رحلة محمد إقبال إلى الديار المقدسة.. عاشها خيالاً لا واقعاً!

حنينٌ دافقٌ لرؤية بيت الله الحرام، ولتأدية فريضة الحج، وأمنيات عارمة في طلب الهداية، والاغتسال من الأوزار، واكتحال العين والفؤاد بمعانقة الكعبة، والطواف، في رحلة إيمانية وجدانية عبر الخيال، نسجها الشاعر محمد إقبال (1877–1938م) الذي عاش ومات وهو يحنّ حنينَ الطفل الى أمه الرؤوم كي يظفر بهذه السفرة العطرة، والتي لم يُقدَّر له - واقعياً - أن يعيشها حاجاً، فعاشها شاعراً خيالاً، وهو يطوف ويسعى، ويحث راحلته -كعادة من سبقه من الشعراء- على الإسراع نحو مكة.

ولَكَم أجاد إقبال في وصفه وأقنع وأمتع، كأنه قام بهذه الرحلة الكريمة أساساً. انظر إليه في ديوانه الفارسي "هدية الحجاز" من ترجمة العلَّامة الدكتور حسين مجيب المصري (1916-2004م) -عميد الأدب الإسلامي المقارن- شعراً، والذي صاغها كأنه مؤلفها في اقتدارٍ فنِّيٍّ عجيب:

تمهَّلْ؛ لا تُقِمْ تلك الخياما=دليلُ الركبِ في البيداءِ هاما

وهذا العقلُ نعدمه دليلاً=لذا أسلمتُ للقلب الزِّماما

سويدائي بها ألقيتُ نظرةْ=بحضن القلب فاستروحتُ فترةْ

إلى الصحراء أحملهُ فيأسَى=على شطِّ الغديرِ بكى وليدا

ولا تسأل عن الركب السُكارى=فما يرضَون تلك الدار دارا

يهزُّ قلوبهم جرسٌ مُدوٍ=نسيماً في ذُرَى القصباءِ ثارا

فمن طريق القلب تبدأ وتنتهي سياحة إقبال في عشقه للحرم وللحج، لذلك؛ التجأ شاعرنا إلى كل ما هو وجداني، متخلياً عمَّا هو عقلي.

ويصور إقبال هيامه بالمدينة المنورة؛ وبإثمد المدينة المنورة؛ ليكتحل به، كأنه طائر يسير ليلاً عازماً على الرحلة العظيمة:

ليثربَ كان في كبري رحيلي=وبي فرحُ اللقاء مع الخليلِ

كأني الطير قبل الليل يمضي=ويبغي العُشَّ في الروض الجميل

ولكون شاعرنا لا يسير مع الركب مقلداً في رحلته، لأنه مُتيَّمٌ بحب الأنغام الحجازية الروحية.. فقد امتلأت نفسه بحب الله حتى الثمالة:

أدانوا عاشقاً رشف المداما=وكم لِمُحَنَّك عابوا الكلاما

على نغم الحجاز شربت كأسي=وما إن قدَّموا من قبل جاما

أتسألُ عن مقامات لِلَحْنِي=وماذا يعرف الندمان عني!؟

لقد ألقيت في الصحراء رحلي=وفيها أختلي حتى أُغَنِّي

فقافلة إقبال وراحلته، تُغايران قوافل الحجيج العاديين ورواحلهم، وحاديها يختلف عن حُداة غيره.. فهو يعيش مع ناقته حُباً للرحلة، وتسابقاً بينهما نحو الحجاز؛ فروحه وروحها -كانتا- مثال التَّوق والشوق:

وقُلتُ لناقتي بالرفق سيري=بشيخ فار في دنف حسير

وسارت ناقتي سيراً عنيفاً=أتخطو في الرمال أم الحرير!؟

ويا جمّال عنها اطرح عقالاً=لروحي روحها كان مثالا

تهادت موجة أيقنت منها=بأن على الفؤاد الأسرُ طالا

ترقرق دمعها سود العيون=ومن زفراتها كانت شجوني

ويتوجَّه محمد إقبال في خطابه نحو الحادي -مصدر السعادة الروحانية- فالطريق طويل، والسفر شاق، وطيف مكة المكرمة يلوح في القلب:

طريقاً طال يا حادي ليُسلك=وآلام المفارق من حريق

أنيس الروح بادلني شكاتي=وقل مثلي "بذي حُسْنٍ مماتي"

"لنمسح موضع القدمين "فاهمس="بأجفان رقاق دامعات"

ويسأل إقبال ربه تعالى أن يرفع عن المسلمين الكروب والمصائب، فهو أمام بيت الله الحرام، الذي يحتويه قلبه الموقن، صاحب الغزل المرهف، والصدق المؤثر:

سألتُ الله بالدمع السكوب=أحانَ لمسلمٍ رفعُ الكُروب؟

نداء ظل في سمعي يدوِّي="له قلب وأقفر من حبيب"

وبيت الله أحويه بقلبي=أغني ما بقلبي ثم أطرب

أقول السر ممَّا قلت يُفهَمْ=ومَنْ مِن دوحتي الثمرات يَطعَمْ؟!

أميرَ القومِ؛ أنصِفْني فإني=عُرفتُ بشاعرٍ غَزِلٍ ترنّمْ

فطعام إقبال هو الزاد الروحي، والعُدة التي تستزيد تقى ونوراً كلما طالعت صفحة الكعبة وأنداءها الفواحة، وأريجها السندسي. الذي امتلأت نفس محمد إقبال من قبساته ورياحينه، فعاش رحلة حجه، وهو شاعر الحكمة والعاطفة الإسلامية الجياشة، حتى وهو يتخيل ما لم يحدث، نطالع -بحق- صوت صدق التجربة وعمقها، لأن إقبالاً تمنى أن يؤدي المناسك، وأن تشرئب روحه عن يقين وطمأنينة، إلى عرفات الله والمزدلفة والحطيم والمسعى والمروة وبقية الأماكن المقدسة، فوافق في نفس قارئه إعجابه برحلته الخيالية، وتصديقه له، وتأثره بكلامه وعذب بيانه، وسحر فلسفته الإصلاحية في جوهرها ومنطقها المُقنع.

المصدر: مجلة رابطة الأدب الإسلامي: العدد 111