رجل فقدناه : أحمد مختار رمزي

 

كتب الأخ الكريم الأستاذ الشيخ حمد الله الصفتي
 كلمة في رثاء شيخنا العلامة المشارك أحمد مختار رمزي ، أحببت أن أنشرها في الموقع باختصار وتصرف يسير ، وفاءً للراحل الكريم الذي عرَّفنا به ووصل حبال الصلة العلمية بعدد من كبار علماء العالم الإسلامي الأخ الكريم البحاثة المسند الشيخ محمد عبد الله الرشيد ، وقد أكرمني الله بزيارة شيخنا أحمد مختار مرات متعددات في بيته بعزبة النخل، ثم في آخر رحلة إلى القاهرة للمشاركة في مؤتمر خريجي الأزهر ،في بيته بعين شمس سنة 1431مع عدد من فضلاء تلاميذه .
مجد مكي
 قال الأخ حمد الله الصفتي في مقدمة مقالته الضافية :
 
قال لي أحد الصالحين يومًا: «إن العلماء يجدون لذَّتهم بين المحابر والدفاتر والسَّهر الطويل لتنقيح العلوم وتهذيب المسائل؛ فلذاذة عيشهم غير لذاذة عيش الناس، كما أن أفكارهم غير أفكار الناس وآرائهم». ولقد عشتُ أعجب ـ ولا أزال ـ من هذا الشيخ الذي كان في شبابه ثائر النفس، متوقِّد العزم، متوثِّب الرُّوح، لا يَقْنع بالحسَن طمعًا في الأحسن، كيف أمكنه الانطواء على نفسه طيلة هذه المدة من حياته، لا يعرف إلا العلم، ولا يعرفه إلا أهل العلم.
ثم قال حفظه الله تعالى :
ولست أزعم أن هذه الكلمات وحدها كافية في الوفاء بحق هذا الشيخ الجليل، ولكني أردت أن أجلو أمام القراء حياة كان فيها الفضل والعلم والعرفان.
ولادته :
ولد العالم الصّالح المدقّق، والبحاثة الأديب، الشيخ أحمد مختار بن عثمان بك بن محمد رمزي بن عثمان بن عبد الله آغا ـ تعني بالتركية: السَّيد ـ التركي الأصل، المصري مولدًا وموطنًا، الحنفي مذهبًا، الأزهري تربية، في السادس من ذي القعدة الحرام، سنة 1342هـ ، الموافق: التاسع من يونية، سنة 1924م، بحي السيدة زينب رضي الله عنها، بالقاهرة.
نشأته ودراسته :
تدرَّج في الدراسة النظامية من أولها حتى المرحلة الابتدائية بمدرسة «محمد علي الأميرية»، ثم أتم المرحلة الثانوية بالمدرسة الخديوية، بدرب الجماميز، بحي السيدة زينب رضي الله عنها، وهي المدرسة التي تخرَّج فيها الزعيم مصطفى كامل، والأستاذ محمود شاكر، وغيرهما من الأعلام.
 كان والده رحمه الله تعالى من أصحاب مصطفى كامل باشا، مهتمًّا بالسياسة، مشتغلًا بالأدب، محبًّا للعلم والعلماء، لديه مكتبة عامرة؛ فورث منه الشيخ ذلك، وكان أول ما تناولته يده من مكتبة والده ـ كما حدثني ـ كتاب «إحياء علوم الدين» لحجة الإسلام الغزالي، قال رحمه الله: «عرفتُ حينها أن العلوم الدينية هي أحسن ما ينبغي للإنسان أن يصرف همّته إليه، فأقبلتُ على دراسة العلوم الشرعية».
طلبه للعلم وشيوخه :
 أقبل رحمه الله تعالى على مجالس العلماء، وكان الأزهر لا يزال عامرًا بأهله، ينتشر رجاله في مساجد القاهرة وضواحيها، وفي الناس بقية، فحضر دروس العلامة محمد الأوْدَن، شيخ كلية أصول الدين، والشيخ عمر وجدي الكُردي، شيخ رواق الأتراك بالجامع الأزهر، والإمام محمد الخضر حسين، شيخ الأزهر، والعلّامة الرباني المحدِّث محمد الحافظ التيجاني، والعالم الشيخ مصطفى أبو سيف الحمامي، خطيب الجامع الزينبي، والشيخ منصور علي ناصف، صاحب «التاج الجامع للأصول»، والعلامة الكبير المحدِّث عبد الله بن الصديق الغماري، والعلامة الفقيه محمد أبو زهرة، والعلامة عبد اللطيف الشعشاعي، والشيخ عبد السلام المنير، والداعية الكبير الشيخ أبي الحسن الندوي، وغيرهم. وحضر «دروس الثلاثاء» للأستاذ الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى، وانتفع به كثيرًا، وتوطدت صلته به؛ فقدَّم الأستاذ البنا لأول مؤلفات فقيدنا الذي سمّاه «ميلاد الخلود»، وكذا قرأ القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم على المقرئ الشيخ محمد صديق المنشاوي، بمعتقَل «الطُّور».
كما اتَّصل بجماعة من أهل العلم، وروى عنهم إجازة، منهم: الشيخ الجليل محمد زكي الدين إبراهيم، رائد العشيرة المحمدية، والعلامة محمد عبد الرشيد النعماني، والعلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة، والمسند الشيخ مالك بن العربي الشريف السنوسي، والشيخ الفقيه محمد علي المراد، والسيد العلامة محمد بن أحمد الشاطري، والحبيب عبد القادر السَّقّاف، والسيد محمد أبو بكر الحبشي، والشيخ الأديب العلامة عبد الله بن أحمد الناخِبي، والشيخ كرامة الله البخاري، والشيخ عبد الفتاح حسين راوَه، وغيرهم.
 
وكان رحمه الله تعالى عالي الهمة، كثير البحث، ذا نشاط في العمل، وجلَد على مطالعة المطوَّلات، وشغَف بمقارنة الآراء والكتابات، وقدرة على حفظ ما يقرأ وما يسمع، ملِمّاً بعلوم الحديث، يكتب إليه العلامة عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله مفتتحاً بقوله: «سيدي المحدِّث العلامة»! ويخاطبه العلامة عبد الرشيد النعماني بقوله: «مولانا المحدِّث»! ثم هو فوق كلِّ ذلك عارفٌ بالفقه الحنفي، متقنٌ للعربية، جميل الخط متفنِّن فيه، يتكلَّم الإنجليزية، ويعرف شيئاً من الفرنسية. وكان رحمه الله دقيقاً منظماً إلى الغاية، حتى إني سألته يومًا عن طبيعة أسئلة الامتحان في الابتدائية القديمة، فعمد إلى مكتبه فأخرج لي أوراق امتحاناته تلك ونتائجها المنشورة بالجرائد آنذاك!
مؤلفاته :
وقد كتب رحمه الله تعالى عدَّة مؤلَّفات، اطلعتُ منها على: «مقدمة في تفسير القرآن» تطرَّق فيها إلى مناهج المفسرين، وما ينبغي أن يكون عليه المفسر، و«حدائق الريحان في فضائل القرآن» وأحكام تجويده وما يتعلق به من أحكام فقهية (مطبوع)، و«المرجع الحديث في علوم السنة ومصطلح الحديث» جمع فيه خلاصة ما كتبه أهل الفن في علوم المصطلح، وجعله على جداول لتسهل مراجعته على الطالب، و«عقائد أهل الكتاب» ناقش فيه نصوص العهدَين: القديم والجديد فيما يتعلق بالإلهيات والنبوات والسمعيات (مطبوع)، و«ميلاد الخلود» الذي قدَّم له الأستاذ حسن البنا رحمه الله، وهو أول مؤلفاته، وضعه تحية لكتائب أبطال عام (1948م) الذين بذلوا أرواحهم من أجل القدس الشريف (مطبوع قديماً)، و«الجهاد في سبيل الله تعالى» شروطه وأحكامه وما يتعلق به، و«الإسلام والسلام» قارن فيه بين السلام في الشريعة الإسلامية والشرائع الأخرى، و«الجزية ومعاملة أهل الذمة»، و«أحكام التركة والمواريث» على المذاهب الخمسة ومقارنًا بالقانون الوضعي، مع مقدمة تاريخية عن الميراث عند الفراعنة والرومان والنصارى واليهود (مطبوع)، و«أحكام الحج والعمرة وآداب زيارة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم»، و«سبيل الجنة في أذكار الكتاب والسنة» (مطبوع باسم الدعاء)، و«حياة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه»، و«إفحام الخصَّام بدحض المطاعن الموجهة إلى الإمام»، و«عقد الجمان الجامع لكلمات ووصايا ومناظرات ورسائل الإمام»، و«إتحاف الأنام بمسانيد الإمام»، و«دار المحفوظات المصرية في ماضيها وحاضرها»، و«مختارات من مثنوي جلال الدين الرومي»، و«الجداول المختارة» في النحو والصَّرف والبلاغة، و«الجدول الحديث في مصطلح الحديث» (مطبوع)، وغيرها. وكتب عدَّة مقالات في مجلة «المسلم»، بطلب من العالم الرباني الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم، رائد العشيرة المحمدية رحمه الله.
مجالسه وتلاميذه :
وكان بيته يغشاه الطلاب وأهل العلم، خاصة الحنفية، وتتلمذ له غير واحد من أهل العلم وطلبته، فأخذوا عنه وأفادوا منه علماً وأدباً وتاريخاً، منهم: الأستاذ المؤرِّخ البحاثة محمد عبد الله الرشيد، والأستاذ المحقق الشيخ مجد مكي ،والأستاذ المحقق الدكتور عبد الحكيم الأنيس، والأستاذ المحقق الشيخ سلمان بن عبد الفتاح أبوغدة، والأستاذ المحقق إياد أحمد الغوج، وزوجته السيدة أم الحسن، والناشر المتقن الأستاذ رمزي دمشقية ،والشيخ المحقق المؤرخ محمد أبوبكر باذيب، والدكتور أسامة السيد الأزهري، والشيخ بشار الحادي البحراني، والدكتور عناية الله إبلاغ الأفغاني، والشيخ يحيى منيار الهندي، واستجازه شيخنا المقرئ المحقق عبد الحكيم عبد اللطيف الحنبلي شيخ قراء الجامع الأزهر، وشيخنا الدكتور أحمد عيسى المعصراوي شيخ قراء مصر، وقرأ عليه راقم هذه السطور كثيراً في الفقه والحديث والمصطلح والنَّحو والسيرة وغيرها.
ولم يزل رحمه الله تعالى مداومًا على القراءة والبحث، حتى في أيام مرضه الشديد، ولما أجرى إحدى الجراحات الخطيرة ـ قبل أربع سنوات ـ طلب مني أن أقرأ له وهو على فراشه، فعرضتُ عليه كتبًا تناسب المقام، فاختار منها «الدرة الفاخرة فيمن انتفعت به في طريق الآخرة» وهو في تراجم شيوخ الشيخ محيي الدين ابن العربي.
وفاته :
وفي يوم الأربعاء، الثلاثين من ربيع الأنور سنة 1433 للهجرة، الموافق 22 من فبراير سنة 2012م، وقد بلغ الثامنة والثمانين من عمره، جاءه داعي ربه فأجاب.
وهكذا ارتفع صوت القدر مؤذنًا بانتهاء حياة عامرة بالخير، وكما عاش في صمت، بنفس سامية، فقد رحل أيضًا في صمت كما يرحل الصالحون، بيد أن آثاره ستبقى في نفوس تلامذته وعارفي فضله، أقوى من عوامل النسيان، رحمه الله تعالى وطيَّب ثَراه.
 ما أعْجَـلَ الأيّـامَ حينَ مُـرورِها         يَأتي الـمَشيبُ على الشَّبابِ فَيَذْهَبُ   
لكنَّ ذِكْـرَ العَبْـدِ يـَخْلُـدُ إنْ مَـضى        وَلَـهُ مَقــامٌ فـي الـمَـآثِــرِ مُطْنِـبُ
                 كالبَـدْرِ بَعْدَ الشَّمْسِ يَعْكِسُ ضَوْءها        فَـكأنَّـها بِـبُـزوغِـهِ لا تَغْــرُبُ     
من موقع : مقالات أزهرية http://waag-azhar.org/makalat1.aspx?id=155&makalat_title=%D8%B1%D8%A7%D9%87%D8%A8