ركنٌ هوى ...( كليمة في رحيل شيخنا المحدث محمد عدنان الغشيم رحمه الله)

قبل عدة أيام رحل عن دنيانا الفانية إلى الدار الآخرة الباقية شيخنا العلامة الأصولي، والفقيه المتمكن، والأديب الطلعة محمد عدنان الغشيم ، سقى الله قبره بوابل من رحماته . 

وكنت يومها قد عزمت على كتابة كليمة فيه رحمه الله؛ وفاء لذكراه، وقياماً بحقه عليّ، إلا أن شواغل شغلتني وصوارف صرفتني عن ذلك، ولم أفرغ إلا الساعة . 

وقبل المضي في سرد ذكرياتي مع شيخنا رحمه الله أود القول: إنني لست آسى على شيء تأخري في التتلمذ عليه رحمه الله حيث بدأت بالجلوس بين يديه في أواخر عام 2003م، فأخذت عنه بعض الأبواب من فتح الباري، ووريقات من كتاب حاشية نسمات الأسحار على شرح إفاضة الأنوار على متن أصول المنار لابن عابدين رحمه الله في أصول الفقه الحنفي، فضلاً عن جلسات خاصة معه رحمه الله ، ومنها دعوتي إياه إلى بيت والدي رحمه الله أوائل عام 2004م. 

وفي كل ذلك ورغم قصر المدة – إذ خرجت إلى الكويت في 21/3/2004م - ، أفدت منه علماً غزيراً، وفهماً واسعاً وكبيراً، وعمقاً في التعامل مع المصادر العلمية والحديثية على وجه الخصوص، ووقفت منه على علم وافر ومعرفة ثرة ، وكنت أدهش من روعة استحضاره لأي حديث يسأل عن درجته ، وصحة حكمه عليه بالقبول أو الرد غالباً . 

بيني وبينه

في جلساتي الخاصة معه رحمه الله ، كنت أبادره ببعض الأسئلة مما كان يثور في داخلي ؛ فأجد لديه الجواب الشافي، وأظفر منه بالرد المطمئن الوافي، ومن جملة ما توجهت به إليه من التساؤلات أنني :

1- قلت له ذات مجلس - وهو تلميذ العلامة عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله - : أصحيح أن الشيخ أبا زاهد – رحمه الله - كان لشدة حرصه على الوقت يخصص وقتاً لزائره ويُعْلِمه به ، فإذا انتهى الوقت طلب منه الانصراف؛ لأن الوقت المخصص له قد نفد ، فقال رحمه الله : لا ... مستحيل ... أنا أعرف الشيخ تماماً ... وعاينت من أخلاقه العظيمات وخصاله الرائعات ولطفه المنقطع النظير ما يحيل هذا الخبر عندي ... إنه – أي الشيخ عبد الفتاح رحمه الله - من الكرم والجود والاحتفال بالضيف بمنزلة لا تجيز هذا الخبر الذي يُقْصَد به تصوير الشيخ أنه ضنين بالوقت حريص على اغتنامه في النافع. 

2- قلت له مرة : شيخنا الحبيب ، عندما كنا طلاباً في الكلتاوية اتفقتُ واثنين من زملائي – على غير قصد منا – في أوائل التسعينيات من القرن الماضي على التعلق بواحد من علماء الأمة القدامى؛ بحيث يقرأ كل واحد منا كتب ذلك الإمام، ويتتبع أخباره، ويسعى إلى تحقيق بعض تراثه حين يتمكن من العلم ويتخرج ويتابع في طريق المعرفة.

فكان أن اخترتُ الإمامَ التاج السبكي رحمه الله حتى إني قرأت له كتابه الطبقات – طبقات الشافعية الكبرى - بالكامل ، واختار زميلي خالد الأطرش الإمامَ السيوطي رحمه الله ، واختار زميلي الآخرُ عبدُ الكريم النبهان الإمامَ الجويني رحمه الله، وكان كثيراً ما يحدثني برغبته في تحقيق نهاية المطلب ( حُقِّق من قبل الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله تعالى عام 2007م) .

السؤال سيدي: هل كنت يوماً كذلك ، تعلقتَ بإمام وأقبلتَ على كتبه ، فقال: نعم أحببت الإمام ابن حجر العسقلاني كثيراً ، وتعلقت به ، أما الإمام السيوطي فيحب القراءة له الشيخُ ياسر نجار . 

3- كان رحمه الله تعالى يحب شرب الشاي كعادة كل الناس ، وقد حفظت منه هذين البيتين في الشاي : 

للشاي حبٌّ في فؤاديَ كامنٌ * وبدونه لن تلقني مسرورا

لكن مع الأحباب إن حضروا ترى * عينَ السرور تفجرتْ تفجيرا

مواقف متنوعة

1- قال لي مرة وقد أخبرته بعزمي على السفر إلى الخليج : إن لم تكن مضطراً إلى الخروج من سورية فلا تفعل ، فليس ثمَّةَ في الخليج علم ولا طلبة له ، إن جُلَّ ما يقضي فيه طلبة العلم السوريين أوقاتهم ثَمَّ في الزيارات الفارغة بقصد السهر، وشرب الشاي، والحديث عن أسعار السيارات وغير ذلك.

2- لما كان رحمه الله يدرسنا أصول الفقه كان يُكْثِر أن يقول : اهتموا بهذا العلم – علم أصول الفقه - فلم يُؤْتَ المتطرفون وجهلة طلبة العلم والمتفيهقون إلا من جهلهم بهذا العلم .

3- كان رحمه الله ينعى على بعض أدعياء التصوف ويشدد النكير عليهم وبخاصة في قضية ثبوت الحديث كشفاً ، وكان يضحك من ذكر بعض الكرامات التي تعتمد على مكاشفة البعض من متمشيخي الصوفية لمريديهم، ويقول : هذا من التكشيف لا من المكاشفة . 

4- حكى لنا فقال : صليت الجمعة عند خطيب في محلة كذا فوجدته يَخْرُط على المنبر، دون حياء أو خجل، ولما سألناه : كيف يخرط ، وماذا تقصدون بالخَرْط؟ فقال: يذكر أحاديث موضوعة ومختلَقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

5- بِقاَلِه وبِحَالِه كان لا يفتر يشحذ هِمَمنا لطلب العلم وعدم التقاعس عن طلبه ولو فصلتنا عنه الفيافي والقفار، وشقّت علينا بين يديه الصواعق والأمطار، قال : كنت ذاهباً ذات شتاء على دراجة هوائية متوجهاً إلى درس أحد شيوخي ( ذكر لنا اسمه ولكنني أنسيته )، وكان الجو ماطراً والشوارع متخمة بالحُفَر؛ فعثرتْ بإحداها دراجتي؛ فسقطتُ بسقوطها وتدحرجتْ عمامتي البيضاء عني، واتَّسخت بطين الشارع، وتلطَّخت وجُبَّتِيْ بمياه الأمطار ...

وهنا توقعنا أن يقول الشيخ : فَقَفَلْتْ راجعاً إلى البيت ، ولكنه قال : فنهضتُ من جديد ، وامتطيتُ صهوة دراجتي ، وتابعتُ الطريق إلى مجلس العلم .

من فوائد دروسه التي قيدتها بقلمي: 

1- كان رحمه الله يضبط اسم الكشميهني ( أحد رواة صحيح البخاري ) بكسر الميم مع أن الإمام ياقوت الحموي قال في معجم البلدان ( طبعة دار صادر ، الطبعة الثانية عام 1995، 4/463) : كُشْمَيْهَنُ: بالضم ثم السكون، وفتح الميم، وياء ساكنة، وهاء مفتوحة، ونون: قرية كانت عظيمة من قرى مرو، على طرف البرية آخر عمل مرو لمن يريد قصد آمل جيحون، خرج منها جماعة وافرة من أهل العلم، خرّبها الرمل.

2- العبادات المالية يجوز تقديمها على وقتها دون العبادات البدنية . 

3- فرْق بين التعليق والتعلق ، فالأول ارتباط أمر بأمر ، والثاني أن يكون بين أمرين صلة دون أن يكون هناك شرط. 

4- فرْق بين المطلق والعام، فالمطلق : هو ما يتعلق بمعنى الاسم كالإنسان ، والعام هو ما يتعلق بأفراد الاسم كالناس.

5- فرْق بين المطلق والنكرة، فالأول لا يدل على وحدة ، والثاني يدل عليها . 

ختاماً

لقد كان رحمه الله مع تلاميذه مثال الأب العطوف والمعلم الرحيم ، وكان يحرص على أن يمدهم بأسباب تحصيل العلم وتأمين وسائله ومنها الكتب، ولا أنسى فضله علي يوم سعى لي بشراء كتاب فتح الباري للإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله بتبرع من أحد المحسنين جزاهم الله خيراً إلا أن سفري إلى الكويت أخر عني ذلك. 

هذا ما عثرت عليه في تلافيف الذاكرة وحصلته من أوراقي الخاصة وملفاتي المدخرات مما يتعلق بفوائد من حياة شيخنا العلامة الشيخ محمد عدنان الغشيم رحمه الله الذي أراه خليقاً بقول الشاعر: 

أهلُ الحديث طويلةٌ أَعْمَارُهُمْ * ووجوهُهُمْ بِدُعَا النّبِيِّ مُنَضَّرة

وسمعت من بعض المشايخ أنَّهم * أَرْزَاقُهُمْ أيضاً به مُتَكَثِّرة

وقول ابن القيم :

يا مبغضاً أهل الحديث وشاتما * أبشر بعقد ولاية الشيطان

أو ما علمت بأنهم أنصار دي * نِ الله والايمان والقرآن

أو ما علمت بأن أنصار الرسو * ل هم بلا شك ولا نكران

هل يبغض الأنصار عبد مؤمن * أو مدرك لروائح الايمان

شهد الرسول بذاك وهي شهادة * من أصدق الثقلين بالبرهان

وقول الأمير الصنعاني : 

سلام على أهل الحديث فإنني * نشأت على حب الأحاديث من مهدي

هم بذلوا في حفظ سنة أحمد * وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد

وأخيراً بقول شيخنا العلامة شهاب الدين فرفور حفظه الله فيه ، وقد أملاه علي ذات يوم : 

لأهل العلم في حسن القدوم * ملاطفة النفوس لدى الكريم 

وللأذواق وجه كاد يخفى * ليظهر في مؤانسة (الغشيم )