ذكرى رحيل الوالد

 

إحدى عشرة سنة مضت على رحيل الوالد ، كانت وفاته في ليلة مباركة ليلة القدر، سنوات مليئة بالذكريات والأحزان والآهات، ترتفع الآمال ، وتخفق القلوب كلما تقلبت الأيام .. ودار الزمن في محوره.

غبت عني ياأبت ، غاب عني أجمل وجه في الحياة، يهلل للقياي، ويبتسم لمحياي، ويغمرني بالسعادة حين أسلم عليه ،وتعطرني أهدابه بعصير الشوق، قلب الأب لا يختلف حنانه أمام ولده، سواء أكان طفلا" أم شابا" أم مسنا"،

كان يجلس حولك أولادك الثمانية ، وتعطي لكل واحد حظه من الحب والعناية كأنه طفل صغير، تسأل بناتك عن أولادهن ، وتسأل أبناءك عن أولادهم ،ويطفح وجهك سعادة حين تطمئن على أحفادك، لغة الحب ليس لها سلالم زمنية وأنغام موسيقية، فهي فيض أبوي ، ونبع سرمدي.

رحلت يا أبي وتركتنا في فراغ.. كبرنا وسجل الزمن أعمارنا على أوراقه ، إن فراغ الحب لا يملأه أحد، خطى الزمن تظهر لنا هذا الفراغ.. حين رحلت امي، لم يتغير شيء من نظام لقائك مع أولادك جميعا" في كل أسبوع، المسرة تجمعهم ، والود نشيدهم.

رحلت يا أبي أصبح اولادك غربا.. غرباء.. الغربة مرض يأكل السعادة، وجودك كالفجر يدع أولادك جميعا" في ترابط واجتماع، تتوالى كوارث الأيام.. ويمتد الضباب ، فتنادي القلوب رب السماء، وتتلمس أرواح الإخوة والأخوات الذكريات بين جناحي الأب والأم ، فيهزهم الألم بمعوله، فقد تلاشت طاقات الحنان، وتناثرت أزهار السعادة.

كان الوالد- رحمه الله – يقص علينا أقاصيص الحياة، ينقلنا من قصة إلى قصة، لنعتبر ونستفيد، حزينه مليئة بواقعات أكثر من تسعين سنة ، ترويها ذاكرة رائعة بلسان رطب ، يتدفق منه، سنابل الحياة ، لتكون مدادا" للصدور في مواجهة أصداف المستقبل، انقطعت عنا قصص الأيام، ألوان من الحديث ماتت في شفاهنا، فلن تنطق بها أبدا"، ألوان من الذكريات خمدت في قلوبنا ، ألوان من السهرات طواها الزمن ، فلن تعود أبدا"، الحديث الوحيد الذي لم يتكلم به الوالد- رحمه- معنا طيلة حياته، المال واساليب جمعه والحفاظ عليه ، الدنيا ومباهجها، لم تبعده عن عبادته ومحبته لتبليغ رسالة ربه.

عندما كان الوالد-رحمه الله – يسير مع أولاده في طرقات حلب ،عندما كان رحمه الله يسير معهم في طرقات حلب، إذا مر بجامع عرف ببانيه وذكر الأوقاف التي يشتمل عليها الجامع، وبين شروط الواقف، وإذا مر بشارع عرف أولاده على بيوت علماء حلب الذين عاصرهم أو تتلمذ في مجالسهم ، وذكر بعض صفات ذلك العالم، وقد يقف أمام البيت ليقرأ الفاتحة على روح ذلك العالم،وكان دائم الذكر لشيوخه ،يهدي لهم ماتيسر له من القرآن، وإذا مر الوالد بزاوية أوتكية، حدثنا عن الأذكار التي تقام في داخلها. والطريقة الصوفية التي تتبعتها، إننا نجد في تلاميذ الوالد الذكرى الطيبة، الشيخ يوسف هنداوي حفظه الله قال في إحدى خطبه.. ( وإذا قابلتم الشيخ محمد زين العابدين الجذبه فاطلبوا منه الدعاء)شهادة من تلميذ غلى شيخه، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ..لولا شيوخ ركع، وشباب خشع، واطفال رضع، وبهائم رتع،لصب عليكم العذاب صبا").

كل ذكرى تطل من الماضي أو أمنية ترجى من المستقبل ، عليها منارة من الوالد، غاب الوالد عن مقعده في البيت ، لكن روحه تبقى ماثلة واضحة، كل ذرة في حياة أولاده ممتلئة بوجوده. رحم الله الوالد وأسكنه فسيح جنانه.