دروس أُحُد في طُوفان الأقصى

كان لافتا خلال معايشة طوفان الأقصى منذ انطلاقه، أني كنت أقرأ فيه دروس غزوة أُحُد المنشورة في سورة آل عمران.

 

فما من شبهة تثار، ولا خِذلان يقع، ولا تضحية تُبذل، ولا ثبات يتحقق في غزوة طُوفان الأقصى، إلا وجدتُ له نظيرا أو شبيها في دروس غزوة أحد.

 

ترى في غزوة طوفان الأقصى، الرجال الجبال في المصابرة والثبات والتحدي والإباء، فتجد كل ذلك في درس من دروس غزوة أحد، في قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} [آل عمران]

 

كما تجد نفس المعنى قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) } [آل عمران]

 

وترى في غزوة طوفان الأقصى، الفرزَ والمَيْز والتمحيص الذي أحدثه ذلك الطوفان العارم، بين صفوف المتدثرين بالإسلام، والمتخفِّين خلف الشعارات، فسقطت أقنعة، وانكشفت سوآت، وفُضحت خبايا، وأُظهِرت سرائرُ طالما حرَص أصحابها على إسرارها، فظهر الفرق بين الذهب والزيف، وبين اليقين والشك، وبين العزم والزعم.. وليس الكُحْل كالكَحَل.

 

وإنك لواجد كل ذلك في درس من دروس غزوة أحد، يقول الله فيه: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} [آل عمران]

 

وترى الرعب في غزوة طوفان الأقصى، يجتاح قلوب الأعداء، بين باك منهار، أو منتحر يائس آثر الموت العاجل بيد نفسه، على القتل القادم على أيدي كتائب العز القسامية، أو ناقمٍ على قيادته يصرخ غاضبا عاتبا، أو رافض للجندية في زمن الحرب، أو مبادر إلى المطارات والموانئ في هجرة عكسية، يبتغي الأمن والسلامة بعيدا بعيدا عن أرض فلسطين..

 

فتجد ذلك كله في درس من دروس غزوة أحد، في قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران]

إي والله لقد رأينا صدق الوعد في القتل والإثخان في العدو، الذي كان أكبر من كل الآمال والتوقعات، في اليوم الأول من طوفان الأقصى.

 

وترى في طوفان الأقصى، الخِذلان الكبير المنكور، من إخوة دين ومصير، ظنوا أنها القاضية، مع أنهم ليسوا بمنأى عن إيذاء الأعداء طال الزمان أو قصر، فآثروا ما يظنونه سلامة عاجلة، وما هي بسلامة عند أولي النهى وأهل النظر والحِجا، فذهبوا يعللون تخاذلهم بأنهم لم يُؤْذَنُوا في ذلك، وأنهم لم يكن لهم في الأمر نقير ولا قطمير، ولسان حالهم يقول: نفسي نفسي..

والحق أنهم يخشون أن تكون الدائرة عليهم، فآثروا الخِذلان. 

 

وتجد كل ذلك في درس من دروس غزوة أحد، في قوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} [آل عمران]

 

وتجد في غزوة طوفان الأقصى الكثير من المثبطين والمخذِّلين، الذين لم يكتفوا بالقعود والتثاقل إلى الأرض حين نفر الرجال في سبيل الله، وإنما أطلقوا ألسنتهم وأقلامهم يسلقون بها رجالا باعوا أنفسهم لله تحت شعار: (وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد) وجعلوا يصِمونهم بالمغامرة غير المحسوبة، ويبشرون بهزيمتهم المحتومة أمام عَدد وعتاد جيش العدو الذي ظنوا أنه لا يُقهر، ويُظهرون التخوف على النساء والأطفال، وعلى المساكن والمرافق التي هي تحت مرمى نيران العدو الفاجر..

 

وكأنهم يريدون حربا بلا خسائر، ونصرا بلا تضحيات، وكأن ميزان الربح والخسارة عندهم إنما يقاس فقط بأعداد القتلى والجرحى من الفريقين..

 

فليت هؤلاء المُخذلين علموا أن هذا الميزان البائس هو الميزان الذي اعتبره أبو سفيان، صخر بن حرب، الذي كان قائد المشركين في موقعة أُحد، فنادى يخاطب المسلمين بعد أن وضعت الحرب أوزارها: [يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، يَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ عَلَيْنَا، وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرُّ، حَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ، وَفُلَانٌ بِفُلَانٍ، وَفُلَانٌ بِفُلَانٍ].

فأبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعيار في الربح والخسران، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجيب أبا سفيان: [لَا سَوَاءً، أَمَّا قَتْلَانَا فَأَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ، وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ]. رواه الإمام أحمد في مسنده.

 

فهل عرفنا المعيار المعتبر عند أهل الإيمان في الربح والخسران؟

 

هؤلاء المثبطون في غزوة طوفان الأقصى، كان لهم نظراء في غزوة أحد، وكان لنا معشر المسلمين فيهم عبرة ودرس نجده في مواطن عدة من دروس غزوة أحد، في سورة آل عمران.

 

ولا إِخال ذلك التأكيدَ على نفس الدرس مرارا، إلا لمزيد الحذر من ذلك "الطابور الخامس" الذي قد يجد في الناس سمَّاعين له.

 

نجد درسا عنهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) } [آل عمران]

 

كما نجد نفس المعنى في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)} [آل عمران]

 

ونفس المعنى نجده في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران]

 

وفي غزوة طوفان الأقصى، ظهر بحمد الله جليا، زيفُ الحليف الكذاب، وإن كان زيفه لظاهرا من قبل، ولكنه في طوفان الأقصى سقطت آخر ورقة توت كان يواري بها سوأته..

 

فقد مضى على ذلك الحليف المنافق نحوٌ من أربعة عقود، وهو يرفع شعار الأقصى والقدس وفلسطين..

ولما تعرَّى كذبه للملأ أمام رياح الثورة السورية على نحو قبيح، وظهر أن مشروعه الذي يُعِد له العتاد الهائل تحت سمع وبصر حلفائه الحقيقين، من الصهاينة وظهيرهم الدولي، هو مشروع طائفي خبيث، يتكامل مع المشروع الصهيوني في الإقليم، وهو أبعد ما يكون عن مشروع الأمة.. عمد إلى الإمعان في الكذب والتلبيس الرخيص، على طريقة الهرب إلى الإمام، فزعم أن الطريق إلى القدس يمر بالقصير وحمص وحلب ودير الزور...

 

فلما جاءت لحظة الحقيقة، وهوجمت غزة، اكتفى بجعجعة خطابية، ثم طورها إلى تمثيلية سماها حربا..

وها قد مضى على شروع العدو في إبادة غزة وأهلها أكثر من ثلاثة أسابيع حتى كتابة هذه السطور، والحليف الكذاب المفضوح ما يزال محتفظا بالصواريخ التي زعم أنها تصل إلى حيفا، وإلى ما بعد حيفا، وإلى ما بعد بعد حيفا.. قد حيَّدها في المعركة، كما حيَّد ابنُ سلول ثلث جيش المسلمين يوم أحد، وانخزل بهم من الطريق قبل الوصول إلى أُحد..

وحين قال لهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتخذلوننا وتسلمونا لعدونا؟. قال ابن سلول والمنافقون: ما نرى أن يكون قتال، ولو كنا نرى أن يكون قتال لاتبعناكم.

وكان القتال، ولم يتبعوهم.!

 

درس الحليف المنافق الكذاب في غزوة طوفان الأقصى، نجده جليا إلى حد التطابق في دروس غزوة أحد، في قوله تعالى عن صنيع ابن سلول وفريقه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} [آل عمران]

 

إي والله، قد قيل للحليف الكذاب: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا.. فلم يأتوا، ولن يأتوا، لأنهم لم يدخروا السلاح لمثل هذا اليوم أصلا، وليسوا منه في وِرد ولا صّدَر.

 

وإي والله، إنهم ليقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

 

وإي والله، هم للكفر أقرب منهم للإيمان، والله أعلم بما يكتمون.

 

فما أكثر وجوه الشبه بين غزوة طوفان الأقصى، وبين غزوة أحد.!

فأسأل الله تعالى أن يُعقب المسلمين من طوفان الأقصى الأجر والعافية، ليعودوا أشد بأسا ونكاية بالعدو، كما أعقب أهل أُحد أجرا وعافية، فعادوا أشد بأسا ونكاية وثباتا.

والله أعلم.

الخامس عشر من ربيع الآخِر لعام: 1445 من الهجرة الشريفة.

الموافق: 30/10/2023

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين