيخ جذور ومبادئ الدين وأصوله في مبادئ المسلمين ـ بحركة الإيمان، وكان يراها لازمة لبقاء الدين حتى أنّ كلّ تضحية وتقدير تصدران لها يسددهما ويصوبهما، يقول في خطاب له، وجهه إلى أحد أتباعه "لا يخطر ببالي شيء آخر لتنشيط هذه الحركة وتحويل هذه الفكرة إلى العمل غير أن يستعدّ الآلاف المؤلفة من الناس للتضحية والفداء بأنفسهم ونفائسهم في سبيل الله، "إنّ الدعوة والتبليغ بهذا المنهج جزء لازم مهمّ للجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ونشر الدين الصحيح وهو ـ بدون شكّ ـ أقرب الطرق والمناهج الدعوية الشائعة إلى الطريقة النبوية وأشبهها بها".

 



[1] هذا هو الباب الثامن الأخير من كتاب "الشيخ محمد إلياس ودعوته الدينية" التي ألفها الشيخ الجليل أبوالحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، شرح فبه فكرة الشيخ محمد إلياس وهو الباب المهمّ ولكن الأسف أنّ الأستاد المرحوم نورعالم الأميني الندوي عندما نقل الكتاب أهمل هذا الباب المهم ولم يترجمه، فنقدمه إلى القراء العرب ليطلعوا علي فكرة الشيخ مؤسس هذه الدعوة ومبادئه لها، والناس في حاجة إلى الاطلاع على هذه الفكرة في هذا العصر الذي كثر فيه اللغط حول هذه الجماعة والحركة الدعوية.

[2]استهاوان التابعة لبلدة بهارشريف، الهند.