سؤال عن همّ النبي صلى الله عليه وسلم بقتل نفسه

سألني الشيخ شفيع الرحمن الأستاذ في معهد السلام، بلندن، المملكة المتحدة عن همّ النبي صلى الله عليه وسلم بقتل نفسه المذكور في صحيح البخاري، ما مدى صحته؟ وما تأويله على فرض صحته؟.

جوابي:

قلت: الجواب عن هذا السؤال يتضمن ثلاثة أجزاء: تخريج هذا الخبر، والكلام في صحته، وتأويله على افتراض ثبوته.

تخريج هذا الخبر:

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب (ح) وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح فكان يأتي حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك... الحديث وفي آخره: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.

وأخرج نحوه ابن سعد في الطبقات الكبرى من حديث ابن عباس، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما نزل عليه الوحي بحراء، مكث أياما لا يرى جبريل عليه السلام، فحزن حزنا شديدا، حتى كان يغدو إلى ثبير مرة، وإلى حراء مرة؛ يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدا لبعض تلك الجبال، إلى أن سمع صوتا من السماء، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقا للصوت، ثم رفع رأسه: فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعا عليه، يقول: يا محمد، أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل.

وأخرج مثله الإمام الطبري في تاريخه قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، قال: سمعت عبد الله بن الزبير، وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة؟ فذكر الحديث إلى قوله: حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج، فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما اقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلى بمثل ما صنع بي، قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله علم الإنسان ما لم يعلم، قال: فقرأته، قال: ثم انتهى، ثم انصرف عني وهببت من نومي، وكأنما كتب في قلبي كتابا. قال: ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلى من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبدا! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه أقتلها فلأستريح. قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط من الجبل، سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل...

ما صحته؟

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فهو على إرساله رواه ابن سعد عن شيخه محمد بن عمر الواقدي، وقد اتفق أئمة الحديث على تركه، واتهموه بعدم الوعي لما يقول، والتفصيل في ترجمته في تهذيب الكمال وغيره من كتب الرجال، وكذلك شيخ الواقدي إبراهيم بن محمد بن أبي موسى، كذَّبه عامة العلماء وتركوه، ومثله لا يعرَّج عليه لا اعتمادا ولا استشهادا.

وأما حديث عبيد بن عمير الذي أخرجه الطبري فهو واهي السند ومنكر المتن، فراوي القصة عبيد بن عمير ليس صحابيا، فهو أبلغ انقطاعا من الذي قبله، وفيه ابن إسحاق، وهو على علو كعبه في المغازي لا يحتمل في مثل هذا، وفيه سلمة بن فضل الأبرش كثير الخطأ وهو ممن يكتب حديثه ولا يحتج به، وفيه محمد بن حميد الرازي، كذبه جماعة من العلماء كأبي زرعة وغيره، ثم إن متنه يعارض الصحيح الثابت المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما إذ جعل الرؤيا الأولى لجبريل عليه السلام رؤيا منامية، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ماذا أقرأ؟"، وأغفل ذكر ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة وورقة بن نوفل رضي الله عنهما، وذهل عن أن الرؤية الثانية لجبريل عليه السلام كانت بعد فترة الوحي وانقطاعه.

ولم يبق لنا الآن إلا خبر البخاري، وقد أخرج البخاري حديث بدء الوحي في غير موضع، ولم يأت فيه بهذه الزيادة، والموضع اللائق بها هو باب بدء الوحي حيث ذكر فترة الوحي، بل الذي فيه: "ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي، قال ابن شهاب (أي بالإسناد السابق، فهو متصل): وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى "يا أيها المدثر قم فأنذر" إلى قوله "والرجز فاهجر"، وليس فيه ذكر هم النبي صلى الله عليه وسلم بالتردي من فوق رؤوس الجبال، وصنيع البخاري مشعر بأنه أراد بذلك رد الزيادة التي انفرد بها معمر عن الزهري في كتاب التعبير.

وزيادة معمر على شذوذها من بلاغات الزهري، قال الحافظ ابن حجر في شرحه: "والذي عندي أن هذه الزيادة خاصة برواية معمر، فقد أخرج طريق عقيل أبو نعيم في مستخرجه من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه في أول الكتاب بدونها، وأخرجه مقرونا هنا برواية معمر وبين أن اللفظ لمعمر وكذلك صرح الإسماعيلي أن الزيادة في رواية معمر، وأخرجه أحمد ومسلم والإسماعيلي وغيرهم وأبو نعيم أيضا من طريق جمع من أصحاب الليث عن الليث بدونها، ثم إن القائل فيما بلغنا هو الزهري، ومعنى الكلام أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة هو من بلاغات الزهري وليس موصولا"، قلت: وبلاغات الزهري أضعف من مرسلاته، ومرسله ضعيف، يقول الإمام يحيى بن سعيد القطان: "مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، كلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه " وقال أيضا عنه: "هو بمنزلة الريح ".

وفي بلاغ الزهري هذا نكارة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حزن في حياته حزنا أشد من ذلك ولم يهم قط بقتل نفسه، مثل قصة الإفك، ووفاة خديجة وعمه أبي طالب، ويوم أحد، وأشد من ذلك كله ما أخرجه الإمام البخاري وغيره عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب.." الحديث.

فالنبي صلى الله عليه وسلم حزن في مناسبات شتى ومواضع عديدة حزنا كبيرا، ولم يأت في خبر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بقتل نفسه قط.

ومما يزيد بلاغ الزهري نكارة فوق نكارة تكرير ظهور جبريل عليه السلام وقوله له: "إنك لرسول الله حقا"، مع أن مثل هذا القول مرة واحدة كاف لتثبيت القلب وتأكيد أن الوحي لم ينقطع.

ما تأويله؟

قلت: هذا الخبر منكر واه، لا يستحق أن تكلف له تأويلا، وعلى فرض صحة بعض ما فيه فلا عتب على النبي صلى الله عليه وسلم، إذ الهم له مدارج، ومنها ما لا يحاسب العبد عليه، بل يثاب عليه إذا لم يعمل به، وروى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله"، وقد صرف الله عنه هذا الهم كما صرف عن يوسف عليه السلام وغيره من عباده المصطفين الأخيار.

ولعل الذي حصل أن الله ألقى في قلبه صلى الله عليه وسلم محبة عجيبة للوحي ولذة فائقة له، فلما انقطع عنه انقطاعا غير معتاد فزع أن يكون ربه سخط عليه فارتاد موضع الوحي الأول وتردد إليه، وهو في حزن شديد وأسى بالغ، فاختلط الأمر على ضعفاء الرواة، بينما حفظ الأثبات الحديث على وجهه، ومن هذا المحفوظ ما أخرجه البخاري من حديث جابر رضي الله عنه الذي ذكرناه آنفا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين