شجرةٌ تقرأ

 

 

    مما يتأبَّى على الذاكرة نسيانُه ما شاهدته في أحد أسفاري إلى إيطاليا، حينما كنت أنتظر موعد رحلتي إلى عمَّان من مطار ميلانو وقد لفت انتباهي من بين آلاف الناس في الصالة ذلك الشابُّ الرشيقُ الحليقُ يمرُّ من أمامي بمظهره الغريب، وقد طرَّز جسدَه كله بالوشم المشجَّر الملوَّن من أعلى رقبته إلى أخمص قدميه، وهو يرتدي سروالاً قصيرًا يبلغ نصفَ فخذه، ولباسًا فوقيًا ضيقًا بلا أكمام ليكشف عن أكبر مساحة من جسده الموشوم. 

    أزعجني منظرُ الشابِّ الذي صنع بنفسه كلَّ هذا حتى صار أشبهَ بالشجرة منه بالآدمي. 

 

    أخذت مقعدي في الطائرة وكانت المفاجأة أنَّ هذا الكائنَ بعينه يمشي في ممرِّ الطائرة باتجاهي يبحثُ عن مقعده الذي كان بجانب مقعدي تمامًا وهذا يعني أنني سأقضي أربع ساعات في حالة غثيان واشمئزاز، فالمتوقع من مثله أن يكون من حثالة المجتمع وسَقَطَة الناس، فصورة البلطجية والشبيحة من أصحاب السوابق في مجتمعاتنا ألطفُ منه بكثير. 

 

    منذ ذلك الوقت وإلى اليوم وأنا أحدِّثُ طلابي وغيرهم عما أدهشني من ذلك الشاب، والدرس الذي أراد الله أن يؤدِّبني به في تلك الرحلة. 

 

   بمجرَّد أن أخذ مقعده حيَّاني مع ابتسامة لطيفة، وربط حزامه قبل الإقلاع، ثم أخرج جهاز الآيباد وقرطاسًا متوسِّط الحجم ثمَّ انهمك في القراءة والتلخيص وكتابة الملاحظات حتى أطفات الطائرة محركاتها في مطار عمان!! 

أربع ساعاتٍ متواصلةٍ لم يرفع فيها رأسه إلا ليشرب كوبًا من الشاي، وهو الشيء الوحيد الذي اختاره من وجبة الغداء. 

 

   أتذكَّر حالةَ هذا الشاب "الشجرة" في كل رحلاتي اللاحقة، وأنا أنظر إلى المسافرين العرب كيف يستغلون أوقاتهم أثناء الطيران.. نعم هم يُخرجون أجهزتهم الذكية المختلفة، ولكن لغرض اللعب واللهو فحسب، مع أنَّ مظهر هؤلاء وهندامهم رجالا ونساءً يدلُّ على شخصيات مرموقة يتوسم فيها الناظر الجدية وربما المسؤولية، لكن سرعان ما يرتد البصر حسيرًا من تفاهة اهتماماتهم ودنوِّ همَّتهم.  

يا حسرةً على شباب أمة إقرأ وقد أبهرهم الغربُ وخطف أبصارهم فأخذوا منه أسوأ ما لديه وتركوا ما ينفعهم ويرفع أمتهم. 

فهل يحق لأحد منهم أن يتساءل بعد هذا عن سبب تأخرنا وتقدمهم؟!

 

  أمَّةٌ لا تقرأ أمَّةٌ لا تنهض.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين