شخصيّة عائشة أمّ المؤمنين مع النبيّ (الزوج) في حديث الإفك

التبرئة الخالدة للسيّدة مريم والسيّدة عائشة

كان شرفاً كبيراً للسيّدة عائشة أن يقترن اسمها باسم السيّدة مريم ابنة عمران. فلم يحدث أن برّأ القرآن الكريم امرأةً من إفكٍ افتُريَ عليها، وفي سورةٍ كاملةٍ كانت هي محورَها الأساسيّ، باستثناء امرأتين اثنتين: السيّدة مريم في (سورة مريم)، ثمّ السيّدة عائشة في (سورة النور):

-             إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١١ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴿١٢ لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَـٰئِكَ عِندَ اللَّـهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴿١٣ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١٤ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمٌ ﴿١٥ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴿١٦يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿١٧﴾ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١٨﴾ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿١٩﴾ [النور: 11-19]

ولم تكتف سورة النور بتبرئة السيّدة عائشة والدفاع عنها، بل أعطت درساً خالداً للمؤمنين ليتعلّموا كيف يظنّون بأنفسهم خيراً، وكيف يَحمون سمعة نسائهم وسيرتهنّ، وكيف يتعاملون مع مثل هذه الافتراءات في المستقبل، وكيف يجب ألّا يتكرّر مثل هذا الذنب الكبير مِن الإفك، لأنّه أعظم عند الله ممّا يتصوّرون "وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمٌ"، ويحذّرهم ويحذّر غيرهم "أن يعودوا لمِثْلِه" إن كانوا يدّعون أنّهم مؤمنون حقّاً، ويبيّن لهم عظمة العقاب الذي ينال من يفترون الإفك على النساء الطاهرات، في الدنيا والآخرة "لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة". هكذا تتالت الآيات في تفصيل مثل هذه الدروس مؤكِّدةً:

1-                أنّ الإفك أصبح، في النهاية، خيراً للسيّدة عائشة. فقد كان مناسَبةً لنزول تبرئةٍ خاصّةٍ وواضحةٍ وأبديّةٍ لها من السماء، وسوف تظلّ هذه التبرئة تتردّد على ألسنة الناس في القرآن الكريم إلى يوم الدين.

2-                وأنّه كان خيراً للمؤمنين. فقد تلقّوا درساً خالداً من السماء في الحرص على حماية سمعة المؤمنات، وفي طريقة التعامل مع مثل هذه الافتراءات في المستقبل: "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ".

3-                وأنّ كلّ من شارك في الافتراء له نصيبٌ من العقاب والعذاب، ولكنّ العقوبة الأكبر هي للمفتري الأكبر: "لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ".

4-                وأنّ على المؤمنين أن يُحسنوا الظنّ بأنفسهم وبالآخرين عندما يسمعون مثل هذه الافتراءات في المستقبل، وأن يحفظوا ألسنتهم ويتجنّبوا الخوض فيها: "لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ".

5-                وأنّ على مَن يردّدون مثل هذه الإشاعات الكاذبة حدَّ رمي المحصِنات والمحصِنين إن لم يأتوا بأربعة شهداء على ما يقولون، وإلّا وُسِموا عند الله باسمٍ لا يفارقهم أبداً (الكاذبون): "لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَـٰئِكَ عِندَ اللَّـهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ".

6-                وأنّ الاستهانة بترديد مثل هذه الأحاديث بحقّ المؤمنات الغافلات، أيّة مؤمنةٍ، فضلاً عن أمّهات المؤمنين، ليس من الذنوب العاديّة، بل هو عند الله من أعظم الآثام: "وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمٌ".

7-                وأنّ ردّة فعل المؤمنين في مثل هذه الحالات يجب أن تكون برفض الخوض في أحاديثها: "وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ".

8-                وأنّ شيوع مثل هذه الاتّهامات الكاذبة وانتشارها بين المؤمنين من شأنه أن يهوّن على الناس بعد ذلك وقوع مثلها بينهم دون حرجٍ كبير، فتشيع الفاحشة شيئاً فشيئاً في المجتمع. إنّهم لا يدركون خطورة ما يردّدون، ولكنّ الله عالمٌ بما يوصل إليه السير في هذه الطريق، وكيف تكون نهايته: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".

9-                وهذا التحذير الأخير، يتبعه في السورة بعد قليلٍ تحذيرٌ أشدّ، وهو أنّ لعنةً ستلحق هؤلاء المفترين، لعنةٌ أبديّةٌ لا تفارقهم في هذه الحياة الدنيا، مثل تلك التي لحقت بفرعون وجنوده "وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ[القَصص: 42]، فضلاً عمّا يدّخره الله لهم في الآخرة من عذابٍ عظيم:

-             إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٢٣﴾ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٢٤﴾ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴿٢٥﴾ [النور: 23-25]

10-            وتُختتم هذه الآيات بآيةٍ من شأنها أن تغلق الطريق نهائيّاً على من يمكن أن تراوده نفسه مستقبلاً بالنَّيل من زوجات الرسول (ص) ورميهنّ بالسوء. إنّ اتّهامكم لأيّة زوجةٍ من زوجات نبيّكم هو بمثابة اتّهامٍ للنبيّ نفسه، وإذا كانت الخبيثة لا يتزوّجها إلّا خبيث، والطيّبة لا يتزوّجها إلّا طيّب، فكيف تجرؤون على توجيه مثل هذه التهمة الخبيثة لزوجة نبيّكم:

-                  الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور: 26]

 

شخصيّة عائشة الزوجة؛ مع النبيّ "الزوج" في حديث الإفك

كانت محنة "الإفك" التي مرّت بها السيّدة عائشة، ومرّ بها نبيّنا الكريم (ص) أيضاً، تجربةً فريدةً لها، وصورةً فريدةً بين أيدينا لها، لآليّة تعاملها مع الرسول (ص) زوجاً، وتعاملها معه نبيّاً معاً.

لقد تمتّعت السيّدة عائشة بشخصيّةٍ قويةٍ مميَّزةٍ فاقت بها قريناتِها من أمّهات المؤمنين. وكانت تملك ما لا يملكه الأخريات من مقوّمات الثقة بالنفس، ومن الشعور بالمسؤولية، والاعتزاز بمكانتها كزوجةٍ لنبيٍّ رُشِّحت له من الله تعالى نفسِه، ثمّ بُشِّرت، فوق ذلك، بأنّها ستكون زوجته في الجنّة:

- عن عمّارِ بنِ ياسرٍ قال: ".. واللهِ إنّها أي عائشة لَزَوجةُ نبيِّكُمْ (ص) في الدّنيا والآخِرة". [رواه البخاري]

وكأيّة زوجةٍ؛ ستمرّ في حياتها الزوجية مع رسول الله (ص)، على قِصَرها، إذ لم تدُم أكثر من تسع سنوات (2-11ه)، بتجارب وعقباتٍ وأحداثٍ، منها الصغير ومنها الكبير ومنها الجسيم، ولكنّ حديث الإفك احتلّ قمّة هذه الأحداث في حياتها الزوجية، كيف لا، وقد نزل فيه قرآنٌ تقرأه الأمّة الإسلاميّة والعالم كلّه أبد الدهر؟

كانت تجربة الإفك شديدة الوطأة على عائشة، شدّةً صَقَلَتْ شخصيّتها، وأبرزت منها ما كان لمّا يَزَل، كامرأةٍ في العِقد الثاني من عمرها، في طور النضج من جوانب شخصيّتها الفريدة التي جعلتها الأكثر قُرباً إلى قلب رسول الله (ص)، وقد حدث أن شبّهها بالثريد إذا قورن مع باقي الأطعمة:

-                  عن أبي موسى الأشعريِّ قال: قالَ رسولُ اللهِ (ص): "كَمُلَ مِنَ الرِّجالِ كثيرٌ، ولم يَكْمُلْ منَ النِّساءِ إلّا مريمُ بنتُ عِمرانَ، وآسِيةُ امرأةُ فِرْعَونَ. وفضلُ عائشةَ على النِّساءِ كفَضلِ الثَّريدِ وهو قِطَعٌ من الخُبزِ يُصَبُّ فوقَها اللحمُ والمَرَق على سائرِ الطَّعامِ". [رواه البخاري]

ولا مفرّ من التعرّض لحديث الإفك في هذه الدراسة إذا أردنا أن نتعرّف بعمقٍ جوانب هذه الشخصيّة، وطبيعة الحياة الزوجيّة لأمٍّ بمثل ذلك الموقع من أمّهات المؤمنين، لنتعرّف من خلال ذلك أسرارَ بيت النبوّة، وشكل الحياة العائليّة داخل هذا البيت.

والواقع أنّني تردّدتُ كثيراً في إيراد الحديث الذي تقصّ فيه علينا السيّدة عائشة تجربتها مع حديث الإفك، ليس لطوله فحسب، بل لدقّة الأمور التي تتعرّض لها هذه الرواية، ولعرضها تفاصيل صغيرةً جدّاً، ولكن هامّةٌ جدّاً، لحياتها الزوجيّة مع صاحب الخُلُق العظيم (ص). ومع ذلك، كان لا بد من اختصار هذا الحديث (إلى النصف تقريباً) والاكتفاء بأبرز النقاط التي تهمّنا فيه بشأن طبيعة النسيج الداخليّ لبيت النبوّة. تقول أمُّ المؤمنين:

-       "كانَ رَسولُ اللَّهِ (ص) إذَا أرَادَ أنْ يَخْرُجَ سَفَراً؛ أقْرَعَ بيْنَ أزْوَاجِهِ، فأيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بهَا معهُ، فأقْرَعَ بيْنَنَا في غَزَاةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ معهُ، بَعْدَ ما أُنْزِلَ الحِجَابُ أي كان ذلك بعد نزولِ آيةِ الحِجابِ الخاصّةِ بنساءِ النبيِّ (ص) ، فأنَا أُحْمَلُ في هَوْدَجٍ، وأُنْزَلُ فِيهِ أي أثناءَ الرحلة . فَسِرْنَا، حتَّى إذَا فَرَغَ رَسولُ اللَّهِ (ص) مِن غَزْوَتِهِ تِلْك، وقَفَلَ، ودَنَوْنَا مِنَ المَدِينَة، آذَنَ لَيْلَةً بالرَّحِيل أي أعلنَ ليلاً التحرّكَ مِنَ المكان باتّجاه المدينة ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بالرَّحِيلِ، فَمَشَيتُ حتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أي قضَتْ حاجتَها بعيداً عن الجيش أقْبَلْتُ إلى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ أظْفَار وهو عِقدٌ مِن خَرَزٍ مِن صُنعِ (أظفار) في اليمن قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ أي أخّر البحثُ عنه عودتي إلى المعسكَر ، فأقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي أي الذين كُلِّفوا تهيئةَ هَودَجي مِنَ الجنود ، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ علَى بَعِيرِي الذي كُنْتُ أرْكَبُ، وهُمْ يَحْسَبُونَ أنِّي فِيهِ، وكانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ خِفَافاً لَمْ يَثْقُلْنَ ولَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ تَقصِدُ نَفسَها ، وإنَّما يَأْكُلْنَ العُلْقَةَ أي القليل مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الهَوْدَج أي لم يجِدوا غرابةً في خِفّتَهٍ لصغر سنّها وخفّة وزنها ، فَاحْتَمَلُوهُ، وكُنْتُ جَارِيَةً أي فتاةً صغيرةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الجَمَلَ أي دفعوه للتحرّك -وسَارُوا. فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ ما اسْتَمَرَّ الجَيْشُ أي بعدَ أن مرَّ وتحرّكَ مِن مَكانِه ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ أي مكانَ مُعسكَرِهم وليسَ فيه أحَدٌ، فأمَمْتُ مَنْزِلِي الذي كُنْتُ به أي اتّجهتُ إلى مَوضِعي الذي عَرَفوني فيه حتّى يهتدوا إليّ إذا بحثوا عنّي فَظَنَنْتُ أي قَدَّرْتُ أنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي، فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ. فَبيْنَا أنَا جَالِسَةٌ؛ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ. وكانَ صَفْوَانُ بنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ، ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ، مِن ورَاءِ الجَيْشِ وقد كان مكلّفاً بأن يجمعَ ما يَحدُثُ أن ينساه الجنود عادةً في المكان بعد رحيلِهم فأصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي أي وصل إلى حيث أُوجَد -، فَرَأَى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ، فأتَانِي، وكانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجَابِ أي عَرَفَها لأنّه كان يرى وجهَها قبل فرضِ الحجابِ على نساءِ النبيِّ (ص) ، فَاسْتَيْقَظْتُ باسْتِرْجَاعِهِ - أي استيقظَتْ على صوتِه يردّد: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، حِينَ أنَاخَ رَاحِلَتَهُ -  أي ما لبِثَ بعد ذلك أن أناخَ ناقتَه - فَوَطِئَ يَدَهَا، فَرَكِبْتُهَا.
فَانْطَلَقَ يَقُودُ بي الرَّاحِلَةَ، حتَّى أتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَ ما نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ أي وصلْنا إلى الجيشِ بعد أن عَسكَروا يستريحون في عزِّ شمس الظهيرة ، فَهَلَكَ مَن هَلَكَ أي أهلكَ نفسَه بعد ذلك مَن تَورّطَ بخَوضِه في حديثِ الإفكِ عنها، واتّهامِها بالزنى مع ابنِ المُعطَّل .
وكانَ الذي تَوَلَّى الإفْكَ أي اختلَقَه وابتدأ الحديثَ فيه أوّلاً عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُول، فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ بهَا شَهْراً أي صادف أن مَرِضتْ بعد عودتِها لمدّةِ شهر ، والنَّاسُ يُفِيضُونَ مِن قَوْلِ أصْحَابِ الإفْكِ وهي لا تَعلَم ، ويَرِيبُنِي في وجَعِي أنِّي لا أرَى مِنَ النبيِّ (ص) اللُّطْفَ الذي كُنْتُ أرَى منه حِينَ أمْرَضُ! إنَّما يَدْخُلُ فيُسَلِّمُ، ثُمَّ يقولُ: كيفَ تِيكُمْ أي تلكم ، لا أشْعُرُ بشيءٍ مِن ذلكَ أي ولم يخطُرْ ببالي ما كان يجري مِن حولي .
حتَّى نَقَهْتُ أي أبللتُ مِن مَرَضي ، فَخَرَجْتُ أنَا وأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ مكانٍ في أطرافِ المدينةِ كانوا يتبرّزون فيه مُتَبَرَّزِنَا، لا نَخْرُجُ إلّا لَيْلاً إلى لَيْلٍ أي لا تذهبُ إليه النساءُ إلّا ليلاً خشيةَ الانكشافِ على الرجال، وذلكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيباً مِن بُيُوتِنَا فلم يكن في بيوتِ المدينةِ آنذاك دوراتُ مياهٍ، ثمّ خُصّصَ لها بعد ذلك أماكنُ قريبةٌ من البيوتِ، وليس في البيوتِ نفسِها ، وأَمْرُنَا أمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ، في البَرِّيَّةِ أوْ في التَّنَزُّهِ أي هكذا كان شأنُ عربِ الجزيرةِ كلّهم . فأقْبَلْتُ أنَا وأُمُّ مِسْطَحٍ بنْتُ أبِي رُهْمٍ نَمْشِي، فَعَثَرَتْ في مِرْطِهَا أي تعثّرت بإزارِها وسقَطَتْ ، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ وهو مِسطَحُ بنُ أُثاثة، أحدُ أقرباءِ أبي بكرٍ ممّن خاضوا في حديثِ الإفك . فَقُلتُ لَهَا: بئْسَ ما قُلْتِ، أتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً؟ فَقَالَتْ: يا هَنْتَاهْ أي يا للخِزي ، ألَمْ تَسْمَعِي ما قالوا؟ فأخْبَرَتْنِي بقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ! فَازْدَدْتُ مَرَضاً علَى مَرَضِي..
فأصْبَحَ عِندِي أبَوَايَ أي جاءا إليّ في الصباح ، وقدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ ويَوْماً حتَّى أظُنُّ أنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. قَالَتْ: فَبيْنَا هُما جَالِسَانِ عِندِي، وأَنَا أبْكِي، إذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ، فأذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي. فَبيْنَا نَحْنُ كَذلكَ إذْ دَخَلَ رَسولُ اللَّهِ (ص)، فَجَلَسَ، ولَمْ يَجْلِسْ عِندِي مِن يَومِ قيلَ فِيَّ ما قيلَ قَبْلَهَا، وقدْ مَكَثَ شَهْراً لا يُوحَى إلَيْهِ في شَأْنِي شيءٌ. قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَال: يا عَائِشَةُ، فإنَّه بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وكَذَا، فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وتُوبِي إلَيْهِ، فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ؛ تَابَ اللَّهُ عليه.
فَلَمَّا قَضَى رَسولُ اللَّهِ (ص) مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي أي جَفَّ الدمعُ في مآقيها مِن صدمتِها وشدّةِ غضبِها حتَّى ما أُحِسُّ منه قَطْرَةً! وقُلتُ لأبِي: أجِبْ عَنِّي رَسولَ اللَّه! قَال: واللَّهِ ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسولِ اللَّه! فَقُلتُ لِأُمِّي: أجِيبِي عَنِّي رَسولَ اللَّه فِيما قَال! قَالَتْ: واللَّهِ ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسولِ اللَّه! قَالَتْ: وأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لا أقْرَأُ كَثِيراً مِنَ القُرْآنِ أي قليلةُ العِلمِ والقراءةِ، فلا أُحسِنُ الدفاعَ عن نفْسي ، فَقُلتُ: إنِّي واللَّهِ لقَدْ عَلِمْتُ أنَّكُمْ سَمِعْتُمْ ما يَتَحَدَّثُ به النَّاسُ، ووَقَرَ في أنْفُسِكُمْ، وصَدَّقْتُمْ به، ولَئِنْ قُلتُ لَكُمْ إنِّي بَرِيئَةٌ، واللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَبَرِيئَة، لا تُصَدِّقُونِي بذلكَ، ولَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بأَمْرٍ أي لو قلتُ لكم: نعم، ما يقولونه عنّي صحيح ، واللَّهُ يَعْلَمُ أنِّي بَرِيئَة، لَتُصَدِّقُنِّي! واللَّهِ ما أجِدُ لي ولَكُمْ مَثَلاً إلّا أبَا يُوسُفَ إذْ قَال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، واللَّهُ المُسْتَعَانُ علَى ما تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
ثُمَّ تَحَوَّلْتُ علَى فِرَاشِي أي انقلبْتُ عليه مُوَلِّيَةً ظهري لهم - وأَنَا أرْجُو أنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ، ولَكِنْ، واللَّه، ما ظَنَنْتُ أنْ يُنْزِلَ في شَأْنِي وحْياً، ولَأَنَا أحْقَرُ في نَفْسِي مِن أنْ يُتَكَلَّمَ بالقُرْآنِ في أمْرِي! ولَكِنِّي كُنْتُ أرْجُو أي غايةُ ما كنتُ أرجوه أنْ يَرَى رَسولُ اللَّهِ (ص) في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ. فَوَاللَّهِ ما رَامَ مَجْلِسَهُ أي لم يتحرّكْ مِن مَجلسِه ولَا خَرَجَ أحَدٌ مِن أهْلِ البَيْتِ، حتَّى أُنْزِلَ عليه الوَحْيُ، فأخَذَهُ ما كانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ أي مِنَ الشدّةِ والعَرَقِ حين نزولِ الوحي ، حتَّى إنَّه لَيَتَحَدَّرُ منه مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ في يَومٍ شَاتٍ أي في يومٍ شَتَويٍّ ماطر . فَلَمَّا سُرِّيَ عن رَسولِ اللَّهِ (ص) وهو يَضْحَكُ، فَكانَ أوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بهَا أنْ قَالَ لِي: يا عَائِشَة، احْمَدِي اللَّهَ، فقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ! فَقَالَتْ لي أُمِّي: قُومِي إلى رَسولِ اللَّهِ (ص) أي لتَشْكُريه . فَقُلتُ: لا واللَّه، لا أقُومُ إلَيْهِ، ولَا أحْمَدُ إلّا اللَّهَ! فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ} الآيَاتِ [سورة النور: 11-16]". [رواه البخاري]

من المهمّ جدّاً، واللافتِ لنظر أيّ رجلٍ يقرأ هذا الحديث، أن يتوقّف عند هذا الخطاب النبويّ الرقيق، والمتسامح، والمبشِّر، الذي يخاطب فيه زوجته المتّهمة بالزنى، وأن يُجري على نفسه اختباراً لأعصابه، ومدى تحمّله لمثل هذا الموقف. هذا هو، فقط، كلّ ما قاله الزوج النبيّ لزوجته المتّهمة بالزنى:

"يا عَائِشَةُ، فإنَّه بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وكَذَا، فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وتُوبِي إلَيْهِ، فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ؛ تَابَ اللَّهُ عليه"

مَن منّا، هكذا أقولها بصيغة جمع المتكلّمين، لأنّني أخاطب نفسي أنا أيضاً، مَن منّا يستطيع اليوم، ونحن نعيش عصر العلم والثقافة والانفتاح والتحرّر وحقوق المرأة وحقوق الإنسان، أن يتمالك أعصابه، ويلتزم، وهو يخاطب زوجته، بمثل هذا الخطاب الحضاريّ الراقي والهادئ والمبشِّر بالتوبة وبالعفو من الله، وهو يسمع أهالي مدينته أجمع يتناقلون مثل هذه التهمة الكبيرة، تصديقاً أو تكذيباً، عنها؟

إنّه لا يتحدّث معها عن احتمال براءتها فحسب، بل يحدّثها أيضاً عن احتمال ارتكابها مثل هذه الخطيئة، كأيّة امرأة قد تضعف أمام الشيطان وهي تركب مع رجلٍ على مطيّتِه منفردَين في الصحراء، في رحلةٍ طويلةٍ بعد منتصف الليل. ولكنّه (ص) يختار أرقّ الألفاظ وأقلّها دلالةً ليصف مثل هذه الخطيئة الكبيرة "وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بذَنْبٍ"! ثمّ ماذا بعد الذنب؟ ما العقاب المترتّب؟ وما الحدّ؟

ليس إلّا الاستغفار، والتوبة، يتلوهما المغفرة من الله: "فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ؛ تَابَ اللَّهُ عليه"! ويحدّثونك اليوم عن أهمّية الخطاب الحضاري بين الزوج والزوجة، فأيّ خطابٍ يمكن أن يقارن بمثل هذا الخطاب النبويّ الرفيع؟

إنّه خطابٌ لائقٌ بزوجةٍ ترى نفسها، على عزّة هذه النفس، وإبائها، وقوّة شخصيّتها، وطُهرِها، أقلَّ مِن أن يَنزلَ فيها قرآنٌ يُتلى على الناسِ أبدَ الدهر. وهي لم تستطع أن تُخفي هذا الشعور الفريد والتعبير عنه في روايتها:

"واللَّه، ما ظَنَنْتُ أنْ يُنْزِلَ في شَأْنِي وحْياً، ولَأَنَا أحْقَرُ في نَفْسِي مِن أنْ يُتَكَلَّمَ بالقُرْآنِ في أمْرِي!"

فكيف يكون ردُّ مِثلِ هذه الزوجة؛ على سؤالِ مِثلِ هذا الزوج، في موضوعٍ بمثل هذه الخطورة، ولكنْ بمِثل هذا الخطاب الكريم؟

إنّه زوجها، ومِن حقِّ المرأة، أيّةِ امرأة، وقد كانت تتخيّل أنّ ثقة زوجها بها أعظم من أن تجعله يشكّ، ولو للحظةٍ واحدة، باحتمال ارتكابها مِثلَ هذه الخطيئة، مِن حقّها أن تغضب وهي ترى زوجها يسألها متلطّفاً، تلطّفاً لا يباريه فيه بشر، ولكنّه، في الوقت نفسه، ينظر إليها نظرة المتشكّك: "إنْ كنتِ ألمَمْتِ بذنْبٍ"؟

ولكنّ عائشة تعرف أيضاً أنّها، أوّلاً وأخيراً، أمام نبيّ! فبأيّة لغةٍ يمكن أن تدافع عن نفسها، وبأيّ خطابٍ يمكن أن تردّ على الزوج النبيّ؟

وكتلميذةٍ بدوامٍ كاملٍ في مدرسة النبوّة؛ وجّهتْ بُوصلةَ الحديث إلى أمّها خشية أن يَصدر عن لسانها أيّة كلمةٍ من شأنها أن تسيء إلى الزوج النبيّ (ص): "أجِيبِي عَنِّي رَسولَ اللَّهِ (ص) فِيما قَال"! وعندما حارت الأمُّ فيما تقول، لأنّها أيضاً تواجه صهراً رسولاً نبيّاً، حوّلتِ البوصلة إلى أبيها أبي بكر: "أجِبْ عَنِّي رَسولَ اللَّهِ فِيما قَال"! وماذا يقول هذا الأب الكبير، وهو الذي فاز بلقب (صحابيٍّ) من اللهِ نفسه، دون كلّ الصحابة الآخرين، وقد نالوا ألقابهم من رسولِ الله (ص)، وذلك أثناء رحلتهما معاً، منفردَين مهاجرَين من مكّة إلى المدينة، تلك الرحلة التي بدأ بها تاريخُ الدولة الإسلاميّة:

- إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا [التوبة: 40]

وحين ارتدّتِ الكرة إلى عائشةَ من جديد، ولم يَحِرْ أبواها جواباً، كان خيرَ وسيلةٍ أمامها لصياغة خطابٍ لائقٍ بنبيّ هي أن تختارَ لكلماتها ضميراً لا يختصّ به وحده (ص)، فكأنّها إنّما تتوجّه بخطابها لغيره نفياً لأيّة إساءةٍ محتمَلةٍ إلى مقامِه النبويّ، على الرغم من أنّه زوجها أيضاً، فاختارت، في مُجمَلِ ردّها، ضمير الجمع دون المفرد، حتّى اختتمته بقولها: "واللَّهِ ما أجِدُ لي ولَكُمْ مَثَلاً إلّا أبَا يُوسُفَ إذْ قَال: "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، واللَّهُ المُسْتَعَانُ علَى ما تَصِفُونَ".

وأخيراً، وحين نزلت براءتُها من الله، ودعاها أبواها إلى أن تقوم وتشكر رسولَ الله (ص) على تبرئتها، لم تستطع أن تخفي غضبها من ارتياب النبيّ بها، ولو كان ذلك للحظة، فاختارت، وبثقةٍ نادرةٍ بنفسها وبطهارتها وعفّتها، أن تشكر مبرّئها الحقيقيّ، وليس رسول الله: "لا واللَّه، لا أقُومُ إلَيْهِ، ولَا أحْمَدُ إلّا اللَّهَ".

كان هذا دائماً نوعَ الغضب الذي كانت تمارسه السيّدة عائشة مع النبيّ (ص) في حياتهما الزوجيّة حين يطرأ بينها وبينه، لسببٍ أو لآخر، طارئٌ أو خلافٌ على أمرٍ ما، وهو ما يلخّصه قولُ الرسول (ص) لها في هذا الأمر، وكذلك ردُّها عليه في بعض هذه المناسبات:

-          عن عائشةَ أمِّ المؤمنين قالت: قالَ رسولُ اللهِ (ص): "إنِّي لَأَعْلَمُ إذا كُنْتِ عَنِّي راضِيَةً، وإذا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى. قالَتْ: فَقُلتُ: مِن أيْنَ تَعْرِفُ ذلك؟ فقال: أمَّا إذا كُنْتِ عَنِّي راضِيَةً فإنَّكِ تَقُولِينَ: لا ورَبِّ مُحَمَّدٍ، وإذا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ: لا ورَبِّ إبْراهِيمَ. قالَتْ: قُلتُ: أجَلْ واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، ما أهْجُرُ إلّا اسْمَك". [رواه البخاري]

وحديث السيّدة عائشة هذا يضعنا، بالمناسبة، أمام صورةٍ مثيرةٍ للحياة القاسية التي كانت تعيشها المرأة العربيّة في بيتها، سواءٌ في الجاهليّة، أو في السنوات الأولى من صدر الإسلام.

إنّنا، في القرن الحادي والعشرين، نعيش في بيوتٍ مجهّزةٍ بكلّ ما يحتاجه الإنسانُ من وسائل راحةٍ وخدمات: كهرباء، مياه عذبة، تدفئة، تبريد، حمّامات، دورات مياه، غرف نوم، غرف جلوس، غرف استقبال، نوافذ زجاجيّة، أبوابٍ خشبيّةٍ أو معدِنيّةٍ مجهّزةٍ بمصاريع وأقفال، ولم يكن شيءٌ من كلّ هذه الخدمات متوفّراً لدى عرب الجزيرة، وطبعاً، ولا في بيت الرسول (ص)، وطبعاً، ولا في معظم أنحاء العالم.

وإذا كان الخروج إلى أطراف المدينة في كلّ مرّةٍ لقضاء الحاجة مشكلةً حقيقيّةً للرجل، فالمشكلة للأولاد أكبر، والمشكلة للمرأة أعظم، ولا سيّما أنّ خروجها لتلك الأماكن محصورٌ بأوقاتِ الليل دون النهار، كما نفهم من الحديث، فكيف كانت تتمكّن من الخروج في هذه الأوقات الصعبة، وتقطع هذه المسافات؟ ومن يؤمّن لها، كامرأة، طريقاً آمنةً للذهاب وللعودة بسلام؟!

عندما ندرس وضع المرأة، ووضع الإنسان عامّةً، في تلك الفترة، لا بدّ أن نضع كل هذه الحقائق القاسية في أذهاننا لتكون أحكامنا على مشكلاتهم وتصرّفاتهم أكثر إنصافاً، ولا سيّما إذا قارنّاها بأوضاعنا المعيشيّة اليوم وما يتوفّر لدينا، وما أصبح في متناولنا في كلّ لحظة، من تسهيلاتٍ ومَرافق وخدمات.

وسيكون من المفيد جدّاً، حين يَحدث أن تتعطّل واحدةٌ أو أكثر من هذه الخدمات في بيوتنا اليوم، فنشكو متذمّرين، أن نتذكّر كيف كان يعيش رسول الله (ص) وأهلُه والمسلمون، وكذلك الناسُ كلّهم في ذلك الزمن الصعب، وهم لا يملكون شيئاً من كلّ ذلك.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين