رحلة راحل اليوم

   رحل اليوم الحبيب الدكتور الشاعر الرقيق اللطيف أحمد البراء الأميري، رحمه الله تعالى وغفر له، وثبّته عند السؤال، وأنزله منازل المقربين. ورحم أباه الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري. وقد ضمتهما البقيع.

 

-الاستهلال:

في تقديمه لديوان الشاعر عمر بهاء الدين الأميري المتفرد النسيج، كَتَبَ العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي- رحمهما الله تعالى-:

"أخي أبا براء:

إن تاريخ الأدب العربي الإسلامي سيحفظ لك إن شاء الله-وهو أمين- ما أسديتَ إليه مِن يد بديوان شعرك الأول "مع الله"، وما أتبعته بديوان ... وكم تمنيت أن كنت معك في محراب دعائك، وفي لحظات ابتهالاتك، وأنت:

مع الله في سبحات الفكر

مع الله في لمحات البصر

مع الله في زفرات الحشا

مع الله في نبضات البهر

 مع الله في رعشات الهوى

مع الله في الخلجات الأخر

واليوم تثري مكتبة الشعر العربي الغنية بديوان جديد "رياحين الجنة"، وأقول:

هذا إثراء خير أو خير إثراء، استقبالك أرواحًا سماوية بريئة حبيبة ممن رزقتَ من الأولاد والبنات والأحفاد والأسباط...والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، فقد سعدتُ نفسًا بلقاء المحروس الفاضل براء بن عمر في ندوة الأدب الإسلامي بلكهنو، وكأني أسمع إليه وهو يتلو شعره في صوت شجي على ما أصيب به المسلمون في أرض الفداء...".

هذا تقديم أبي الحسن رحمه الله تعالى.

في هذا الديوان الصغير أشعار الأميري الكبير التي أنشأها حين استقبال ولادة أولاده، أو ولادة أحفاده، أو استقبالهم مِن سفر، أو ذات اشتياق، أو صباح عيد وَجَدَ فيه نفسه وحيدًا...

كله اغتراب، وهتف (اتصال هاتفي)، يهتف له ولده أو ابنته بحفيد، فيرتجل أبياتًا وقصائد في الفرح، والتبريك، والشوق، يبعث بها: مِن حلب، وجبل الأربعين، وبعلبك، وقرنايل، وجدة، ومكة، وكثير منها من المغرب (الرباط، شاطئ الهرهورة) إلى الرياض...

وفيها أشعاره التي استقبلَ بها بكرَه (براء). وكان يقدم للقصيدة بكلمات صغيرات، تقرّب القارئ من ظروف الأشعار إبان إنشائها، يقول في أول قصيدة في الديوان بعنوان:

"براء"

 استعجلَ بِكْرُهُ "البراء" موعد ولادته العسيرة، وخيف عليه، ففاجأه مِن ذلك عبء مرهق، وهمّ جديد...

حتى إذا مضت شهور، واستقامت حياة الوليد الغِرّيد، أخذ يأنس به، في عربة روحه، وكان له ملءَ قلبه وأمله:

أختار منها دفعًا للإطالة:

لصفاء عينيكَ العِذابْ

يحلو العذابُ فلا عذابْ

ولثغركَ الزاهي الرقيقِ

وقد تفتَّح عن حبابْ

تتهنَّأُ النَّفسُ العنا

ويَلذُّها خوضُ الصعابْ

يا بسمةً بفم الزمانِ

ودُرّةً مِن غير عابْ

أَبَراءُ يا بَرْدًا لروحي

لاح في لَفَحات آب

أَبَراءُ ما في الخَلْق لي

من حيلة فذر العتابْ

الله قدّر أن تكونَ

وحُكمه أمرٌ عُجابْ

لك أن أُمِدَّكَ يا بني

وأن أُعدّكَ للغِلابْ

ثم ذَيَّلَها: (قرنايل- لبنان، ١٣٦٣- ١٩٤٤).

 

وفي قصيدة (نني نني):

 

يا برائي- وأنت خفقُ فؤادي-

وأنا مثقلٌ بعبء جهادي

ومُرادي، وما أجلَّ مُرادي

أن أرى فيك ما يحقق ظنِّي

يا برائي الحبيب...نني.. نني.

 

واليوم أسأل الله تعالى أن يستقبل (براء) في أول يوم من أيام الآخرة، بما يليق به مولانا آمرنا بقرى الضيف، وهو أكرم مَن يؤمل كرمه وضيافته، جل ثناؤه، وعظمت مغفرته.

فالوهاب المبتدئ النعم قبل استحقاقها، أكرم مِن (أبي براء) على (براء)، وأرحم. لاسيما وقد نزل المستقبِل والمستقبَل في قرى الرحمن الرحيم.

قصتي عجيبة مع الأب الذي لم ألقه، ومع الابن الذي لقيته مرات ليست بالكثيرة.

أما الشاعر الكبير عمر، فقد كنت يومًا أسير في منطقة العَبّارة في حلب، وبالتحديد عبارة سينما حلب- ( كما تسمى تمييزًا لها عن عَبّارات أخرى)- فوجدت مكتبة في طابق تحت الأرض تعلن عرضًا على الكتب، فنزلت إليها لأجد فيها ديوانًا شعريًا- هكذا كتب عليه- بعنوان (أب)، وقد غُلِّف بغلاف (كرتوني) ثخين جميل، تاريخ طباعته في الستينيات قبل ولادتي بكثير، يحوي قصيدة واحدة وحيدة، هي قصيدة (بابا) الشهيرة.

فأخذت الديوان ذي القصيدة الوحيدة، وكان أول خيط في رحلة البحث عن الشاعر، وشعره، ودواوينه الممنوعة، سوى ديوان واحد (قلب ورب)، طبعته دار القلم. فكأني وجدت شعرًا يلامس جانبًا في ذوقي، وإسلامي، وسلوكي إلى الله الذي أرتضيه، وعفوية أهواها، وغير هذا مِن جماليات ثرة، أدعها للنقدة فهم أشد بها بصرًا، مِن أهمها: قاموسه الشعري، وألفاظه المختارة برهافة وذوق عاليين، قبل أن يقضي قاضيا: المعنى والمبنى، وهذا شيء لا يقدر عليه كل شاعر. وإن قدر عليه في موطن فسيخونه في آخر.

ثم غادرت حلب إلى الكويت، ومكثت مدة، ثم صاهرت الشيخ محمد هاني عزيزة-رحمه الله تعالى- لألتقي مع ذكريات الشاعر الأميري عمر ثانية في علاقة خاصة جدًا كانت بين عمي وبين الأميري الأب، وقصة أخرى. وقد الوفاء خلقًا أصيلًا في خلائق عمي المرضية، إذ بقيت صلته بالشاعر الابن (د. أحمد البراء)، فكان إذا جاء الكويت ضيفًا على وزارة الأوقاف (مركز الوسطية)، دعاه إلى سهرة خاصة في بيته، فتوثقت صلتي به-رحمه الله تعالى- وزارني في بيتي وحده، كما رغب، وبقيت على صلة به عبر المرسال الهاتفي، حين ثقل جسمه ومرضه، مطمئنًا على صحته، محبًا أن يقرأ بعض ما أكتب، راجيًا تشجيعه وتقويمه، فكانت تعليقاته لطيفة، كلطف روحه، أنيقة معطرة، كقميصه وثوبه.

منها:

يا سلام.

ومنها:

أسلوب...

وقد يعلّق بتعليقات موجزة جدًا، ببيت شعري له أو لغيره، فقط، وعليّ أن أدرك مراده، أو بمقاطع لبعض القراء الذين يحبهم كالمنشاوي-رحمه الله تعالى-،

أو برسالة صوتية شعرية له غالبًا، أو لغيره، بصوته الذي وصل في مرضه الأخير حدًا لم أعد أفهم منه إلا هدوءه وأدبه ووده، لشدة خفوته وضعفه. ومع تغيير الهواتف ضاع أكثر التسجيل.

أرسلت له مرة خاطرة أستغرب عدم تأسيس بنوك للأفكار، أو شيء من هذا، فكتب لي مشجعًا بأن يسمى بنك يحيى للأفكار!

رحمه الله تعالى، وجعله ووالده في أعلى منازل المقربين.

وأسأل الله تعالى لأولاده ولكافة أسرته وأهله الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.