درسٌ وعِبرة.. مِن ساعة العُسرة

مقدمة:

إنّ سيرة سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم غنيّةٌ بالحِكَم والأحكام، مليئةٌ بالدّروس والعِظات، الّتي تبعث الأمل في قلوب اليائسين، وتبثّ رُوح التّفاؤل في نفوس المهمومين، وإنّها فيّاضةٌ بالعِبَر والعِظات الّتي ترشد الحيارى إلى الطّريق القويم، ولقد جعل الله سبحانه في أخبار السّابقين عبرةً للمعتبرين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].

زاخرةٌ بالأحكام الفقهيّة، والدّروس التّربويّة، الّتي تحتاجها الأمّة في كلّ وقتٍ وحينٍ، لا سيّما في حالة ضعفها واستكانتها، وتسلّط أعدائها، وعجز أبنائها، مِن أجل إحيائها وإيقاظها، ومراجعة حساباتها والرّجوع إلى ربّها، والاستمساك بدِينها، فهي أمّةٌ لا تُعَزّ إلّا بالإسلام، ولا تنتصر إلّا بصدق التّوكّل على الملك العلّام، فإذا أعرضت عنه عاشت في الذّلّ والهوان، وإنّ سيرة نبيّنا صلى الله عليه وسلم وصحبه الأخيار، لَتوقفنا على غزوةٍ عظيمةٍ، وقعت في شهر رجب مِن السّنة التّاسعة للهجرة، وهي مِن الأحداث الكبرى والمغازي العظمى، إنّها: غزوة تبوك، الّتي كانت آخر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلحق بالرّفيق الأعلى، ولقد كانت غزوةً مليئةً بالأحداث العظيمة، حيث ذُكر لنا فيها أخبار أهل السّخاء والجود، الّذين تسابقوا في الإنفاق لتجهيز جيش المؤمنين، وجاء فيها الحديث عن الفقراء الّذين لم يجدوا ما ينفقون، كما كشفت اللّثام عن المنافقين المتخاذلين المرجفين، وأخبرتنا عن أولئك النّفر الثّلاثة الّذين خُلّفوا عن تلك الغزوة، فضلًا عن الإخبار عن أنواع العُسرة والمشقّة الّتي حصلت فيها، واجتازها المؤمنون بصدق إيمانهم وصبرهم، وقوّة يقينهم بموعود ربّهم وكلام نبيّهم، وكم نحن بحاجةٍ ماسّةٍ إلى مدارسة تاريخ أمّتنا، والتّذكير بأمجادها و أيّامها، والوقوف على سِيَر أبطالها ورجالاتها، وكلّ ذلك يسهم في إحيائها، ويعين على نهوضها مِن جديدٍ.

 

1- يوم العُسرة

لقد وصف القرآن الكريم غزوة تبوك بساعة العُسرة، وما ذاك إلّا لأنّ العسرة أحاطت بها مِن كلّ جانبٍ، حيث كانت في شدّة الحرّ تحت لهيب الشّمس الحارقة، وفوق الأرض الحامية! وكان الوقت آنذاك يدعو إلى المُقام في المدينة، ففيها طيب الظّلال، وعذوبة الماء، ونضوج الثّمار، ولا يُقبل على الغزو وقتها إلّا مَن يقدّم رضى الله عز وجل على التّنعّم بطيّبات الدّنيا الفانية، ولقد اجتمع مع تلك المشاقّ قلّة ما يتجهّزون عليه للسّفر، حيث أتى نفرٌ مِن المؤمنين البكّائين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطلبون منه ما يحملهم عليه في تلك الغزوة فلم يجد، فبكوا لذلك[ 1 ]

فأنزل الله عز وجل فيهم: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التّوبة: 92].

وسُئِل عمر رضي الله عنه عن شأن العسرة فقال: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ، فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى نَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَوَّدَكَ اللهُ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ لَنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى أَظَلَّتْ سَحَابَةٌ، ثم سَكَبَتْ، فَمَلؤوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ، فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ[ 2 ]

وقال الحسن البصريّ: يصف العسرة: "كان العشرة مِن المسلمين يتعقّبون بعيرًا بينهم، وكان زادهم التّمر المتسوّس، والشّعير المتغيّر، وكان النّفر يخرجون ما معهم إلّا التّمرات بينهم، فإذا بلغ الجوع مِن أحدهم أخذ التّمرة فلاكها، حتّى يجد طعمها، ثمّ يعطيها صاحبه، حتّى يشرب عليها جرعةً مِن ماءٍ، حتّى تأتي على آخرهم فلا يبقى مِن التّمرة إلّا النّواة، فمضوا مع النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم". [ 3 ]

فهلّا تأسّينا بهم وواسى بعضنا بعضًا! ولقد أثبتت هذه العسرة أنّ الإيمان بالله سبحانه يفوق كلّ قوّةٍ، وأنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف، وأنّ أفضل الجهاد اليوم جهاد الرّوافض والنّصيريّين، واليهود والمستعمرين، الّذين يكيدون المكائد، ويجمعون الجموع، ويحشدون القوى على أرضنا، ويناصبوننا العداء، ويسفكون الدّماء، ويسلبون الخيرات، وينتهكون الأعراض والحرمات، ولقد ضرب ثوّارنا الأبطال، وأهل غزّة الأشاوس، خير مثالٍ على صدقهم في الجهاد، موقنين بأنّ الله جل جلاله معهم، ومَن كان الله معه فلن يُغلب مِن ضعفٍ، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

 

2- خُبث المنافقين

لقد كانت غزوة تبوك حربًا نفسيّةً مِن دون قتالٍ، أظهرت كيد المنافقين وإرجافهم بالمؤمنين، وكشفت خورهم وجبنهم، ومحاربتهم المؤمنين، وشقّ عصى المسلمين، ولقد كانت فرقانًا بين الإيمان والنّفاق، إذ كثرت فيها أقاويل المنافقين وأعمالهم الخبيثة، حتّى فضحهم ربّنا سبحانه في سورة مِن سُوَر القرآن، ولقد بدأ نفاقهم في هذه الغزوة بالسّخرية مِن المتصدّقين، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: "لمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ، كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِي، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} [التّوبة: 79]، الْآيَةَ[ 4 ]

ثمّ بدأ المنافقون يعتذرون عن الخروج للغزو، وذلك لتثبيط هِمَم النّاس، قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التّوبة: 81].

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قِيسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ: (يَا جَدُّ، هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ تَأْذَنُ لِي وَلَا تفتّنى؟ فو الله لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدَّ عُجْبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إنْ رَأَيْتَ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: (قَدْ أَذِنْتُ لَكَ). [ 5 ]

فَفِي الْجَدِّ بْنِ قِيسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} [التّوبة: 49].

وقبيل مسير الجيش بنوا مسجد الضّرار مكايدةً للمؤمنين، وطلبوا مِن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلّي فيه، فنهاه الله جل جلاله عن ذلك حيث قال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التّوبة: 107].

وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ لِعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: مَا لِقُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَنَا بُطُونًا وَأَكْذَبَنَا أَلْسِنَةً وَأَجَبَنَنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَقَالَ لَهُ عَوْفٌ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَوْفٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيُخْبِرَهُ، فَوَجَدَ الْقُرْآنَ قَدْ سَبَقَهُ، فَقَالَ زَيْدٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ، يَقُولُ: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التّوبة: 65]، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ({أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التّوبة:65]). [ 6 ]

خاتمةٌ:

لقد علم سلفنا الصّالح أنّ الجهاد ذروة سنام الإسلام، ودليل صدق الإيمان، وقوّة اليقين بالله والاعتماد عليه، فبذلوا أنفسهم وأموالهم رخيصةً في سبيل الله جل جلاله، وعانَوا -مِن لأواء السّفر، ومشقّة السّهر، وصعوبات الطّريق، وتكالب الأعداء- ما عانوا، وكلّ ذلك مِن أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وإنّها لَدرجةٌ عظمى يمنحها الله سبحانه لمَن يشاء مِن عباده، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النّساء: 95].

وسار على نهجهم المؤمنون الصّادقون في كلّ عصرٍ، وربّما أصاب بعض المؤمنين الشّعور باليأس والإحباط، واستبطاء نصر الله بسبب المشقّة والعسرة، وشدّة الابتلاء، وأقاويل المنافقين، وما أشبه اللّيلة بالبارحة؛ فمنافقو هذا العصر يقومون بنفس المهمّة الّتي قام بها مَن سبقهم، مِن التّشكيك في الإسلام، وبثّ الشّائعات، و تخذيل المؤمنين، فما علينا -والحالة هذه- إلّا الاعتصام بكتاب الله عز وجل، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهما النّجاة لمن تمسّك بهديهما، وسار على دربهما، ولن تضرّه فتنةٌ ما دام على ذلك، ولذا كان أجر المستمسك بدينه -عندما تموج فتن الشّبهات والشّهوات وتشتدّ- مضاعفًا، وما ذاك إلّا لشدّة الابتلاء، وعِظم الفتنة، وقلّة النّصير مِن البشر، فلنتسلّح جميعًا بالإيمان كما تسلّح به الصّادقون مِن قبلنا، ولنحذر المنافقين والمرجفين، ولنعدّ العدّة، ولنحمل السّلاح، ونخوضها معركةً فاصلةً، فإمّا حياة العزّة والكرامة، وإمّا الموت في سبيل الله والشّهادة.

 

هوامش:

1 - سيرة ابن هشام، بتصرّفٍ: 4/119

2 - صحيح ابن حبّان: 2252

3 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبيّ: 8/177

4 - صحيح البخاريّ: 1415

5 - سيرة ابن هشام: 4/216

6 - تفسير الطّبريّ: 14/333

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين