د محمد الهواري رحيل العالم والإنسان

 

فقد المسلمون في ألمانيا وأوربا والعالم العربي والإسلامي أمس الثلاثاء السادس من يناير 2015 م عالما جليلا وفارسا من فرسان الدعوة، الأستاذ الدكتور محمد الهواري رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه.

 

والدكتور الهوارى رغم تخصصه في الصيدلة وحصوله على الدكتوراة فيها إلا أنه درس العلم الشرعي على كبار شيوخ الشام، وكان عضوا في المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث  منذ تأسيسه حتى رحيله، وخبيرا في المجمع الفقهي الدولي، وقد ارتبط اسم الدكتور الهواري في ألمانيا وأوروبا بقضيتين رئيستين هما: مواقيت الصلاة، والطعام الحلال.

 

 بذل الراحل جهدا كبيرا في ضبط المواقيت وتحديد اتجاه القبلة والاجتهاد لتقدير أوقات الصلاة في المناطق الفاقدة للعلامات الشرعية، وصار مرجعا محددا للمواقيت وخبيرا في صحيح الأقوال وسقيمها فيها، وكان مرجعا علميا للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث في قضايا الفلك، والمواقيت، والطعام الحلال، وقد وضع طريقة مبتكرة لحساب مواقيت الصلاة في جميع بقاع العالم باستخدام الحاسب الآلي، وطبق هذه الطريقة في وضع برنامج حسابي لآلة المؤذن لحساب مواقيت الصلاة واتجاه القبلة صنعت في سان فرانسيسكو واليابان، كما وضع برنامجا حسابيا لمطابقة التقويم الهجري مع 18 تقويم عالمي مختلف.

 

 ولعب دورا كبيرا في قرار المجلس باعتماد الحسابات الفلكية في تحديد بداية الأشهر الهجرية لمسلمي أوربا، وكان لهذا القرار أثر كبير في توحيد مسلمي ألمانيا في الأعياد الدينية ومنحهم إجازات رسمية من قبل الدولة، وتحاول أقطار أوربية أخرى متابعة ألمانيا في الالتزام بالقرار، ثم قام بدور أيضا في تعديل قرار المجلس لتصبح الرؤية العلمية الفلكية عالمية دون الارتباط بمكة، أو أي بلد عربي آخر؛ لعموم الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وهو التوجه الذي يمكن أن يوحد المسلمين في العالم في الأعياد وبداية رمضان دون الوقوع في الأخطاء المتكررة في إعلانات بعض الدول العربية، ويجعل صيام المسلمين وفطرهم في جميع مدن العالم في يوم واحد.

 

أما ملف الطعام الحلال والمراقبة الشرعية على الذبائح ووضع المعايير لها فقد كان الدكتور أبو محمود من أوائل المهتمين بهذا الملف والحركة الدائمة فيه، تأصيلا وتعديلا وتعليما وإنشاء للمؤسسات، حتى كثرت مؤسسات المراقبة الشرعية للذبائح، ووضعت معايير الحلال، وأصبحت استثمارات المسلمين فيها ضخمة جدا.

 

عرفت الدكتور الهوارى منذ أن قدمت إلى ألمانيا، والتقيته في مؤتمرات وندوات علمية كثيرة، وزرته في بيته مرات وكرات، فرأيت فيه العالم والإنسان الذي يقنعك بعلمه، ويرتفع بك بخلقه وحلمه، كان دائما هاشا باشا متفائلا، متواضعا يعترف بالعلم والفضل لمن هو أدنى منه، لا يأنف أن يتعلم حتى من تلاميذه، لكن الشيء المبهر في شخصية د محمد الهوارى رحمه الله تعالى هو همته العالية، وروحه الوثابة، وحرصه على المشاركة في المؤتمرات والملتقيات والمناشط النافعة للمسلمين، كنا نتصل به لاستشارته وهو في المستشفى، والأجهزة الطبية وأنابيب التنفس تحيط به ويتحدث إلينا بصعوبة، ونعتذر منه ويصر على الحديث وإبداء الرأي، حضر الدورة الأخيرة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث على عربة متحركة وأنبوب التنفس الصناعي لا يفارقه!

 

 وكان له صبر عجيب على التعليم والإفهام، وربما سئل نفس السؤال عشرات المئات فيجيب ويشرح ويفصل حتى يصل السائل إلى بغيته وهدفه.

 

شرفت بزيارته الأسبوع الفائت قبل وفاته بأيام، وكان مجهدا متعبا لا يقوى على الحركة إلا بصعوبة بالغة، فأشفقت عليه وطلبت الاستئذان مباشرة بعد السلام والدعاء، فأصرَّ على الجلوس والحديث والابتسامة المعهودة ومتابعة أحوال الأئمة والمسلمين في ألمانيا، ودار النقاش حول ما انتهينا إلى تطبيقه في منطقة فرانكفورت في هيئة العلماء والدعاة بألمانيا، والمجلس الفقهي لرابطة مساجد الراين ماين، من تعديل درجة حساب مواقيت الصلاة في ألمانيا على الدرجة 13 بدلا من 18 توسعة على المسلمين وتوافقا مع الأغلبية التركية في ألمانيا، فأبدى استحسانا قائلا: هذا رأي معتبر له وجه، وقد صححه المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وفيه توسعة وتيسير على المسلمين فلماذا لا نتجه إليه؟

 

 رأيت الرجل صابرا شاكرا راضيا بقضاء الله، راجيا الخير لدينه وأمته، مهموما مكلوما لجراحات المسلمين في سوريا والعالم، يترقب فرج الله ونصره ويراه قريبا، يعدّد نعم الله تعالى عليه، يتابع شؤون المسلمين، ويجتهد في الإسهام في علاجها وحلها.

 

من المواقف التي أذكرها في دورة سابقة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث أن العلامة الدكتور يوسف القرضاوي قال باكيا في كلمته الافتتاحية للدكتور الهوارى حتى أبكاه معه: ستعود إلى سوريا يا دكتور بعد تحريرها من الظلم والاستبداد، وسندخلها معا عندي يقين في هذا إن شاء الله، رحل أبو محمود قبل أن تتحقق الأمنية ويعود إلى وطنه الذي غيبه عنه الظلم والاستبداد لسنين طويلة، لكنا جميعا لم نفقد الأمل في تحرير سوريا والأمة كلها فعسى أن يكون قريبا ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

 

رحل أبو محمود وترك فراغا كبيرا برحيله وجدَّد السؤال المؤلم: من يخلف هؤلاء العلماء الذين فقدناهم؟!

 

رحمك الله أبا محمود، وطيب ثراك، وأنزل الصبر والسكينة على قلوب أولادك وأسرتك ومحبيك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.