ذِكريَات ومَواقف مع فضيلة الشَّيخ العَلّامة عَبْد العَزيز أبَازَيْد (1)

ذِكريَات ومَواقف

مع فضيلة الشَّيخ العَلّامة عَبْد العَزيز أبَازَيْد

رحــمـه الله تعالى

(الجزء الأول)

 

الشيخ عَطيّة بن أَحْمد بن محُمّد الوُهَـــيِبي

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التَّسليم على سيدنا ورسولنا محمد بن عبد الله إمام الانبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرّ المَيَامين ومَنْ تَبعهم بإحسان الى يوم الدين.

اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك في سُوْحِ الجهاد في الشام وسائر البلاد برحمتك يا رب العباد. اللهم اجمع كلمتهم، واجعل في أَحِبِ خَلقِك إليك ولايتهم، وافتح لهم فتحاً مبينا، وكن لهم حفيظاً ومعينًا. اللهم ارحم هذه الأمة المسلمة، ووّلِّ عليها خيارها وأبرارها، واجعل لها من أمرها رشداً وبَوِّئها مقام صدق في العالمين، وألْبِسها حُلَلَ النَّصر يا مّنْ لك الخلق والأمر اللهمّ آمين آمين يا أرحم الراحمين.

تعريف وجيز بالشيخ عبد العزيز أبا زيد

  قبل الشروع في الذكريات والمواقف هذا تعريف وجيز بفضيلة شيخنا رحمه الله تعالى وأعلى مقامه.

  هو الشيخ العلامة عبد العزيز جبر فالح إبراهيم عثمان أبازيد عالم حوران ومفتيها وحامل لواء العلم والدعوة والإرشاد والإصلاح والجهاد فيها.

ولادته:

ولد رحمه الله تعالى في مدينة أذرعات (درعا) عام 1910م في أسرة كريمة نبيلة رضع فيها لبان الكرم والنبل والخير والفضل، درس المرحلة الابتدائية في مدرسة نموذج وأنهى تعليمه فيها عام 1922م.

رحلته في طلب العلم:

وفي عام 1928 يمم الشيخ رحمه الله تعالى شطر مدينة دمشق عاصمة بني أمية مدينة العلم والعلماء، أسأل الله رب العالمين أن يعيدها إلى مجدها الإيماني ومكانها العلي وأن يطهرها من أرجاس الاحتلال النصيري والفارسي والروسي، وذلك لطلب العلم الشرعي وانتسب إلى مدرسة العالم الرباني علي الدقر رحمه الله تعالى، وهناك قرع الشيخ الظُنبوب وشد المئزر وطفق يَنْهل من موارد العلوم الشرعية والعربية، ويتضلع منها وقد أخذ العلوم عن كبار علماء العصر، وعلى رأسهم محدث الشام الأكبر بدر الدين الحسني والشيخ علي الدقر وسواهما من العلماء الأعلام الثقات الأثبات وُرَاثِ النَّبي محمد عليه الصلاة والسلام.

وقد كان لمسلكهم العلمي في التدقيق والتحقيق والأخلاقي في الاستقامة والزهادة والعبادة أثر كبير محمود مشهود في تكوين شخصية الشيخ العلمية والدعوية والأخلاقية، وكان الشيخ يذكر مآثر شيوخه ومناقبهم ويثني عليهم أطيب الثناء وأعطره وأسماه.

 وفي عام 1938 عاد الشيخ إلى مدينة أذرعات وكانت له قدم صدق راسخة في نشر العلم الشرعي وتبصير الناس بحقائق الرسالة الإسلامية الغراء رسالة هداية الإنسانية إلى الله رب العالمين وإنقاذها من الشقاء والتيه والضياع والعذاب المهين.

رحلته إلى الحج والعمرة:

وقد أكرم الله تعالى الشيخ بالحج والعمرات مرات عديدة ومنها خروجه حاجاً معتمراً على ظهور الإبل عام 1941م، وقد روى في بعض جلساته من ذلك مشاهد ومواقف طيبة كريمة فيها نفحاتٌ وتجليات، يكرم الله تعالى بها عباده الحجاج والمعتمرين.

تعليمه:

وقد درس الشيخ علوم الدين في المدارس العامة والخاصة الابتدائية والإعدادية والثانوية وكان نموذجا فريدا فذاً في إفادة طلبته والحرص عليهم كان وقدوة طيبة تُحتذى في الأقوال والأفعال وكريم الخصال، تترسم خطاها الأجيال.

المناصب التي تولاها:

تولى الشيخ منصب الإفتاء في درعا عام 1987 بعد الشيخ بركات الضَّمَّاد، وكان المرجع في الفتوى في حوران قبل ذلك وبعده، يفزع إليه الناس في شؤونهم وقضاياهم، له الأيادي البيض في حل المشكلات وفض الخصومات وبناء السلم الاجتماعي ووأد العدوات والذحول وإطفاء الفتنة النائرة وإخماد العصبية القبلية الثائرة.

جهوده العلمية والدعوية:

وقد أسس الشيخ مع الشيخ الشهيد السعيد سليم المصري وآخرين جماعة الإخوان المسلمين في حوران، وكان لها صولات وجولات في بناء صروح العلم والدعوة ومنازلة الفكر العلماني الإلحادي ومنظريه من المضلين المفسدين.

وفي عام 1987 أنشأ الشيخ ثانوية الإمام النووي للعلوم الشرعية، وتجشم الصعاب في سبيل إنشائها وبنائها ولاقى من السلطات الرسمية عنتا ومشقة، وفي هذه المدرسة تخرج خيرة طلاب العلم والدعوة الذين كان له شأن وشأو كبير في إحياء علوم القرآن والسنة.

كما أنشأ الشيخ بعد ذلك بنظره الثاقب وتفكيره الصائب أيضاً الثانوية الشرعية للبنات، إدراكا منه لرسالة المرأة المسلمة في رعاية الأطفال وبناء الأجيال وتربية الأبطال وتشييد صروح الفضائل ومحاربة الفساد والرذائل والمرأة نصف المجتمع وتربي نصفه الآخر.

وكان للشيخ حضور كريم في عدد من الندوات والمؤتمرات وإلقاء المحاضرات الإسلامية في عدد من الأمصار والأقطار.

وفاته:

قضى الشيخ سواده وبياضه في العلم والدعوة والإصلاح والجهاد والعبادة، صلى الشيخ آخر صلاة له فرض العشاء مع التراويح، ورقد في فراشه ينشدُ الراحة، ورَغَبَ إلى أهله أن يوقظوه حتى يصلي من الليل فاختاره الله تعالى الى جواره والبسمة تغمر محياه فَرَحَاً بلقاء الله تعالى خالقه ومولاه، وذلك في ليلة الخميس في الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1423هـ، يوافقه 27/11/2002م.

وخرجت في جنازته جمع من تلاميذه ومحبيه، وجماهيرُ حوران والجولان وعلماء دمشق وحضر جمع من الرمثا وإربد لتشييعه، ودفن في مقبرة درعا، رحمه الله تعالى. ودُفن في مقبرة أذرعات، رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

ذكريات:

 وسأقتصر في هذه الصفحات على تسجيل بعض المواقف والصور التي يُسْعَدُ قَلمي بتسطيرها مِنْ خلال صحبةِ هذا الأستاذ النبيل والشيخ العَلَم الجَليل، وما راءٍ كَمن سَمِعَ.

  أكرمني الله تعالى أنْ تِعرفتُ شيخنا العلامة عبد العزيز أبازيد بعد أنْ هاجرت مع أُسرتي من هضبة الجولان السورية المُحتلة، بعد أنْ استولى عليها اليَّهود إثْرَ نَكْبة حزيران عام 1967م، في مسرحية هزلية لم يشهد لها تاريخ الحروب ضَرِيْبَاً.

وسَلمها العلج النصيري حافظ أسد للصهاينة من غير حرب ولا قتال، إذ كان يومها وزير الدفاع، فهو الذي أعلن سقوط القنيطرة في بلاغ رقم (66) الشهير في يوم أسود كئيب قَمْطَرِير مِنْ قَبْلِ أنْ يُدنس ثراها جندي يهودي واحد. وأقمنا بعد ذلك في مخيمات الهوان والشتات في محافظات أذْرِعات المدينة الشهيرة التي قال فيها امرؤ القيس: 

تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها

** بيَثْرِبَ أدْنى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِ

وذكرها العلامة ابن مالك صاحب الألفية في قوله:

كذا أُولات، والذي اسما قدْ جُعِلْ

** - كأذرعاتٍ - فيه ذَا أيضا قُبِلْ

 وأذْرِعات هِي عاصمة حوران وتُعَدُّ مِنْ أقدم المُدن وتسمى اليوم دَرْعَا.

ألقينا عصا التسيار في درعا، ومن قبل هاجر والداي من فلسطين عام 1948م بعد أنْ جاسَ خلالها الصهاينة المجرمون وأسلمتها الزَّعامات الخَؤُون إلى بني صهيون. ومُصيبة أمتنا في القيادات والزَّعامات والحكومات التي دَرَبَتْ على السجود لهُبل ومَرَدَتْ على النِّفاق، وصُنِعت في جُحُور أعداء الإسلام، ومجدتها وسائل الإعلام وصفق لها الرَّعَاع والطَّغَام.

أُمَّتي كَمْ صَنَمٍ مَجَّدته

** لمْ يَكنْ يَحمل طُهر الصَّنم!

وقد أكرمني الله جل في علاه بمعرفه أستاذنا العلامة عبد العزيز جبر أبا زيد وحُضور دُرُوسه ومُحاضراته ونَدواته وصَحِبته في بعض أسفاره ورحلاته، ونَعِمْتُ بذلك زمناً كان من أجمل أيام العُمُرِ وأغلاها، وأحسنها وأبهاها، وأطيبها وأحلاها.

 وفي أوائل ثمانينيات القرن الماضي عَصَفَتْ في بلاد الشام عواصف الظُلم والإجرام والطغيان، وهَبَّتْ عليها رِيِحٌ صَرصَرٌ عقيم، تركت مغانيها الخضراء وحدائقها الغناء وبساتينها الفيحاء كالرَّمِيم، كان ذلك في عهد حكم رأس البغي والظُّلم والإفساد والإلحاد حافظ أسد.

فهاجرتُ مِنْ محافظة أذرعات مع مِنْ هاجر مِنْ إخواني الأحباء. ورَعَتْ السجون والمعتقلات شباباً وعلماءَ وفقهاءَ ومصلحينَ ومفكرين ودعاة هُداة كانوا زينة البلاد وحِلْيَهَ العِبَاد. وأصبحت الشَّام سجناً كبيراً. كان ذلك في شهر شعبان عام 1981م. وحُرمتُ كما حُرِم غيري من شباب حوران ورجالها صحبة الشيخ والإفادة من علمه وفضله وفقهه ونُبْله.

إذا ما ضَاقَ صَدرُك في بلادٍ

** تَرَحَّلْ طَالباً أرضاً سِواها

عَجِبتُ لمن يقيم بدارِ ذُلٍ

** وأرض الله واسعة فضاها

فذاك من الرجال قليل عقلٍ

** بليد ليس يدري ما طحاها

فنفسك فُزْ بها إنْ خفت ضيماً

** وخَلِّ الدَّار تَنْعَى مَنْ بَنَاها

فإنّك واجدٌ أرضاً بأرضٍ

** ونَفْسُك لا تَجِدْ نَفْسَاً سِواها

مشيناها خطىً كُتبت علينا

** ومَنْ كُتبت عليه خُطىً مشاها

ومن كانت مَنِيته بأرضٍ

** فليس يموت في أرضٍ سواها

وهذه الأبيات كثيرة الدَّوران على الألسنة في الأمصار والبلدان ونسبت لأكثر من شاعر، والمشهور أنها للأستاذ عبد العزيز الدُّريني وكان عالماً جليلاً وشيخاً نبيلاً عاش في مدينة المنصورة بمصر في القرن العاشر الميلادي. والله تعالى أعلم.

وقد ضربنا في الأرض، ومشينا في مناكبها، وطوَّفنا في أكنافِها، وقُلوبنا معلقة بالشام لا تَرِيم، تَحُوم فوق سهولها وهضابها ومدنها وقراها، وتَسْجُد في محاريب مساجدها، وترقب يوم العودة إليها وهو اليوم الأروع المأمول البَسَّام، وقد كان. 

تُوفي شيخنا 1423ه، 2002م، وقد أربَى على التسعينَ عاماً، وقد فقدت بلاد الشام وأمة الإسلام بموته عالماً ربانياً، ورجلاً قرآنياً، وداعيةً كبيراً، وفقيهاً نحريراً، ومصلحاً جليلاً، ومُربياً نبيلاً. وكان الخطب فادحا جَلَلاً، أدْمَى القلوب، وأبكى العيون، وأفاضَ على النفوس الأسى والشجى، وغمرها الحُزن والألم، فليس لعين لمْ يفض ماؤها عذر.

إنَّ عبد العزيز يوم توفى

** هَدَّ صرحاً ما كان بالمهدود.

ليتَ شِعري هَل دَرَى حَاملوه

** ما على النعش من عفاف وجود

وسأقف عند بعض الصُّور النَّضرة والمواقف العطرة في حياة هذا الطَّود الشَّامخ والعلم الباذخ، عسى أنْ تكون منارات هاديات ومعالم حقٍ وثباتٍ لأبناء المسلمين، الذين حَرَصَ الطواغيت على أنْ يظلوا في دياجير الظلمات، يَغُطون في وَهَنٍ وسُبَات، لعل الأجيال المسلمة تجدُ في هذه الصَّفحات ما يُذْكي حَزْمها ويُوُرِي عَزْمَها، ويُحفزها إلى السَّيْر الدَّؤوب في مَواكب الدَّعوة والجهاد والعمل الصالح، حتى لا تتفرق بهم السُبل ولا تتشعب أمامهم المسالك والدُّروب.

ومن الله وحده أستمد العون والمدد، وأسأله تعالى الإخلاص والتوفيق والرَّشَد، إنَّه خير مسؤول وأكرم مأمول وهو حسبي ونعم الوكيل.