سألوني عن جبهة النصرة -5-

 

-13-

 

الأمر العاشر الذي نطالب به جبهة النصرة هو حسم موقفها من عدوّ الثورة الكبير، نطالبها بموقف واضح مطّرد ثابت من عصابة داعش.

 

ولا يَقُلْ لنا أحد: لقد قاتل أبو مارية الدواعشَ في الشرقية، وقاتلت النصرةُ في حوران لواءَ شهداء اليرموك الداعشي، وأطلق الجولاني على الدواعش لقب "الخوارج" في لقائه مع الجزيرة. لدفع هذا اللبس طالبتُ بثبات الموقف واطّراده، فإن الشواهد ناطقات، وهي تقول أن النصرة قاتلت داعش في بعض المناطق وامتنعت عن قتالها في مناطق أخرى وقاتلت معها في مناطق ثالثة، وأنها غضَّت الطرفَ عن جرائمها أحياناً وتعاونت معها في بعض الأحيان، وما جريمةُ مخيم اليرموك عنا ببعيد، وهي طامّة كبرى لم تتبرأ منها النصرة إلى اليوم.

 

لذلك نقول: من حقنا أن نخاف من النصرة لأننا نرى أن موقفها من داعش متذبذب وأن منهجها أقرب إلى منهج داعش من سائر المناهج التي تحملها الفصائلُ والقوى الثورية. وليس هذا كلامنا، بل هو كلام شرعيي النصرة، ومنه ما ثبت عن أبي خديجة الأردني شرعي الغوطة السابق الذي قال: "نحن والدولة الإسلامية (!) عقيدتنا واحدة ومنهجنا واحد، ويقتصر خلافنا معهم على التطبيق والسياسة الشرعية"!

 

من حقنا أن نخاف من النصرة لأن أميرها اعتبر ذات يوم أن خلافها مع داعش هو خلاف "يقع بين الإخوة في البيت الواحد" (هذه كلماته بحذافيرها)، ولأنه ردّ على البغدادي غداةَ إعلان الدولة بكثير من المديح والتملّق مُقِرّاً -بلا أي لَبْس- بأن جبهة النصرة هي فرع من دولة العراق. ولأنه قال -حسب الشهادة المسجلة لأبي عبد العزيز القطري رحمه الله- إنه سينضوي تحت راية البغدادي إذا أمره بذلك شيخُه الظواهري، ولأنه ركب سيارته أكثر من مرة وهَمّ بالذهاب إلى البغدادي لمبايعته كما شهد بذلك بعض رفاقه في الجبهة، ولولا أنهم منعوه ورَدّوه لكانت النصرة اليوم جزءاً من داعش كما يقولون!

 

من حقنا أن نخاف لأن الجولاني اعترف ببيعته للظواهري وبأنه يتلقى منه الأوامر والتعليمات، والظواهري ما زال يرى داعش جماعة مجاهدة، حتى إنه صرّح قبل أقل من شهرين بأنه لو كان في سوريا أو العراق لتعاون مع داعش ضد التحالف، ودعا قبل أيام إلى التعاون والوحدة بين القاعدة وداعش لمحاربة روسيا وأمريكا، ثم أرسل "مبعوثه الخاص" المدعو سيف العدل لإجراء المصالحة بين الجماعتين.

 

هذا التذبذب العجيب لا يخوّف عامة السوريين من جبهة النصرة فحسب، بل إنه يربك أيضاً عناصر النصرة نفسها ويحرج أنصارها، الذين باتوا يُمْسون على خصومة النصرة مع داعش ويُصْبحون على يد الظواهري الممدودة لها بالصلح والتعاون!

 

من حقنا أن نطالب جبهة النصرة بإعلان موقف واضح حاسم من تذبذب القاعدة مع داعش، موقف مبدئي يوضح لأهل الشام: هل الفريقان "جماعة واحدة" كما قال الظواهري في كلمته المشهورة التي أذاعها أوائل أيار 2014؟ هل توافق جبهةُ النصرة الظواهريَّ (الذي تدين له بالولاء) على أن داعش جماعة جهادية ينبغي التعاون معها، بل الاتحاد بها؟ من حقنا أن نطالب جبهة النصرة بالتبرّؤ من الفصيل الذي يحمل اسمَها في جنوب دمشق، ونطالبها بدعوة الفصائل إلى قتاله وكفّ شره أسوةً بقتال داعش وكفّ شرها في كل مكان.

 

والأهم من كل ما سبق: من حقنا أن نطالب جبهة النصرة بإعلانٍ واضح صريح لا لَبْس فيه، بأنها لن تسلك مسلك داعش ولن تؤسّس إمارة على الأرض السورية في أي حال من الأحوال.

 

 

-14-

 

وصلنا أخيراً إلى أهمّ وأخطر ما نطلبه من جبهة النصرة، وقد أخّرته وقدمت عليه عشرة أنواع من التجاوزات طالبتُ النصرة بالتبرؤ منها والإقلاع عنها، لأني أردت أن أختم بالمشكلة التي هي أمّ المشكلات وهي جذر الخلاف بيننا وبينها.

 

إننا نطالب جبهة النصرة بأن تتخلى عن مشروعها القاعدي وتندمج في مشروع الجهاد الشامي الساعي إلى إنشاء الدولة السورية الحرة المستقلة. نطالبها بفكّ ارتباطها بتنظيم القاعدة والتوقف عن تلقي الأوامر من شيخها الظواهري، ليس فقط من أجل السبب الذي يُساق دوماً في هذا المقام، بل من أجل ما هو أخطر بكثير: خوفاً من مشروع الإمارة القاعدية الذي تسعى جبهة النصرة إلى إقامته على أرض الشام.

 

إن ارتباط النصرة بالقاعدة ما يزال يورد على أهل الشام الأذى ويحمّلهم من العبء ما لا يطيقون. ولا يقل أحد إن عداء العالم للقاعدة كعدائه لأي فصيل مجاهد في سوريا، فإن القاعدة سبقت بالاستعداء وأعلنت الحرب على العالم شرقه وغربه وعلى الأنظمة الحاكمة في بلدان العرب والمسلمين، ولم يكد يسلم منها أحد إلا إيران، فكيف لا يبادلها العالم حرباً بحرب وعداء بعداء؟

 

إن أهل الشام لا يريدون قطعاً أن يشاركوا القاعدة في معركتها مع العالم ولا أن يتحملوا عبئها الثقيل، لكن الأهم بكثير هو أنهم لا يريدون أبداً أن يستبدلوا بمشروعهم الذي ثاروا من أجله مشروعَ القاعدة الذي رأينا صوراً معبّرة عنه في العراق واليمن ومالي والصومال.

 

*   *   *

 

منذ أن وطئت جبهة النصرة أرضَ سوريا ونحن متخوفون من مشروعها الخاص، فكل فرع من فروع تنظيم القاعدة لا بد أن يحمل مشروعها، ومشروع القاعدة هو مشروع حكم ودولة. وقد علمَت النصرة أن أهل الشام سيخافون من ارتباطها بالقاعدة فأخفته أولَ الأمر، ولم تكشفه حتى كان البغداديُّ هو الذي كشفه في تسجيله الشهير في نيسان 2013، فتحسّر الجولاني لأنه كان يريد الاستمرار في الاستتار وقال: "ما كنا نريد الاستعجال بالإعلان عن أمر لنا فيه أناة".

 

أما الظواهري فكان أكثر حذراً حينما وجّه تعليماته إلى جبهة النصرة في أيار 2014 طالباً "عدم إعلان أية إمارة في الشام في هذه المرحلة". فلمّا رأينا تحديد النهي عن إعلان الإمارة بمرحلة محددة صار من حقنا أن نسأل: وماذا بعدها؟ فما انقضى شهران حتى جاء الجواب بصوت الجولاني نفسه في تسجيل سُرّب بتاريخ 11/7/2014، وفيه وعدٌ بإعلان الإمارة خلال أيام. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتخلى فيها الجولاني عن حذره ويربط مشروع النصرة بمشروع القاعدة، بل وأكثر من ذلك، بمشروع جماعة الجهاد التي كان الظواهري أحد قادتها في مصر في السبعينيات.

 

قال مخاطباً أتباعه: "حان الوقت لتقطفوا ثمار جهادكم الذي مضى منه ثلاث سنوات على أرض الشام وأكثر من أربعين سنة من جهاد تنظيم القاعدة في شتى بلاد الأرض. آن الأوان لأن نقيم إمارة إسلامية على أرض الشام تطبق حدود الله وشرعه دون تهاون أو مواربة أو مداراة". ففهمنا أن مشروع النصرة هو مشروع القاعدة ذاته. ثم فكّرنا: من أين جاءت السنوات الأربعون والقاعدة لم تولد إلا أواخر الثمانينيات؟ فعلمنا أنه يربط مشروع إمارته في الشام ببدايات المشروع الذي حمله الظواهري من مصر إلى أفغانستان.

 

*   *   *

 

أثار الإعلان المسرَّب ضجة هائلة وقوبل باستنكار ورفض قاطع من الفصائل كلها. فوجئ الجولاني بذلك الرد العنيف وتراجع خطوة إلى الوراء، فأصدرت النصرة بياناً قالت فيه: "إننا نسعى لإقامة إمارة إسلامية وفق السنن الشرعية المعتبرة ولم نعلن عن إقامتها بعد، وفي اليوم الذي يوافقنا فيه المجاهدون الصادقون والعلماء الربانيون سنعلن عنها بإذن الله".

 

لم يَنْفِ هذا البيان الخوف لأنه لم يتبرأ من المشروع، بل ربطه فقط بموافقة "المجاهدين الصادقين والعلماء الربانيين". فأما المجاهدون الصادقون فلا يُستبَعد أن يكونوا جند الأقصى، وأما العلماء الربانيون فقد علمنا من متابعة النصرة زماناً أن علماءها غير علمائنا، فلم يزدنا إعلانُها إلا خوفاً فوق الخوف الأول. على أن التراجع والاعتذار كان لفظياً فحسب، أما المشروع فبقي هو هو، فلمّا بسطت النصرة سلطانها على رقعة من الأرض رفعت راياتها وأقامت منشآت الحكم وبدأت بممارسة السلطان بلا ضجيج ولا إعلان، حتى إن الجولاني نفسه اعترف في لقائه مع الجزيرة بأنه أنشأ إمارة بلا إعلان فقال: "إن مهام الدولة قائمة على قدم وساق في الأماكن المحررة، وقضيّة الإعلان لم تكن محلّ اهتمام طالما وُجد الجوهر".

 

*   *   *

 

يا جبهة النصرة: إننا نحتمل أي أذى من أي كان إلا تُسرَق ثورتنا ليؤسَّس على جثث شهدائنا مشروعٌ للحكم والسلطان. أما يكفينا البلاء الذي أتت به داعش؟ وهل رفضنا داعش وقاتلناها إلا لأنها انتزعت منا الأرض لتقيم عليها مشروعَها الخاص؟

 

 

-15-

الخاتمة

 

علمت لمّا بدأت بنشر هذه الحلقات أنني سأغضب كثيرين، وإني فاضلت بين رضاهم في غضب الله وغضبهم في رضاه، فاخترت أن أرضي الله ولو غضب الناس. للمرة الثانية في هذه الثورة يطلب مني بعض الصالحين أن أسكت عن الظلم مراعاة لخواطر المجاهدين وحرصاً على مصلحة الجهاد المتوهَّمة. صنعوا ذلك مع داعش قبل سنتين ثم ظهرت لهم الحقيقة متأخرين، وها هم يصنعونه اليوم من جديد. من فضل الله أن الأيام مخلوق ناطق، وكما نطقَت فكشفت للأوّلين أنني لم أظلم أحداً في ذلك اليوم فعسى أن يرجع اللائمون الجدد بعد عام قائلين: لقد كنتَ على صواب.

 

أما الذين بالغوا في الهجاء وجرّموني وخوّنوني بسبب نقدي القاسي للنصرة فأقول لهم: لقد وصلتم متأخرين فدخلتم إلى المسرح في نهاية المسرحية، ثم حكمتم عليها كلها ممّا شاهدتموه في الربع الأخير من الفصل الأخير، ولو تابعتم فصولها المبكرة لما صدر عنكم هذا الحكم الجائر. لقد بدأتُ بالكتابة عن النصرة منذ أن صنّفها المجتمعُ الدولي في قائمة الإرهاب قبل ثلاث سنين، فكان أول ما كتبتُه انتصاراً لها ودفاعاً عنها، ثم غيّرَت فغيّرتُ. بدأتْ بالتجاوز والظلم فبدأتُ بنصح خفيّ، وبقيتُ عليه زماناً، ثم انتقلت إلى النصح الجليّ وثابرت عليه أيضاً، ثم إلى النقد الرفيق الرقيق، وأخيراً إلى النقد القاسي الذي أخذتموه عليّ بأخَرة. ولو زادت لزدت، ولو أصلحَت وكفَّتْ لَلِنْتُ وكفَفْت، فليس أحدٌ فوق الحق ولا فوق النقد، ولا أحدَ أهم من الثورة التي قامت لإسقاط الظلم والبغي والطغيان، فمن ظلم وبغى وطغى ثرنا عليه كما ثرنا على النظام.

 

أما الذين طالبوني بالنصيحة السرية وترك النقد العلني فأقول لهم: كان هذا ممكناً لو كان لقادة النصرة أسماء وعناوين كما لقادة الفصائل الأخرى في سوريا أسماء وعناوين، ولو أنهم كانوا يستمعون لنصح الناصحين ويستجيبون لوساطات الوسطاء لما اضطَرونا إلى مخاطبتهم عبر القنوات العامة. ولكن ماذا يصنع أمثالي إذا عجز صالح الحموي، وهو من مؤسسي جبهة النصرة، عن إيصال النصيحة الخاصة ولم يخرج منها بطائل فاضطر إلى الكتابة العلنية؟ أما قرأتم ما كتب: "بعد يأسي من النصح السري المتكرر قلت لهم: كل خطأ على العلن سأنقده على العلن. فقد قدّمتُ ورقات عمل ووثائق إصلاح في كل صغيرة وكبيرة ولم تأت بنتيجة"؟

 

*   *   *

 

من شاء أن يسكت عن الحق وهو يعلمه فإنه شيطان أخرس، فمن يحب أن يكون شيطاناً أخرس؟ مَن علم الحق فشهد بخلافه فهو شاهد زور، فمَن يرضى أن يكون شاهد زور؟ من جاءه العلم ووصله الحق فردّه عصبيةً وهوىً فقد تخلق ببعض أخلاق الجاهلية؟ مَن يقبل أن تكون فيه خصلة من جاهلية؟ أما من نسي هذه الآية العظيمة في كتاب الله فليقرأها اليوم من جديد: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله}، فالشهادة بالقسط والحق واجبة في شرع الله وليست على التخيير.

 

أخيراً لتعلم جبهة النصرة أننا لسنا أعداء لها؛ عدوها هو ظلمها وبغيها على الضعفاء. تذكروا يا قادة النصرة وجنود النصرة: إن الأيام دُوَلٌ والقوّة لا تدوم، وإن الظلم يهدم الدول ويمسح الجماعات من الوجود، وإنه -لو علمتم- وصمةُ عار في سجلّ النصرة لا يكاد يمحوه جهادها، فما كان الجهاد يوماً ليبرر الظلم والعدوان على الأبرياء. وكيف يبرره ودفعُ الظلم عن المستضعَفين من الأسباب التي شُرع الجهاد من أجلها ابتداء: {ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعَفين}؟

 

كلمة الختام لأنصار النصرة ولعامة المسلمين في الشام وفي غير الشام: لا أحد يحب الخلاف والنزاع بين الفصائل التي تقاتل النظام، هذه القاعدة محل إجماع بين العقلاء، فليس ما كتبته في هذه السلسلة استثارة لفتنة نائمة بل هو دفع لفتنة قائمة. إنما نكتب وننتقد الأخطاء بقسوة -أنا وغيري- لندرأ بقسوة اللسان حَرّ السنان وندفع النصرة إلى الإصلاح قبل الانفجار. لن يرضى أحد في سوريا بتكرار مأساة داعش التي بدت إلى الآن منها بداياتٌ كثيرة من قِبَل النصرة، وما لم يجأر المظلومون بالشكوى من الظلم ويجهر بإنكاره من علم به ويمنعه من يقدر على منعه فإنه سيأكل الثورةَ كما تأكل الحطبَ النار، فما كان الله لينصر ثورة لا يُجار ضعيفُها من قويّها، ثورة يرى أهلها الظلم والعدوان وهم قادرون على إنكاره ثم يسكتون عن الإنكار.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين