دعوة صهيونية لتأجيج الصراع السني-الشيعي!

 
 
 
ياسر الزعاترة
 
 
لا نحتاج إلى بيان إسرائيلي، ولا أميركي أو غربي حتى ندرك أن ثمة مصلحة لكل تلك الأطراف في تأجيج الصراع السني-الشيعي في المنطقة، فكل القوى الاستعمارية على مدى التاريخ كانت تستخدم سياسة «فرق تسد». بل دأب الطغاة أيضاً على استخدام ذات السياسة داخل بلدانهم؛ من لدن فرعون، بل قبله، ولغاية الآن «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا».
 
مؤتمر هرتسيليا هو المؤتمر الاستراتيجي السنوي الأهم في الكيان الصهيوني، حيث يجمع بين جنباته نخبة من العسكريين والأمنيين والسياسيين والباحثين الاستراتيجيين والأكاديميين كي يناقشوا أهم التحديات التي توجه كيانهم خلال المرحلة المقبلة، وينتهي المؤتمر بتوصيات، وإن كانت مداولاته أكثر أهمية أحياناً من توصياته، وحيث يترك اتخاذ القرار لتقدير الدوائر السياسية والعسكرية والأمنية.
 
في المؤتمر الأخير، بدا لافتاً تلك التوصية التي تتحدث عن تأجيج ما سمي الصراع السني-الشيعي، مع أن الأمر لا يحتاج أصلاً إلى توصية، إذ إن عملية التأجيج تتصاعد على قدم وساق من قبل قوى عديدة في المنطقة، بصرف النظر عن طبيعة الحسابات التي تحرك كل طرف منها.
 
حين يتحدث البعض عن تاريخية الصراع السني-الشيعي ينسى أن ما يجري اليوم يختلف جوهرياً عما كان يجري قبل سنوات على سبيل المثال (تكرر مشهد الحشد إبان الحرب العراقية الإيرانية)، وثمة دول مثلاً تتولى كبر التصعيد هذه الأيام ضد إيران، لم تكن تسمح بشتم إيران والشيعة على المنابر قبل سنوات، بينما تسمح بذلك الآن، بل تحض عليه وهكذا.
 
ما نريد قوله: هو أن النظر إلى حالة الحشد المذهبي بعيداً عن أصابع السياسة يبدو قاصراً إلى حد كبير، ولو تفاهمت دول عربية أساسية اليوم مع إيران، وجرى حل الإشكالات القائمة، فإن مستوى الحشد سيأخذ في التراجع في الخطاب والفضائيات، تماماً كما أن بوسع إيران مثلاً أن تلجم فرقاً من أزلامها وفضائياتها التي تفعل ذات الشيء باستدعائها اليومي للثارات التاريخية كما لو أنها وقعت بالأمس، بل اليوم.
 
لا ينكر أحد أن هناك إشكالاً مذهبياً كان موجوداً على مدى التاريخ، لكن صعوده وهبوطه كان يرتبط دائماً بتحولات السياسة (حصلت إشكالات أقل وطأة بين المذاهب السنية في بعض مراحل التاريخ أيضاً)، وعموماً تقول وقائع التاريخ: إن السياسة استخدمت الدين أكثر بكثير مما استخدم الدين السياسة.
 
إذا جئنا نرصد الحالة التي نحن عليها اليوم، ممثلة في الحشد المذهبي الذي يُراد تصعيده أكثر فأكثر من أجل خدمة الأجندة الصهيونية والغربية عموماً، فإن ما ينبغي قوله: هو أن إيران هي المسؤول الأكبر عما يجري أكثر من سواها، حتى لو قلنا: إن دولاً عربية معروفة تساهم في لعبة الحشد والتصعيد.
 
إن الإشكال الأكبر الذي واجهته المنطقة خلال السنوات الأخيرة، والذي سمح تبعاً لذلك بتصعيد الحشد المذهبي، إن كان طبيعياً ومنطلقاً من ردة فعل شعبية، أم عبر أصابع السياسة، إنما يتمثل في تجاوز إيران لحدودها على نحو استفز العالم العربي، وكذلك تركيا أيضاً. من لبنان إلى محاولة التأثير في القضية الفلسطينية عبر دعم حماس والجهاد، ظل الأمر ضمن النطاق المقبول نظراً للعداء الأكبر مع الاحتلال الصهيوني، لكن الموقف ما لبث أن تجاوز حده في العراق الذي وقع في قبضة إيران (أضيف إلى ذلك تغول حزب الله في لبنان واستخدامه السلاح للتأثير في العملية السياسية)، ثم تصاعد الموقف بتصعيد الأقليات الشيعية في الخليج لخطابها وصولاً إلى استفزاز الأغلبية، مع أن بعض مطالبها تبدو محقة، ثم ازداد الموقف سوءاً، بل بلغ الذروة بدعم إيران لبشار الأسد في مواجهة شعبه.
 
ما فعلته إيران لم يكن مقبولاً بمنطق السياسة والتوازنات في هذه المنطقة، بصرف النظر عن هوية أنظمتها، ولولا ضعف النظام المصري وانشغاله بقضية التوريث لكان الصراع قد بدأ قبل 6 سنوات على الأقل، وليس بعد الربيع العربي فقط، إذ لا يمكن للعرب أن يقبلوا بتغول إيران عليهم وابتلاع العراق، كما لا يمكن لتركيا أن تقبل بذلك أيضاً، لاسيَّما بعد صعودها في ظل حزب العدالة والتنمية.
 
لقد بات هذا الصراع قدر هذه المنطقة مع الأسف، من دون الحاجة إلى دفع خارجي، مع أن السنة يعتبرون أنفسهم الأمة التي تحتوي الجميع، ولم ينظروا إلى أنفسهم يوماً كطائفة، والسبب كما هو واضح هو غطرسة إيران، وما لم تعد إلى رشدها، فسيستمر الأمر وصولاً إلى إعادتها إلى حجمها الطبيعي، مع ما ستكلفه هذه المعركة من خسائر لعموم الأمة، ولإيران بشكل أكبر، وكذلك للأقليات الشيعية التي جرى توريطها من قبل إيران في هذا الصراع الذي يسيء لعلاقتها الداخلية مع الناس الآخرين (ما مصلحتها في مناهضة ربيع عربي سيكون خيراً لها ولعموم الأمة؟!).
 
كم تمنينا ولا زلنا نتمنى، أن تعود إيران إلى رشدها، لكنها لم تفعل، بل واصلت غطرستها وصولاً إلى مد أذرعها نحو ساحات جديدة، كما هو الحال في اليمن، لكن النهاية معروفة لكل ذي عقل، بصرف النظر عن الخسائر والمعاناة، فهذه المنطقة ستعود إلى توازنها الطبيعي بمحاورها الثلاثة (العرب، تركيا، إيران)، ولكن بتصدر عربي تفرضه توازنات القوى وليس شيئاً آخر. وحين يحدث ذلك سيكون بالإمكان محاصرة المشروع الصهيوني، وصولاً إلى اقتلاعه؛ هو الذي يشكل خطراً على الجميع، وليس على طرف دون آخر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين