ذكريات مع شيخنا الشيخ المهدي الشوماني

مصطفى البشير أبو راوي

 

"إن العين تدمع، والقلبَ يَحزَن، ، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا(1)، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون"(2).
كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي ولده إبراهيم عليه السلام، ونرددها اليوم في وفاة المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ المهدي الشوماني رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
انتقل شيخنا إلى عفو الله في يوم الإثنين: 22 من شهر ربيع الآخر، سنة 1431 هـ، الموافق: 8 مارس، سنة 2010 م، عن 87 عاما.
صُلِّي عليه ودفن بمدينته "مسلاتة"، صلى عليه صديقه الحميم الشيخ علي عبد الله جوان، وأبَّنه، كما أبَّنَه كل من المشايخ: أ. د. عمران علي العربي، وأ. د. سالم محمد مرشان، وأ. محمد أبو عجيلة.
والشيخ رحمه الله علم من علماء بلادنا، ووارث من وُرَّاث النبوة، جاهد رحمه الله رحمة واسعة في سبيل العلم، وأعطاه عمره كله تعلما وتعليما، ولا أعلم أنه اشتغل بغيره، وصبر وصابر في تحصيله وتدريسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهّالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"(3).
أتقن العلوم الشرعية واللغوية التي كانت متاحة في عصره، كان يحسن فهمها، ويحسن تدريسها، ويحسن تطبيقها، وطُوِيَ بطيه علم غزير، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه: "دفن اليوم علم كثير".
لعمرك ما الرزية فقد مال * ولا فرس يموت ولا بعير
ولــكنَّ الــرزية فــقدُ حُرٍّ * يموت لــموته خـــلق كثير
أول مرة التقيته فيها كانت في الجامعة الأسمرية؛ ولم أكن أعرفه قبلها؛ وقد كان رحمه الله من أوائل من لبى وهب للتدريس بها عندما فتحت.
تشرفت بالدراسة عليه رحمه الله في سنوات الجامعة الأربع؛ درست عليه في كلية الشريعة، وكانت تسمى أول الأمر قسم الشريعة، وكنت في أول دفعة فيها.
درَّسنا أصول الفقه، وأذكر أنه أملى علينا في أول الأمر، ثم وقع العزم على دراسة المادة من كتاب شيخنا العلامة الأصوليِّ الأستاذ الدكتور عبد السلام محمود أبو ناجي حفظه الله وسلمه، وكان ذلك في أول سنة في الجامعة.
كما درستُ عليه تفسير آيات الأحكام في السنة الأولى والثانية والثالثة، أملى علينا مقدمة في التفسير، ثم استقر الأمر على دراستها من كتاب "تفسير آيات الأحكام" للشيخ محمد علي السايس رحمه الله تعالى، وكان يضيف عليه؛ مبتدئا درسه بمناسبة الآية لما قبلها، ثم ما يشكل من معاني المفردات، ثم الإعراب والمباحث البلاغية، ثم بيان الأحكام الفقهية، ثم يُكِرُّ بقراءة الكتاب.
وكانت عادته رحمه الله أن يقرأ الكتاب بنفسه، وأثناء القراءة يشرح ما يشكل، ويفتح ما أقفل، وربما استغرق في الشرح أثناء القراءة ولم يرفع رأسه من الكتاب، ولو رآه من لا يتابع معه ظنه يقرأ، والحال أنه يشرح.
كما قرأ لنا كتاب "سبل السلام" للصنعانيّ رحمة الله عليه؛ إذ كان هو الكتاب المقرَّر في مادة فقه الحديث، ودرَّسنا في السنة الرابعة أحكام البيوع من كتاب "الشرح الصغير" للدَّرْدير، ولما كان المنهج المقرر لا يمكن إكماله في العام الدراسيّ اقترح علينا أن ندرس بابي الشفعة والقسمة، معللا ذلك بشدة الحاجة إليهما، وكثرة سؤال الناس عنهما.
ودرَّسنا في مرحلة الدبلوم في الدراسات العليا مادة الكتاب القديم؛ قرأ لنا فيها جملة صالحة من "مقدمات" ابن رشد، وشرح خطبة مختصر خليل وجزءا لا بأس به من باب الزكاة، كلاهما من "الشرح الكبير" للدَّرْدير.
وكان في نهاية المحاضرة ربما ذكر البيت والبيتين من منظومة السوسيّ في الفلك، ويشرحها لنا؛ إذ كان الحديث عن الطقس و"الليالي" و"العَنْصَرة" حديث التبسط مع الطلبة، كما هي عادة الليبيين.
وأخبرنا أنه قرأها على الشيخ الطيب المصراتيّ طيب الله ثراه، وأسكنه من فسيح الجنان أعلاه، في زاوية الشيخ، وسمعتُ أن بعض الطلبة النابهين كان يقرأها على الشيخ في بيته.
والشيخ دَرَسَ في مدينته مسلاتة في أول أمره، ثم انتقل إلى المعهد الأسمريّ بزليتن، ثم تابع دراسته في جامعة السيد محمد بن علي السنوسيّ رحمه الله تعالى في البيضاء، ثم تحصل على الماجستير من فرع الجامعة الإسلامية في الجغبوب، ولا أدري لِمَ لَمْ يكمل الدكتوراه؟
ودار الحديث مرة عن ضيق العام الدراسيِّ اليوم وعدم استيعابه للمقرارات الدراسية، فحدثنا عن دراسته الأولى؛ فقال: كنا نقرأ الكتاب من أوله إلى آخره؛ نبتدئ من بسم الله الرحمن الرحيم والحمدلة والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وما في المقدمة من براعة استهلال وغيرها، و(نَجُرُّ) مع الكتاب إلى أن نصل إلى قول المؤلف: والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين، آخرَ الكتاب، ولم يكن الدرس محددا بساعة أو ساعتين، وإنما نتوقف حين ينتهي الشيخ من تقرير ما نحن بصدده.
قال: وكنا ندرس العام كله، إلا في شهر رمضان خاصة؛ نتفرغ للقرآن.
ووالده هو الشيخ محمد الشوماني، كان من العلماء؛ أخبرنا بذلك ونحن في بيته، قال: كان والدي عالما، وكان المفتي الشيخ الطاهر الزاويُّ رحمه الله تعالى إذا جاءته الفتوى من والدي يختم عليها ولا يراجعها، ثقة بعلمه، قال: وكان والدي مولعا بالنحو؛ فعندما أرجع من زليتن أيام دراستي بالمعهد يبادرني بقوله: أعرب قول الله تعالى ...، أعرب قول الشاعر ...، وكان هذا ديدنه مع طلبة العلم حينما يلقاهم في السوق أو غيره.
وقد زادت هذه الدروس الإضافيّة في مهارة الشيخ النحوية؛ فكان الإعراب عنده سهلا ميسورا؛ يعرب الآية أو الحديث أو الشاهد من الشعر دون أن يتلكأ أو يتوقف، رحم الله الوالد والولد؛ ذرية بعضها من بعض !!
وأخبرنا أن الشيخ المهدي المدني من أهل مصراتة كان قاضيا في مسلاتة، وله ابن يسمى محمدا كان يأتينا في البيت، يدرس على والدي رحمه الله.
وفي عائلة الشيخ عدد ممن ينتسبون إلى العلم الشرعيّ.
والشيخ من شدة تواضعه وهضمه لنفسه لم يكن يتكلم عن نفسه، ولذا لم يكن يحدثنا عن مشايخه، ولا على من درس، وأذكر أني سألته في آخر محاضرة في السنة الرابعة أن يعطينا نَبْذَة عن حياته العلمية، فتجاهل السؤال وتغافل عني، ثم كان حديثه لنا عن والده بعدها في بيته، شعرت كأنما هو تطييب لخاطرنا، رحمه الله رحمة واسعة.
أما على صعيد الزمالة فأذكر أنه حدثنا عن علاقته الحميمة بالشيخ علي جوان متعه الله بالصحة والعافية، وذكر أنهما تزاملا في الدراسة من السنة الأولى الابتدائية حتى أخذا الماجستير من فرع الجامعة الإسلامية في الجغبوب، قال لم نفترق طيلة هذه المدة، وكذلك الشيخ عليٌّ دائم الثناء عليه وعلى علمه.
وأخبرني بعض إخواني أن الشيخ عليا فتح بيته يستقبل المعزين له في الشيخ المهدي رحمه الله، كما أن عددا من زملاء الشيخ وقفوا لقبول العزاء؛ منهم الشيخ عليٌّ، وشيخي أ. د. عبد السلام أبو ناجي.
وكان يسألنا عند زيارته في الأعياد وغيرها عن مشايخ "مصراتة"؛ فيذكر الشيخ مصطفى أبو فلغة، والشيخ علي تيكة والشيخ امحمد فنيخرة، والشيخ أحمد أبو مزيريق، والشيخ محمد جبعور، والشيخ محمد الكبير، وغيرهم ممن لا أذكرهم الآن.
والشيخ رحمه الله تعالى درَّس في معهد القراآت في البيضاء، وفي الجامعة الإسلامية بها، كما درَّس في جامعات الفاتح والمرقب والأسمرية.
وحدثنا مرة قال: جاءنا في الجامعة الإسلامية سؤال من إحدى الدول الإسلامية عن طريق وزارة الخارجية، تسأل تلك الدولة كيف يمكن أن تتحاشى الربا في القروض السكنية؟ قال: فاجتمعنا، وتدارسنا، وخرجنا بأحد حلَّيْن: إما أن تبني الدولة المساكن بنفسها، ثم تبيعها للمواطنين بالثمن الذي تشاء إلى أجل محدد، وإما أن تشتري مواد البناء وتبيعها للمواطنين بثمن آجل إلى أجل محدد.
والحق أن الشيخ وبقية مشايخنا وجدوا أنفسهم في الجامعة الأسمرية؛ إذ درَّسوا موادَّ وكتبا لم يُدَرِّسوها من أيام الجامعة الإسلامية في البيضاء، والجامعة وإن شابها دَخَن ففيها خير كثير، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ومما كان يعجبني في الشيخ رحمه الله موسوعيته، وقدرته على تدريس العلوم الشرعية واللغوية، واستحضاره لمتونها، وحسن توظيفه لها؛ فمتن ابن عاشر والعاصمية في الفقه والرحبية في الميراث والألفية في النحو والجوهر المكنون في البلاغة والجوهرة في التوحيد ومنظومة السوسي في علم الهيئة، كلها حاضرة لديه، سهلة القطاف، شهية المتناول.
هذا على صعيد التعليم الجامعيّ الذي مارسه الشيخ مبكرا، ولم ينقطع عنه إلا في سنوات حياته الأخيرة.
وكان له نشاط علميٌّ آخر يتمثل في الفتوى والتوثيق وحل النزاعات والصلح بين الناس؛ إذ للناس ثقة كبيرة في علمه ودينه، فيغشون بيته مستفتين، كما سمعت أنه خطب الجمعة في مسجد الدوكالي بمسلاتة.
وما زلت أذكر عندما كان يدخل بوابة الجامعة بخطواته الوئيدة، فيأتيه الأول فيقرأ عليه السلام، ويستفتيه وهو يماشيه، فإذا أجابه عن مسألته جاءه الثاني، وهكذا ...، والطلبة ينظرون وهم مشفقون على الشيخ، يتمنون أن لو كانت هذه الأسئلة بعد أن يجلس الشيخ ويستريح.
فإذا انتهت المحاضرة انثال عليه الطلبة يسألونه الواحد بعد الآخر، وربما خرج من القاعة يريد أن يستريح في حجرة أعضاء هيئة التدريس، فما يصل أول الدرج حتى يقال له إن المحاضرة الثانية قد بدأت، فيرجع إلى القاعة.
وقد كتب له القبول عند الناس جميعا خاصتهم وعامتهم؛ لأنه كان حسن الخلق، سهلا لينا، لا يجعل بينه وبين الناس حاجزا.
وسمعت أنه يجلس في دكان معروف في السوق ـ والسوق الشعبيّ في مدينة "مسلاتة" يوم الخميس ـ فمن أراد معرفة حكم الشرع في مسألة قصد الشيخ في ذلك المحل.
وكم خسرت الجامعة الأسمرية بانقطاعه عن التدريس فيها؛ إذ كان فقيها حاضر الفتوى، صحيح النقل، يحسن تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع الجزئية، ولم يَخْلُفه فيها مثله رحمه الله.
بيد أن جانب التميز في شخصية شيخنا رحمه الله أمر آخر وراء هذا كله، وهو أخلاقه العالية الكريمة، وخصاله السمحة، وتواضعه الجمّ، وطهارة نفسه؛ يدرك ذلك منه كل من جالسه أو قرأ عليه.
فأول ما يسترعي انتباهك عند رؤيتك له طرحه للتكلف جملة، وبساطته اللافتة للانتباه.
كان يعقد ربطة الجرد (الحِرَّاتيَّة) بطريقة بسيطة، ويدخل إلى قاعة الدراسة في الصباح وقد لفَّ طرف الجرد على عنقه أكثر من لفة، لعله مخافة أن يتعثر به، فما أن يستقر به المكان حتى يبدأ في حلها، ويلقي بطرف الجرد على كتفه، ثم يستخرج الكتاب من الظرف، ويبتدئ الدرس بالحمدلة، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتدفق في درسه، فلا يوقفه شيء إلا تمام الموضوع، وهو يبدئ ويعيد في الشرح، لا يمل من التكرار، وربما داخل بعض الطلبة النابهين ملل، فطلبوا إلى الشيخ ألا يكرر؛ فما كان منه إلا أن اعتذر بأن الطلبة يتفاوتون، منهم من يفهم من مرة واحدة، ومنهم من يحتاج إلى التكرار ليفهم، أو لترسخ المعلومة في ذهنه، فما كان منهم إلا أن خضعوا لذلك وأذعنوا.
ترك رحمه الله المناصب فلم يقبل عليها، ولا استدعي لها، ولا شيء من ذلك، "ومن العصمة ألا تجد"، وإنما كان شغله الذي وقف نفسه له العلم، تعلما وتعليما.
ولم أسمعه يغتاب أحدا، أو يذكر أحدا بسوء، ولا كان ممن يحسد أو يحقد أو تعرف الضغائن إلى قلبه سبيلا رحمه الله، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أيُّ الناس أفضل؟"، فقال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان"، قالوا: "صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟"، قال: "التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد"(4)، وأشهد أن شيخنا رحمه الله كان كذلك، يدرك هذا منه كل من عاشره أو درس عليه.
ولا أذكر أنه كان يعظنا أو يذكرنا بالآخرة، ولا كان يتحدث في الرقائق؛ لكن كان لسان حاله أبلغ من لسان المقال، رحمه الله.
وكان الطلبة يعجبون منه إنْ ضحك أو تبسم؛ ضحكة تحاكي ضحك الأطفال في براءتها.
ذكر لنا مرة أن شيخا من مدينة "مصراتة" كان يدرسهم التجويد في المعهد الأسمريّ، وكان ممن يُسْتَغْفَل ـ يعني فيه غفلة الصالحين، على حد تعبير القاضي عياض رحمه الله(5)،أيْ أنه كان (نية) كما في تعبيرنا، وإذا كان الشيخ الشوماني وهو من هو طيبةً وسلامة صدر يصفه بذلك، فكيف سيكون حال هذا الشيخ ؟!!.
قال الشيخ: وكان هذا الشيخ يشرف علينا في امتحان، ومعنا طالب ... ـ يعني محتال متشيطن، تلكَّأ الشيخ في وصفه، ولم يكن في مفردات الشيخ ما يصفه به ـ خرج الطلبة كلهم من الامتحان وبقي هذا الطالب ليس عنده ما يكتبه ومعه الشيخ، فدخل أستاذ من لجنة مراقبة الامتحانات، وتحدث مع الطالب وخرج، فجاء الشيخ إلى الطالب، وقال له: ماذا قال لك؟ فقال الطالب: لا شيء، إذا لم تعرف شيئا فاسأل عنه الشيخ، فقال له الشيخ: وهل هناك شيء لم تعرفه؟ فجعل الطالب يقرأ الأسئلة والشيخ يجيبه والطالب يكتب الإجابات.
وهنا يضحك الشيخ والطلبة تبعا له، وكم وكم تذاكرنا هذه القصة في القسم الداخليّ.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وحدثتني يا سعد عنــهم فزدتني * سرورا فزدني من حديثك يا سعد
هيه ... لله ما كان أهنا زمن الملتقى وما كان أحلى.
لقد كنت أشعر في أيام الدراسة بطمأنينة نفس وراحة بال، ما كنت أعرفها من قبل، ووالله لقد كانت نفسي تنشرح بدخولي بوابة الجامعة.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
كنا مرة في قاعة الامتحان ومعنا أستاذ عراقي، ممن ينتهج منهج الحداثة في درس الأدب، ودخل الشيخ رحمه الله القاعة، قرأ السلام وجلس وجعل يصلح من جرده، كل ذلك بحركة رجل كبير السن، والأستاذ العراقيُّ يرصد ذلك كله، وأثر السرور والانبهار بادٍ عليه، ثم أقبل على الشيخ مسلما ومهنئا، وكان من عادة الشيخ أن يقبل يد من يقبل يده، فإن فاته بيده قبل رأسه، وكان ذلك الموقف إثر مقدم الشيخ من الحج.
وما كنت أظن أن مثل الشيخ يستهوي مثل ذلك الأستاذ، لكن ...
تواضع، وهضم للنفس، وخفض للجناح، يصدر منه من غير تكلف ولا تصنع؛ كنت ولا زلت أتعجب كيف استطاع أن يقهر نفسه ويخضعها، ولكن كما قال يحيى بن يحيى: "تذاكرنا مع ابن القاسم هذا الأمر، فكُلُّنا قال: الورع أشد ما في هذا الدين، فقال ابن القاسم: ما هو عندي كذلك، فقلت: يا أبا عبد الله كيف ذلك؟ قال لي: لأنا أمرنا ونهينا؛ فمن فعل ما أُمِر به وترك ما نُهِي عنه كان أورع الناس. فقلت له: يا أبا عبد الله، لقد خَفَّفَ الله عليك ما ثَقُل على غيرك"(6)، ولقد صدق الأول:
وكن تربا لينبت فيك ورد * فإن الـورد منـبته التراب
كان رحمه الله عندما يريد أن يحدثنا عن تدريسه لمادة أو كتاب يقول: قرأت أنا وطلبة السنة الثانية ـ مثلا ـ كتاب كذا، ولا يمكن أن تسمع منه: درَّستُ كتاب كذا، أو قرأ عليَّ، ... ؛ فهذه مصطلحات ممنوعة مع منهج هضم النفس الذي ألزم نفسه به.
وأذكر أن نازلة في الميراث نزلت عندنا في "زاوية المحجوب"، استفتي فيها شيخنا المعمَّر المبارك له في عمره وعمله الشيخ الهادي عبد الله الطويل فأفتى؛ ثم استفتي فيها الشيخ نوري أبو فناس رحمه الله، وهو المشهور بالميراث في مدينة "مصراتة"، وبالمناسبة فقد ذُكِر عند الشيخ مرة، فقال: أعرفه، كان مديرا للقسم الداخلي في المعهد الأسمري أيام دراستي فيه، وطلب منا أن نُقرِئه سلامه ـ فأفتى بجواب آخر، وزار الشيخ علي جوان أصحاب النازلة فعرضت عليه فأجاب بجواب ثالث، فعرضت المسألة والأجوبة على شيخنا المهدي الشوماني وشيخنا أ. د. حمزة أبو فارس؛ فأما الشيخ حمزة فأقر جواب الشيخ الهادي ولم ير ما يستوجب الكتابة، وأما الشيخ المهدي فكتب جوابا مطولا خالف فيه الأجوبة السابقة كلها، وأذكر أنه حينما سلمه لزميلنا قال: هذا ما انتهى إليه علمي، وإن كان غير صحيح فنبهوني، والحق أولى بالاتباع، أو كلاما هذا معناه، فتأثر الطلبة من الموقف ورقُّوا لذلك، وكان درسا كبيرا لنا.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لا إله إلا الله ....
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم * بعد الممات جمال الكتب والسير
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
كان رحمة الله عليه رجلا مباركا؛ كثُر خيره، فعمَّ طلبة العلم وعامة الناس، كما عمَّ أهل مدينته وما يحيط بها من مدن وقرى.
وقد ابتلي أجزل الله مثوبته ابتلاآت عظيمة، كما هو شأن أهل الفضل؛ فأذكر أن ولده توفي في حادث مروري، وهو في ريعان الشباب لم يتزوج بعد، فذهبنا مع من ذهب لشهود الجنازة، وكان اجتماعا كبيرا حاشدا، ثم قدر الله فتوفي ابنه الآخر، وهو شاب في ريعان شبابه لم يتزوج كذلك، بعد عام من موت أخيه، وذهبنا للتعزية، وذهب معنا شيخ من مسلاتة يقيم في مصراتة ـ لا أذكر اسمه الآن ـ، فسر لمقدمنا، وأقبل على الشيخ المسلاتي يسأله عن حاله ويستخبره عن أموره، فلما أردنا تسليته في مصابه، لم يزد على قوله: "الرضا بقضاء الله واجب"، ولم يَبْدُ منه جزع ولا حزن، رحمات الله المتتابعات على الولد والوالد !!
وبعد فلئن كان موت العالم ثلمةً في الإسلام لا يسدها إلا خلف منه، فإن لنا في تلاميذه أملا أن يسدوا مسد الشيخ، وأن يكونوا خير خلف لخير سلف، فلقد أعطاهم رحمه الله من وقته وجهده الكثير والكثير ..
أسأل الله تعالى أن يعلي ذكره في الصالحين، ويرفع اسمه في العلماء العاملين، وأن يجعل له لسان صدق في الآخرين، ويسكنه جنات النعيم ...
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــ الهوامش ــــــ:
(1) ويروى بفتح الياء من يرضي ورفع ربنا. ينظر مشارق الأنوار: 2/355.
(2) أخرجه البخاري: 1303.
(3) أخرجه البخاري: 100، ومسلم: 2673.
(4) أخرجه ابن ماجه (4216)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما، بإسناد صحيح.
(5) ذكرها في ترجمة أحمد بن مطرف الأزديّ، المعروف بأبي عمرو بن المشاط (ت 352 هـ). ينظر ترتيب المدارك (ط المغربية): 6/135، 139.
(6) البيان والتحصيل: 18/593.