دفاع عن الأفغاني

-1- 

أضحى التفسير التآمري للتاريخ مرفوضًا على الرغم من أن «المؤامرة» لم تنقطع في أيّ مرحلة من مراحل التاريخ، مع اختلاف حظّها أو حجمها في بعض هذه المراحل، أو أثرها البيّن في صنع بعض الأحداث. وحين نجد مثل هذه المؤامرة أو نقع عليها أو نصطدم بها في قراءة التاريخ أو في محاولات تفسيره؛ فيجب ألا يحملنا الخوف من الاتهام بأننا من أنصار التفسير التآمري للتاريخ على رفض هذا التفسير ما دامت المؤامرة واقعة حقيقة أو قائمة فعلاً، وبغضّ النظر كما قلنا عن مدى حضورها في بعض الأحداث، وصلاحيتها لتفسير كثيرٍ من الوقائع. كلُّ ما في الأمر أنها ليست «المفتاح» الذي تُفتح به جميع المغاليق، أو تُعَلَّق عليه جميع الأخطاء.. بعيدًا عن سنن الله سبحانه وتعالى في النصر والهزيمة، وقيام الدول، وسقوط الحضارات. ليس كل التاريخ مؤامرات.. ولكن المؤامرة موجودة فيه بكل تأكيد.

كان لابد من هذه المقدمة للإشارة إلى تفسير آخر صِنْوٍ لهذا التفسير أو قريب منه على أقل تقدير، وهو التفسير الفضائحي إنْ صحَّ التعبير، ونعني به اعتماد «الفضيحة» بمعناها الأخلاقي أو بمعناها العام القائم على الفصام الحاد بين الفكر والسلوك.

ولهذا فإن هذا التفسير أكثر ما يمارس في الكتابة عن العظماء أو الشخصيات التي تركت أثرًا واضحًا في حياة الشعوب! من أجل تشويه سمعتها وسيرتها، وإظهارها بمظهر لا يتلاءم وشرف ما تدعو إليه. وغنيٌّ عن البيان أن هذا التفسير يختصر الطريق إلى المحاصرة وعزل التأثير، في الوقت الذي يجد طريقه إلى أسماع الجهَّال والأغرار الذي تستهويهم «الفضيحة»! وربما أخذ طريقه كذلك إلى أسماع بعض الفضلاء الذين يأخذون أنفسهم بأقصى درجات الصدق والالتزام الأخلاقي، فيقعون في المبالغات وتصديق الإشاعات.

ويبدو أن هذا التفسير هو ما لجأ إليه نفر غير قليل من المستشرقين حين حاولوا تصوير النبي ﷺ في حياته الزوجيَّة على نحو لا يتلاءم وشرف النبوة! وفي حين لم تصب شبهات المستشرقين هؤلاء- وأشباههم- مقتلاً أو لم تتحقق بها «الفضيحة»! يوم أميط اللثام عن هذه الحياة الشريفة، بل على العكس من ذلك على المعهود في وقائع السيرة والفهم والتفسير الصحيح لهذه الوقائع، وكما جلاّه الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله على وجه الخصوص؛ فإن هذا اللون من ألوان التفسير قائم ومستمر.

وفي وسعنا أن نسلك جملة التهم التي ألصقت بجمال الدين الأفغاني في هذا المسلك أو نفسّرها بهذا التفسير. وإن شئت قلت: إنَّ هذه التهم- وما أكثرها- لا تخرج عن التفسير التآمري مرة، والفضائحي مرة أخرى، ولهذا فإننا لا نعجب من أن هذه الاتهامات يطلقها ويصدقها أصحاب الغيرة على الإسلام مرة، وخصومه وأعداؤه مرة أخرى. ولكن العجب كل العجب أن يصل بعض أصحاب الغيرة على الإسلام إلى حدّ تحريف النصوص، أو تأويل الكلام.. وصولاً إلى الطعن والتشويه!! كما فعل صاحب كتاب «صحوة الرجل المريض أو السلطان عبد الحميد الثاني والخلافة الإسلامية» فقد نقل عن مقال بعنوان «الوحدة الإسلامية» نشر في مجلة العروة الوثقى (العدد التاسع) أن الأفغاني «لم يرد أن يكون للمسلمين دولة واحدة أو سلطان واحد يجمعهم وكل ذي ملك على ملكه» ص342 في حين أن الأفغاني قال: «لا ألتمس بقولي هذا- في الدعوة إلى الوحدة- أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصًا واحدًا فإن هذا ربما كان عسيرًا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين» فانظر الفرق بين القولين. ثم ما هي الملاحظات على هذا الموقف العملي أو السياسة العملية التي تريد أن تحقق للمسلمين أولاً وحدة التوجه والغاية تحت راية القرآن؟

كما أن صاحب الكتاب المذكور- السيد موفق بني المرجة- يذكر في سياق طعنه على الأفغاني أنه أول من روّج فكرة «اشتراكية الإسلام» وقارن بينها وبين اشتراكية الغرب!

قلت: وكان هذا في ذلك العصر المبكر، وقد جاء حصيلة لاطلاع السيد جمال الدين على المذاهب الاشتراكية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وعلى رأسها الاشتراكية الفابية التي شكلت الأساس لحزب العمال البريطاني. وفي الوقت الذي هاجم فيه الأفغاني مذاهب الاشتراكية والاجتماعية (أي الشيوعية والاشتراكية بحسب ترجمته) فإنه دعا إلى اشتراكية الإسلام وقاية للمجتمعات الإسلامية من السقوط في تلك المذاهب.

هذا وقد كتب أستاذنا العلامة الداعية الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله بعد أكثر من أربعين عامًا كتابه المشهور «اشتراكية الإسلام» وكان ذلك عام 1958 كما أنه دخل المجلس النيابي السوري، وكان مجلسًا تأسيسيًا لأنه أنيط به وضع دستور للبلاد- وكان رحمه الله يشغل فيه منصب نائب رئيس المجلس- دخل هذا المجلس أواخر عام 1949 على رأس قائمة تدعى «الجبهة الاشتراكية الإسلامية» ملاحظًا في ذلك ما لا حظه الأفغاني، وذاهبًا مذهبه في محاولة تحصين الأجيال، وبخاصة طبقة العمال والفلاحين، بعدالة الإسلام لا باشتراكية الشيوعية أو غيرهم. وقد سمعته مرة رحمه الله يثني على الأفغاني وعلى كلمته التي أبدى إعجابه الشديد بها، وهي «أن الاشتراكية سوف تكون دين المستقبل بالنسبة لغير المسلمين»!! نظرًا لما انطوت عليه هذه الكلمة من فهم المستقبل وبُعد النظر.

- 2 -

نعود إلى الشبهات التي أثيرت حول الأفغاني والتهم التي أُلصقت به، والتي لا مجال للحديث عنها وقد كتب فيها الكثير.. ونشير فقط إلى بعضها مثل اتهامه بأن (سيرته وحياته يحيط بهما كثير من الغموض الذي لم تكشف الأيام حقيقته بعد)!

وأنه التجأ إلى السفير الإنجليزي لإخراجه من تركيا عندما غضب عليه السلطان عبد الحميد، وأنه كاذب في نسبه ودعواه أنه أفغاني، وأنه كذلك ملحد، ومن دعاة سفور المرأة، وأن أصدقاءه وتلامذته كانوا خليطًا من اليهود والنصارى، وأن أكثر نشاطاته كانت سريَّة، بل إنه أول من أدخل نظام الجمعيات السرية في مصر، وأنه المسؤول عن قتل شاه إيران، وعن محاولة قتل الخديوي إسماعيل من قبل، وأخيرًا وليس آخرًا اتهامه بأنه قال: إنَّ النبوة صنعة، أو أنه سَوَّى بين النبي والحكيم، أو بين النبي والفيلسوف.. إلخ.

وأشير هنا إلى أن الدكتور محسن عبد الحميد عرض لهذه الشُّبه وغيرها كذلك، وناقشها بتجرد الباحث وموضعية العالم والمحقق.. وانتهى إلى إبطالها والزراية بها، وذلك في كتابه الذي نشره للمرة الأولى عام 1403هـ 1983م بعنوان: «جمال الدين الأفغاني المصلح المفترى عليه» وجاءت هذه الدراسة أو هذه المناقشة- على وجه الخصوص- في سياق رده على الدكتور محمد محمد حسين وما أورده من هذه الشبه في كتابيه «الإسلام والحضارة الغربية» و«الاتجاهات الوطنية في الأدب الحديث» مع الإشارة إلى أن الكتاب الأول المشار إليه للدكتور حسين بالإضافة إلى كتابه «حصوننا مهددة من داخلها: في أوكار الهدامين» يمثلان المنهج الذي صدَّرنا به هذه المقالة أصدق تمثيل. ولم نجد لأيٍّ منهما صدًى طيبًا عند اطلاعنا عليهما، أو بعبارة أدق عند قراءتنا لهما قراءة تلمذةٍ أو تلَقٍ في زمن بعيد، في الوقت الذي وجدنا من بعض الزملاء إعجابًا شديدًا بهما أو بهذا المنهج والأسلوب في الكتابة والتأليف!

وإن من يطلع على هذين الكتابين وأمثالهما سوف يُخيل إليه أن جميع رموز النهضة العربية الإسلامية عملاء ومتآمرون!! هذا منهجٌ مُدان ولا يستحق سوى الزراية والمقت! وذلك لأسباب كثيرة لا مجال للإفاضة فيها في هذه العجالة، وإن كنا نقدر أن أكثرها لم يعد يخفى على القارئ على كل حال. وبهذه المناسبة فإن الدكتور محسن عبد الحميد قدَّم تفسيرًا علميًا طيبًا لمسألة انتساب الأفغاني للماسونية، وهي المسألة التي أشرنا لها في المقالة السابقة.

- 3 -

أما الأخ الزميل الدكتور محمد عمارة فقد كتب عن جمال الدين في كتابه «جمال الدين الأفغاني المفترى عليه» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1404هـ 1984م على نحو أشمل مما كتب الدكتور محسن عبد الحميد قبله بعام واحد، ويبدو أنه لم يطلع على كتابه. والجديد المهم في كتاب الدكتور عمارة الذي جمع فيه يبن التوثيق والتعليل، أو بين لغة الأرقام والوقائع وقوة الحجة والبرهان.. أن هذا الكتاب القيم جاء في سياق الرد على التهم والشبهات والأراجيف التي كتبها بحق الأفغاني الدكتور لويس عوض صاحب النزعة الفرعونية الكارهة للعروبة والإسلام، حتى إن الكاتب المسيحي اللبناني الأستاذ الفاضل جهاد فاضل حين فنَّد بعض آراء لويس عوض في نقد الشعر العربي، أو نقد إيقاعه الذي كان مناسبًا بحسب زعمه لعصر الناقة والجمل!! جعل ذلك تحت العنوان المعبر التالي: اضبطوا سمعكم على الموجة الفرعونية.. لويس عوض يتحدث.

وقد أشار الدكتور عمارة إلى هذا بقوله: إن التناقض ليس بين لويس عوض المسيحي وبين الإسلام التقليدي (إسلام الشعائر والمؤسسات) وإنما هو بين لويس الإقليمي العلماني وبين المشروع الحضاري الخاص لهذه الأمة. «ذلك المشروع الذي ينهض فيه الإسلام السياسي والحضاري بدور المحور. والذي تمتد آفاقه- عبر العروبة- إلى كل عالم الإسلام» ويضيف الدكتور عمارة: والدكتور لويس لم يكتب «دراسته» الظالمة لجمال الدين ليواجه بها ويجرح الثورة الإيرانية كما حسب بعض الفضلاء، ولكنه كتب هذه الدراسة لمواجهة الصحوة الإسلامية بتشويه رائدها وأبرز رموزها في العصر الحديث.

ومعنى ذلك أن الدكتور عمارة وضع هذه الهجمة الشرسة التي قام بها لويس عوض في سياقها التاريخي، في الوقت الذي رفض فيه لويس عوض «إجماع علماء العصر وأعلامه» على الإشادة بالأفغاني مستندًا إلى «تقارير الجواسيس الإنجليز» وإلى ملفات المباحث الخاصة بالأفغاني في دوائر الأمن والتجسس في إنجلترا وفرنسا- وهي الدوائر التي ناصبته العداء لعدائه لاستعمار حكوماتها بلاد الشرق واستغلالها شعوبه- وإلى عدد من الكتب التي ألّفها نفر من طلاب الاستشراق- وليسوا من علمائه- استنادًا إلى تلك التقارير والملفات. [راجع د. عمارة ص51].

ويؤكد الدكتور عمارة على هذا السياق التاريخي في أكثر من موطن من كتابه، ومن ذلك قوله: إن جمال الدين ليس مجرد مفكر، ولا هو بالمناضل العادي. لقد أصبح جزءًا كبيرًا وعزيزًا من ضمير هذه الأمة الإسلامية في عصرها الحديث.. تعيشه عندما تبحث عن ذاتيتها الحضارية المتميزة، وعندما تتصدى لأعدائها مستعمرين كانوا أم مستبدين، وتستلهمه عندما تبرز للعيان الضرورة والمصداقية للمقولة التي بشَّر بها حين قال: «إن تجديد دنيا المسلمين رهن بتجديد دينهم، ولن يكون لهم تمدن حقيقي إلا إذا تأسس على روح الشريعة وقواعد الإسلام» ولذلك فلم يكن غريبًا أن يجمع الأئمة والمناضلون والعلماء والأعلام في الشرق وفي الغرب على أن جمال الدين هو «حكيم الشرق وموقظه وفيلسوف الإسلام» ومن ثم فلابد من النظر إلى السهام التي يوجهها لويس عوض على أنها موجهة إلى ضمير الأمة لتطعن خيارها القومي الإسلامي.. هادفة إلى عزل مصر عن محيطها العربي وانتمائها الإسلامي، وحصرها في قفص الإقليمية الذي جاهد الأعداء لفرضه عليها بمعاهدة لندن سنة 1840م.. إنهم يريدون نزع سلاح العرب والمسلمين المتمثل في مصر! ونزع سلاح مصر المتمثل في محيطها العربي وانتمائها الإسلامي.. وما الهجوم على جمال الدين إلا سهم موجه إلى هذا الانتهاء.

أما النعوت التي أطلقها لويس عوض على الأفغاني والتي زادت على خمسين وصفًا ينقض بعضها بعضًا ويلعن بعضها بعضًا! والتي توزعتها صفحات الدراسة «العوضية»!! فإنها تدل على مدى التخبط الذي وقع فيه لويس من جهة، ومدى حقده على المشروع العربي الإسلامي الذي نهض به الأفغاني من جهة أخرى. لأن أحدًا يتمتع بأقل حد من الاتزان والموضوعية لا يمكن أن يجمع في دراسته عن عَلم من الأعلام بين كل هذه النعوت ويصفه بها في وقت واحد.

 

ومن هذه النعوت التي وصف بها الأفغاني «وبالحرف، وبذات الألفاظ» على حد تعبير الدكتور عمارة ما يلي: «إنه: زنديق.. ملحد.. مجدف.. متفرنج في الكفر والسلوك.. علماني.. ثيوقراطي؟ تقدمي.. ثوري.. جدلي.. رجعي.. تقليدي.. محافظ.. وسطي.. حالم.. هنكار(؟!) سلفي. شيعي! بهائي.. باطني.. ماكر.. إرهابي.. فوضوي.. عدمي.. غامض.. مريب.. جاهل.. متعصب.. غيبي في الفكر. غيبي في السياسة» إلخ [راجع د. عمارة ص47].

- 4 -

ونحب أن نقف أخيرًا- فقط- عند اتهامه بالإلحاد، لأنها التهمة التي وجدنا لها أصلاً جاء على لسان شيخ الإسلام في الدولة العثمانية حسن فهمي أفندي، أو شنع بها الشيخ على الأفغاني على إثر خطاب ألقاه في دار الفنون باستانبول.. في الوقت الذي يعود بنا الحديث عن هذه التهمة إلى نقطة بارزة جدًا في المنهج الإصلاحي أو المشروع النهضوي الذي دعا إليه الأفغاني نود أن ننهي بها هذه المقالة. وكان من واجبنا أن نشير إلى هذه النقطة أو أن نقف عندها في مقالتنا السابقة.

شبه الأفغاني في خطابه المشار إليه المعيشة الإنسانية ببدن حيّ، وأن كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن تؤدي من المنفعة بالمعيشة ما يؤديه العضو في البدن.. ثم قال: «هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية، ولا حياة لجسم إلا بروح، وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة، ولكن يفرق بينهما بأن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب، يختص الله بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالته. أما الحكمة ففيما يكتسب بالفكر والنظر في المعلومات. وبأن النبي معصوم من الخطأ، والحكيم يجوز عليه الخطأ بل يقع فيه. وأن أحكام النبوات آتية على ما في علم الله لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فالأخذ بها من فروض الإيمان، أما آراء الحكماء فليس على الذمم فرض اتباعها إلا من باب ما هو الأولى والأفضل، على شريطة ألا تخالف الشرع الإلهي».

قلت: وعلى الرغم من هذا الكلام البيِّن، فإن شيخ الإسلام نسب إلى الأفغاني القول إنَّ النبوة صنعة، لأنه ذكرها- أي النبوة- في خطاب يتعلق بالصناعة! فثارت الثائرة على الأفغاني حتى طلب الصدر الأعظم منه مغادرة استانبول ريثما تهدأ الفتنة! لأن اتهامه بالإلحاد جاء على لسان خطباء المساجد.

يقول الأستاذ الشيخ عبد القادرالمغربي: «ويظهر أن حادثة دار الفنون أثَّرت في نفس جمال الدين تأثيرًا جعله ضعيف الثقة بالعلماء والاعتماد عليهم، فقد رووا أن السلطان عبد الحميد لما أراد أن يوفد بعثة من علماء الأستانة لنشر الإسلام في بلاد اليابان، بناءً على طلبٍ من إمبراطورها، واستشار جمال الدين فلم يوافقه.. وكان هذا في جيئته الثانية إلى الأستانة. وقال للسلطان: «إن العلماء نَفَّروا المسلمين من الإسلام، فأجدر أن ينفّروا الكافرين! والرأي أن ترسل إلى الإمبراطور هدايا مع كتاب تعدونه فيه بتلبية طلبه. ثم نجتهد في تخريج طائفة من العلماء يصلحون للدعوة ويدخلون إليها من بابها المعقول».

أما النقطة البارزة التي أشرنا إليها فقد تذكرناها بمناسبة الشيخ عبد القادر المغربي أحد تلامذة الأفغاني ورواد مدرسته الإصلاحية. يقول الأستاذ المغربي نقلاً عن حديث شفوي دار بينه وبين أستاذه في تركيا: «القرآن وحده هو سبب الهداية، والعمدة في الدعاية- أي الدعوة- أما ما تراكم عليه، وتجمَّع حوله من آراء الرجال واستنباطاتهم ونظرياتهم فينبغي ألا نعوّل عليه كوحي، وإنما نستأنس به كرأي.. ولا نحمله على أكفّنا مع القرآن في الدعوة إليه، وإرشاد الأمم إلى تعاليمه وتفسيره وإضاعة الوقت في عرضه».

قلت: هذا التفريق الواضح والمبكر بين نصوص القرآن الخارجة من نطاق الزمان وتخاطبَ بها من ثَمَّ جمع الأجيال من جهة، وبين أقوال المفسّرين وفهوم العلماء والمجتهدين من جهة أخرى، يعدُّ أساس التمييز بين القرآن والتراث، أو بين النص المنزل والتراث الذي هو من عمل العصور، أو الذي تشكل داخل حركة التاريخ.. ومن ثم يمكن لهذه الحركة أن تتجاوزه في أي عصر.

هذا التمييز يعدّ منطلق الاستمرارية وأساس التجديد في الإسلام! ولعمري لو أن العلماء الذين ناصبوا السيد جمال الدين العداء ونسبوه في حاضرة الخلافة إلى الإلحاد.. لو أنهم عقلوا عنه ما قال ولم يرتقوا بفهوم المفسرين وأقوال من سلفهم من العلماء إلى مرتبة النصوص، قبل أن ينزل خصوم الإسلام بالنصوص والفهوم جميعًا إلى مستوى (التراث) حتى زعم الزاعم أن الإسلام كغيره منا لمبادئ والنظم والعقائد- تشكل داخل حركة التاريخ!!

أقول: لو أن العلماء والمشايخ عقلوا عن الأفغاني هذا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

ويبقى السؤال المطروح: هل تغير الكثير من هؤلاء ومن خطباء المساجد بعد أكثر من مائة عام مرذت على دعوة الأفغاني؟ أم إن الأفغاني نفسه ما يزال يشتم على بعض المنابر؟ ويُزرى بمنهجه وآرائه في الجامعات والمحافل {لله الأمر من قبل ومن بعد}.