سؤال الإصلاح في العالم الإسلامي.. مقاربة تحليلية

سؤال الإصلاح في العالم الإسلامي.. مقاربة تحليلية

د. حسان عبد الله حسان

 

هذه المقالة تلقي نظرة موجزة حول سيرة أفكار الإصلاح في العالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين، في محاولة للوقوف على مسارات وكليات هذه السيرة، وكيفية تطوير انشغالاتها في ضوء السياقات المعاصرة بالأمة سواء من خلال المضامين أو الوسائل أو إعادة بناء الأولويات.

 

الصلاح في اللغة من «صلح» ضد الفساد، ومنه الإصلاح ضد الإفساد، وقوبل الصلاح في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة، ويعني كذلك الاستقامة، والسلامة من العيوب. ومن الجدير بالذكر أن العقل المسلم في بداية حركته الفكرية إبان النهضة الأوروبية في العصر الحديث لم يأنس لاستخدام لفظة «الإصلاح» في خطابه الفكري؛ وذلك نظراً لحمولة هذه اللفظة في السياق الأوروبي الحديث والمعاصر التي كانت تعني إزاحة الدين من الحياة العامة وهو ما عرف في أوروبا «الإصلاح الديني»، واستخدم في السياق الإسلامي لفظة «التجديد» بدلاً منها في كثير من الخطاب الفكري الإسلامي في هذا الوقت، لكن هنا فضلنا استخدام لفظة «الإصلاح» لأن العطاء الفكري للعقل المسلم كان أقرب إلى إزالة الفساد، وتنقية الثقافة الإسلامية والواقع الإسلامي مما علق بهما من شوائب مغايرة للأصيل فيهما، بينما كان التأطير لفكرة التجديد أقل كثافة وندرة وفقاً لطبيعته وهو ما يمكن أن يكون له موضوع آخر للحديث فيه، كما أننا نقصد فيما يتعلق بهوية سؤال «الإصلاح» أي ذلك السؤال الذي انطلق من المرجعية الإسلامية وليست أي مرجعية أخرى.

 

مجالات الإصلاح في العصر الحديث

يمكن الإشارة إلى أبرز مجالات الإصلاح في العالم الإسلامي في العصر الحديث التي شكلت الانشغالات الأساسية للعقل المسلم وحركته الذاتية، وهذه الانشغالات تتمحور في ثلاثة مجالات أساسية نتناولها فيما يلي:

 

الأول: الإصلاح العسكري (تطوير الجيوش):

بدأت القوى العسكرية الإسلامية على حدود أوروبا نتيجة تطوير أوروبا لأسلحتها العسكرية وبقاء الجيوش الإسلامية في تركيا وإيران وغيرها بأسلحتها التقليدية، فلاقت جيوش هذه الدول خسائر في حروبها التي دخلت فيها مع الدول الأوروبية كما في الحروب الإيرانية الروسية من ناحية، والحروب الأوروبية التركية من ناحية أخرى، التي أظهرت بوضوح التفوق العسكري الأوروبي.

 

وفي ذلك انتبه العقل المسلم إلى ضرورة تطوير الجيوش والإعداد العسكري ليكون على مقدرة لمواجهة مثل تلك الهجمات، فاضطر إلى اللجوء إلى استيراد نظام تعليمي عسكري أوروبي واستيراد مقرراته ومناهجه ومعلميه -أيضاً- فأنشئت مدرس دار الفنون (1851م) في إيران بها ثلاثة أقسام للتدريب العسكري على النمط الغربي، وفي تركيا وفي عهد السلطان مصطفى الثالث (1757 – 1773م) تم استحضار النموذج الأوروبي في مجال التعليم العسكري وإعداد الجيش العثماني، وكذلك كانت تجربة محمد علي (1805 – 1848م) في مصر بتأسيس تعليم مواز عن التعليم التقليدي الموروث لخدمة إعداد جيش وطني قوي.

 

الثاني: قضية الخلافة:

من الانشغالات الرئيسة للعقل الإصلاحي في العقل الحديث ما يتعلق بقضية الخلافة، وكان ذلك رداً على مؤثرين اثنين:

 

1- تنامي دعوات تفكيك الخلافة.

2- ظهور الدعوة لإحلال العلمانية في العالم الإسلامي وفصل الدين عن شؤون المجتمع والسياسة خصوصاً.

 

وقد تعرض الفكر الإصلاحي لهذه المسألة وأخذت منه مساحة كبيرة في الردود على هذه الدعوات، ومن هذه الكتابات ما سطره محمد رشيد رضا (1865 – 1935م) تحت عنوان «الخلافة أو الإمامة العظمى»، مؤكداً وحدة الخليفة ووحدة الأمة ومقاصد الناس من الخلافة وتأثير الخلافة في إصلاح العالم الإسلامي، كما كتب مصطفى صبري (1869 – 1954م) «النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة»، أكد فيها أهمية الخلافة للعالم الإسلامي وعارض دعاوى القائلين بتفكيكها وإلغائها من الحياة الإسلامية.

 

وبعد سقوط الخلافة (1926م) أصبحت تلك القضية مثار جدل على صفحات الصحف والجرائد والمنابر المختلفة، وثبت العقل الإصلاحي –ولا سيما الحركي منه- هذه المسألة في أذهان تابعيه على أساس أنها قضية وجودية للأمة الإسلامية، وأن أي شكل للرئاسة (الذي أنتجته الدولة القومية) هو شكل يتعارض مع مسألة الإمامة في الإسلام، أو على أخف الآراء ليس هو الشكل الأمثل للحكم من المنظور الإسلامي، وقد عانى العالم الإسلامي سياسياً واجتماعياً وفكرياً من هذه المسألة إلى وقتنا الحاضر.

 

الثالث: المشروع التغريبي:

إن خطط الاستعمار تجاوزت ما يتعلق بالاستعمار المادي (الاقتصادي والسياسي) وهو الوجه الظاهر للاستعمار، وإنما تمثلت أهدافه الكامنة في السيطرة على عالم الأفكار الإسلامي وموجهاته الأساسية ومرجعياته العقدية، إما بالإحلال الكامل لفلسفته ومرجعيته، وإما بالتشكيك في المرجعيات الفكرية الأصيلة لهذه الشعوب المستعمرة، وإما التشويه المتعمد للمفاهيم الثابتة والتصورات الراسخة في النموذج الحضاري لتلك الشعوب.

 

وكان الاستعمار حين اقتحم العالم الإسلامي في هذه المرحلة الجديدة قد أعد مخططه على النحو الذي يكفل له تغيير العقيدة والقضاء على مقوماتها الأساسية عن طريق التعليم والثقافة، واعتبر هذه الحركة القائمة على الغزو الثقافي والتغريب الفكري كبرى معاركه وأعظم عوامل تثبيت قواعده، وذلك من خلال مقصدين أساسيين لعمله، وهما: «إلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية وإحلال القانون الوضعي، والسيطرة على التعليم وتحويله عن أهدافه الطبيعية في بقاء الإنسان المسلم، ونقض مفاهيم الإسلام وتشويهها وتحريفها، والطعن في الإسلام ومقوماته وأركانه وثقافته، ومحاولة القضاء على اللغة العربية، والعمل على تغليب اللغات الأجنبية محل اللغة العربية، والدعوة إلى إحلال الحروف اللاتينية بديلة للحروف العربية»(1).

 

كما سعى الاستعمار إلى القضاء على الطاقة الفكرية والروحية في المجتمع المسلم ولا سيما عند تلك الفئة القادرة على مقاومته وكشفه ومواجهته والمرابطة في وجهه؛ ولذلك فإن مخططات الاستعمار في مجال الثقافة تقوم على محاولة إبطال مفعول الوجدان الروحي والديني والنفسي والخلقي، وإعلاء شأن المفاهيم المادية، وإطفاء مفاهيم الفكر والروح، والهجوم على مقومات الاعتقاد الإسلامي وأركانه ولغته وتاريخه وثقافته"(2).

 

ويبدو عامل "التغريب" الأكثر فاعلية في العوامل التي أدت إلى هيمنة سؤال الإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث، وذلك لما أنتجه مشروعه الفكري من تباينات حادة في العقل المسلم وفي تصوراته ومفاهيمه انعكست بدورها على منظومته الفكرية وطريقة تصوره للأحداث والوقائع وتفسيره لها؛ وهو ما يشير إليه طارق البشري بقوله: "إن من أخطر وجوه الإفساد القيمي في هذا الشأن أن ما كان يعتبر عاملًا داخليًا صار يعتبر عاملًا خارجيًا في تقويم أحداث التاريخ نفسه، وانعكس الوضع؛ فصار ما هو عامل خارجي كالحملة الفرنسية على مصر، صار يعامل أحيانًا كما لو كان عاملًا داخليًا، وذلك عندما ينظر إليه البعض باعتباره عنصرًا مساهمًا وباعثًا للنهوض والتقدم. وقد جرى له هذا التقويم تحت إملاء المفهوم السائد عن وحدة العصر بالمعنى الأممي والحضاري، وما ترتب على ذلك من اغتراب والتحاق برباط التبعية مع الغرب. والالتحاق المعني هنا ليس التحاقا ماديًا ولا سياسيًا ولا اقتصاديًا ولكنه التحاق يتعلق بالوعي"(3).

 

 ويضيف مؤكدا اتصال واستمرار حركة التغريب وتغييب الوعي وتحقيق الانفصال عن الجذور والتاريخ والتشتت الحضاري بقوله: "وأحسب أن القيمة السائدة لدينا الآن عن "المعاصرة" أو "وحدة العصر الحديث" بمعناها الأممي والحضاري هي من أسس ما يروج من قيم ومفاهيم تنتج اختلاط الوعي بالذات، وهي من أسس ما نعاني من اغتراب واستلاب حضاري، ولا يقتصر أثرها على إفساد نظرنا إلى واقعنا ووقائعنا من منظور خاص بنا ومتميز، ويرعى صالحنا الحضاري والمادي، ولكنه يمتد إلى نظرنا إلى ماضينا، فيعيد تشكيله على غير ما قام في الواقع الماضي، كما أنه يقيم التبعية والتجزؤ، لا في الواقع وحده ولكنه يقيمها في الوعي ذاته"(4).

 

سؤال الإصلاح والمشروع التغريبي

يمكن تصنيف موقف الفكر الإصلاحي في مواجهة المشروع التغريبي إلى المواقف والاتجاهات التالية:

 

1- اتجاه الرفض والتعبئة: انشغل رواد هذا الاتجاه بتعبئة الوجدان المسلم ناحية الرفض الكامل للمشروع التغريبي من حيث المبدأ، واهتم العقل الإصلاحي في ذلك الرفض ببيان ما يلي:

- الغرب ليس مخلِّصاً للأمة من أزمتها الحضارية.

- كشف أهداف التغريب الكامنة التي تتعلق بالهوية.

- الترويج لمقولة «أن كل ما يأتي من الغرب شر».

- نقد المتشبهين بالغرب من أبناء الإسلام.

 

من رواد هذا الاتجاه: جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897م)، ومحب الدين الخطيب (1868 – 1969م)، ومصطفى صبري (1889 – 1954م)، وجلال آل أحمد (1923 – 1969م).

 

2- اتجاه الردود والمقاربات: انشغل العقل الإصلاحي هنا بالرد على الشبه والاتهامات التي وجهها التغريبيون إلى الإسلام وأهمها ربط الإسلام بحالة تخلف المسلمين، ومن القضايا التي ناقشها هذا الاتجاه:

- الإسلام والمدنية.

- الإسلام والعلم.

- الإسلام والحياة.

- نفي الكهنوتية عن الإسلام.

- الكشف عن اختلاف معنى الدين في الإسلام عنه في المسيحية.

 

من رواد هذا الاتجاه: محمد عبده (1841 – 1906م)، ومصطفى الغلاييني (1886 – 1944م)، ومحمد رشيد رضا (1865 – 1953م)، وأحمد عزت باشا (1864 – 1937م).

 

3- اتجاه المقارنات والترجيح: انشغل الفكر الإصلاحي هنا بالمقارنة بين النموذجين الإسلامي والغربي فيما يتعلق بالمفاهيم والتصورات التي يتضمنها كلا النموذجين، ومن القضايا التي اهتم بتناولها هذا الاتجاه:

- الرؤية الاجتماعية بين النموذج الإسلامي والنموذج الغربي.

- نظرية المعرفة بين النموذج الإسلامي والغربي.

- القانون الغربي والشريعة الإسلامية.

- مبادئ النموذج الإسلامي والنموذج الغربي.

- مصادر النموذج الإسلامي والنموذج الغربي.

من رواد هذا الاتجاه: محمد باقر الصدر (1935 – 1980م)، ومحمد حسين الطباطبائي (1903 - 1982م)، وعبدالقادر عودة (1906 – 1980م).

 

أهم ما يميز هذه الردود في مواجهة المشروع التغريبي ما يلي:

أ- تعد هذه المرحلة مرحلة تأسيسية لمقاومة التغريب وأنصاره في الواقع الإسلامي، بحيث شكلت النواة الأولى لتكوين مدرسة حضارية إسلامية تسعى ليس فحسب للتخلص من الاستعمار الفكري، وإنما للتفكير في بناء نهضة ذاتية مقابلة للنهضة الأوروبية، وكأن التغريب كان دافعاً أو ظاهراً لسؤال الإصلاح والتجديد في الأمة.

 

ب- تعد هذه المرحلة أيضاً وما صاحبها من أفكار تفاعلت على متصل المشهد الفكري الإسلامي، كاشفة لحقيقة جوانب متعددة من التغريب، وكاشفة لحقيقة مزاعم «التنويريين» الذين حملوا كل نفايات الغرب إلى العالم الإسلامي، وزعموا صحتها وسلامتها للحياة الإسلامية، فتأسس في تلك المرحلة اتجاهات نقد الفكر الغربي، بالبحث في أصوله وسياقات نشأته، وكانت سمة مميزة من نقل المدرسة الإسلامية من الرفض المطلق للغرب القائم على أساس عاطفي وشحن وجداني (اتجاه الرفض والتعبئة) إلى جانب علمي تأسيسي يعي غايات الغرب ويعي تناقضاته (اتجاه الوعي).

 

جـ- كشفت أيضاً هذه المرحلة دعاوى التغريب حول أنه هو المخلص لأزمتنا الحضارية، واتضح أنه أضاف أزمة جديدة بوجوده غير الشرعي في البيئة الإسلامية، ومناهضة الأصول والمرجعيات الإسلامية، كما أوضح مفكرو هذه المرحلة أن النموذج الغربي لا يصلح إلا لبيئته فقط، ولا يمكن استنساخه في أماكن أخرى.

 

د- بيَّن مفكرو هذه المرحلة الفرق بين الإسلام والكهنوتية الأوروبية؛ فالإسلام ليس هو دين أوروبا الكهنوتي، وأن الإسلام دفع الإنسان إلى العلم وبناء حضارة قائمة على أساس العقل، وأن المسلمين في ظل الإسلام أسسوا المدارس والجامعات واشتغلوا بكافة أنواع العلوم وتركوا تراثاً بشرياً كبيراً قوامه المبادئ الإسلامية والنشاط العقلي للمسلمين.

 

هـ- اتسمت هذه المرحلة -أيضاً- بعقد المقارنات العلمية والموضوعية بين إسهامات ورؤى الإسلام في مجالات الحياة الإنسانية، وإبراز تفوق الإسلام فيها كما في القانون، ونظرية المعرفة، والنظرية الاجتماعية، وطرح رؤى معرفية توليدية من منظور الإسلام في مقابلة الرؤى الغربية وتجلياتها لاسيما في مجال الإنسان والمجتمع والمعرفة.

 

و- طرح أسس نقدية للنموذج المعرفي الغربي وتجلياته، وبيان خصوصية هذه الأصول وارتباطها بمكان نشأتها، والتشكيك في عموميتها وصلاحيتها الكونية، وشكل هذا الطرح أسساً مهمة لتطور الموقف الإسلامي من المشروع الغربي.

 

**********

هوامش:

(1) أنور الجندي: الاستعمار والإسلام، القاهرة، دار الأنصار، ص24.

(2) المرجع نفسه، ص18.

(3) طارق البشري: «الإصلاح والتجدد في أمتي صناعة محلية وحضارية» في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج، ص 8.

(4) السابق نفسه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين