شخصية المرأة بين الدين والتقاليد

الصينيون كغيرهم من الأمم على مرّ التاريخ، كثيراً ما انزلقت فئاتٌ من المسلمين إلى نقاط الضعف نفسها تلك التي انزلقت إليها بقيّة الأمم. لقد وجدنا تقاليدهم المحلّية، وفيما يخصّ المرأة بشكلٍ خاصّ، كثيراً ما تهيمن على الأحكام الدينيّة، فتتوارى هذه الأحكام بحياءٍ وراء عنفوان الأعراف السائدة، وتحت وطأة حدّتها التي لا تتهاون مع كلّ ما يمسّها أو يعارضها، حتّى إن كانت أحكاماً نبويّة. وهكذا نرى هذه الأعراف تفرض نفسها بين حقبةٍ وأخرى على النصّ الدينيّ بدلاً من أن يكون العكس. وربّما كنّا ما نزال نعيش اليوم، في بعض الأصقاع الإسلاميّة، واحدةً من تلك الحقب.

وأغرب ما في هذه المعادلة المقلوبة؛ أنّك ترى هؤلاء ملتزمين التزاماً لا تهاون فيه بفقههم الإسلاميّ، على أيّ مذهبٍ كانوا، في الصلاة، وفي الصيام، وفي كلّ العبادات، ولكن حين يصل الأمر إلى المرأة؛ فلا بدّ أن يتمّ الاعتذار بحياء إلى النصّ الديني، لتتقدّمه، وبقوّةٍ طاغية، الأعرافُ والتقاليد المحلّية لكلّ بلد!

وعندما نتكلّم عن المرأة قبل الإسلام، فهذا لا يعني بالضرورة حقبةً زمنيّةً مضت واعتدنا أن نسمّيها العصر الجاهليّ، لأنّ ذلك العصر، عمليّاً، ما يزال متجذّراً في نفوس الكثيرين، كما سوف نفصّل القول عند حديثنا عن الحجاب.

لقد واجه الإسلام منذ بدايته بحراً من مثل هذه الأعراف الجاهليّة التي تحيط بالمرأة، والتي كانت في حصانتها وقداستها بمرتبة الدّين للإنسان الجاهليّ، بل أكثرَ مناعةً واستعصاءً على التغيير من الدين أحياناً. وكان بدهيّاً أن نسمع أصداءً لحواراتٍ كانت تجري بين الرسول (ص) وبعض كبار الصحابة الذين كانت تلك الأعراف الجاهليّة ما تزال متمكّنةً منهم، رغم نزول الآيات من السماء حاملةً لهم الأحكام الجديدة التي تنهي فاعليّة تلك الأعراف.

وقد حدث أن استعظم أحد كبار الصحابة، وهو الزعيم الأنصاريّ (سعد بن عبادة)، أحكامَ الآية التي تمنع إقامة الحدّ على الزوجة الزانية إذا كان زوجها هو من رآها بالجرم المشهود فادّعى عليها ثمّ لم يأتِ بأربعة شهودٍ على فِعلتها، فما كان تعليق الرسول (ص) عليه إلّا بأنّ غَيرة سعدٍ لن تكون بأيّة حالٍ، ولا ينبغي أن تكون، أشدّ من غيرته (ص)، وأنّ غيرته تعالى أشدّ من غيرة نبيّه:

-     عن أبي هريرةَ قال: "لمّا نَزلتْ آيةُ {والذين يَرمُون المُحْصَناتِ} – وتتمّتُها {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] – قال سعدٌ – ابنُ مُعاذ –: لو أنّي رأيتُ مع أهلي – أي زوجتي – رجلاً، أنتظرُ حتّى آتيَ بأربعة – شهود –؟ فقال النبيُّ (ص): نعم. قال: والذي بعثَكَ بالحقّ، لو رأيتُه لعاجَلتُه بالسيف. فقال النبيُّ (ص): اُنظروا يا معشرَ الأنصارِ ما يقولُ سيّدُكم! إنّ سعداً لَغَيورٌ، وأنا أغْيَرُ منه، والله أغْيَرُ منّي". [رواه مسلم]

كان ذلك قبل نزول الآيات التي تتلو هذه الآية في السورة نفسها، والتي استثنت الزوج من شرط الشهود الأربعة إذا رأى بنفسه واقعة الزنى، فتكون شهادته عندئذٍ كأربع شهادات، ولكن، أيضاً، بشروط:

-     وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٦ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿٧ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿٨ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٩[النور: 6-9]

ونستطيع أن نأخذ فكرةً عن القفزة الكبيرة التي حقّقتها شخصيّة المرأة، ونحن نقارن بين حياتها في الجاهليّة وحياتها في الإسلام؛ من خلال هذه اللقطة التي يرويها لنا الخليفة عمر بن الخطّاب، بكلّ ثقةٍ وعفويّة، عن نفسه، وعن التطوّر المفاجئ والكبير الذي أحدثه الإسلام في علاقة الزوج مع الزوجة، بدءاً من بيت النبوّة:

-       عن عُمَرَ بنِ الخطّابِ قال: "وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْراً – أي لم نكُنْ نُلْقي لهنَّ بالاً –، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَل، وَقَسَمَ لَهُنَّ – أي أعطاهنَّ – مَا قَسَم. قَال: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ – أي أفكّرُ في حَلِّه – إِذْ قَالَتِ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا. قَال: فَقُلْتُ لَهَا: مَالَكِ وَلِمَا هَا هُنَا؟ فِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُه – أي لماذا تتدخّلين في أمرٍ لا يَخُصُّكِ –؟ فَقَالَتْ لِي: عَجَباً لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَكَ – تعني حَفْصَةَ زوجةَ النبيِّ (ص) – لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ – مِن مُراجعتِها له –. فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ – أي أسرعَ في تَناوُلِ رِدائه ليَخرجَ حالاً – حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَة، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ (ص) حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّا – تعني زوجاتِ النبيِّ (ص) كلَّهنّ – لَنُرَاجِعُهُ! فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّه، وَغَضَبَ رَسُولِهِ (ص)! يَا بُنَيَّةُ، لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ (ص) إِيَّاهَا (يُرِيدُ عَائِشَةَ) – أي لا يَغُرّنَّكِ حُبُّ النبيِّ لها وتَقَبُّلُهُ لمراجَعتِها له –. قَال: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ – زوجةِ النبيِّ (ص)، وهي من أقرباءِ عُمرَ – لِقَرَابَتِي مِنْهَا، فَكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَباً لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب، دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيءٍ، حَتَّى تَبْتَغِي أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) وَأَزْوَاجِهِ؟ فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذاً كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ – أي فاجأتْني برَدِّها وجعلتني أرتدُّ عمّا كنتُ عليه –، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا". [متّفق عليه]

إذن، بدأت المرأة في الإسلام، وفي بيت النبوّة أوّلاً، تكتشف شخصيّتها كامرأةٍ وإنسانةٍ كاملة، وتُميّز حقوقها ودورها في إدارة بيت الزوجيّة، وهي حقوقٌ فاجأت رجلاً مثل عمر، كانت له شخصيّته القويّة، وصلابته في الالتزام بأحكام الدين، ومهابته التي كانت كثيراً ما تجعل النساء تحاذره، وتشفق من مواجهته ومراجعته.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين