درسٌ تعلّمته من والدي الشيخ عبد الرحمن حبنّكه الميداني رحمه الله

 

عندما تتجلّى حقيقةُ الدنيا في أعين أهل التقوى ...

بعد غيابٍ قسريٍّ عن دمشق دام ثلاثَ وعشرين سَنَهْ ، عاد والدي الشيخ عبد الرحمن رحمه الله إلى دمشق وهو بحالةٍ صحيّةٍ غيرِ سليمة ... 

 بيتُه في الميدان قرب جريدةِ تشرين في الطابق الخامس يصعبُ معه استقبال الأعداد الغفيرة من المُسَلِّمين لأسباب كثيرةٍ منها حركةُ الصعود والنزول في الأسانسير ، وهذا ما دعانا إلى استقبال الناس في بيت عمّي الدكتور محمد حفظه الله في حي الغواص وهو بيتٌ واسعٌ يقع في الطابق الأوّل ومعروفٌ لأكثر الزوّار ... 

أمضينا مراسم استقبال الكرام  على مدى شهر تقريباً كنّا فيها بمهرجانٍ يومي يبدأ من بعد صلاة العصر حتى ساعاتٍ مُتأخّرةٍ من الليل ، انتقل بعدها والدي إلى بيت أخي الدكتور حسن ( وبيوتنا كلّها بيوت الوالد ) ... 

 أمضى الوالد عند أخي الدكتور حسن قرابة الأربعة أشهر كنتُ خلالها في المراحل الأخيرةِ من إكساء بيتي المجاور لجامع الحسن في منطقة كورنيش الميدان ، وكنتُ أتفنّن بإكساء هذا البيت الذي كان بالنسبةِ لي شاطئ أحلامي بعد أن خُضتُ عباب الأمواج في رحلةِ الإدخار والتأسيس ... وكان بيتاً جميلاً لم أترك خيطاً من خيوط رغباتي إلاّ ونسجته في إكسائه فنّاً وجودةً !!!

 حالةُ الوالد الصحيّةِ كانت في تدهورٍ مُطّرِد ... ولم يكن في بالنا أنّ مرضه هذا هو الجولة الأخيرة للشيخ على درب الحياة !!!

 دون سابق تحضير قال لي الوالد : دعنا ننتقلُ إلى بيتك الجديد يا بني ... فقلتُ له : بقي بعض التشطيبات وتتمةُ الفرش والأثاث يا أبي وستنتهي خلال أسبوعين تقريباً بإذن الله ... فقال لي : دعك من التفاصيل يا بني وهيّئ غرفةً ننتقل إليها ودعني أتابع عندك تفسير سورة البقرة وهي السورة الأولى من السُوَر المدنيّةِ ليتبارك بيتك بكتاب الله !!! قبل أنْ تخطفنا يدُ المنيّةِ !!!

 سارعتُ خلال يومين وجهزتُ غرفةَ الجلوس ووضعتُ فيها سريراً للوالد وكانت غرفةً كبيرةً وجميلةً تُطلّ على حديقة المنزل ... وأحضرتُ غُرفَ النوم فقط بانتظار الصالونات وغرفة السفرة ، وانتقلنا مع الوالد رحمه الله إلى البيتِ ، حسب رغبة الوالد ، وأكرمنا الله بأن شهد المنزلُ تفسير آخر سورةٍ مكّية في القرأن ، وتفسير بداية أوّل سورةٍ مدنيّة وهي سورة البقره ... 

 بعدَ عدّة أيّام من انتقالنا إلى البيت الجديد وفّقني الله بشراء لوحاتٍ جداريّةٍ قرآنيّةٍ ولوحات زيتيّةٍ لمناظر طبيعيّةٍ تضمّ صوراً لجبالٍ وبحارٍ وسهولٍ وهضاب ... اشتريتها من بائع جملةٍ بسعرٍ يعدل ربع سعرها الحقيقي في محلاّت بيع اللوحات الموجودةِ في أسواق دمشق ... وكانت لوحاتٍ جميلةً فخمةً تتفّق مع ما كان عليه حال البيتْ !!!

 جاءت كلّها دفعةً واحدةً بعد صلاةِ الظهر مع الفنيِّ المسؤول عن تركيبها في البيت وقد حدّدتُ له الأماكن التي أرغب بها على جدران المنزل وذهبت في قضاء بعض حوائجي خارج المنزل ريثما ينتهي الفنيُّ من تركيبها ، والوالدُ في سريره مُنشغلٌ في تدبّر القرآن ... وعندما رجعت بعد ثلاث ساعات تقريباً وجدتُ اللوحات قد أخذت مكانها حسب التوجيهات ، ولكنّي رأيت وجه والدي أصفرَ وعليه علاماتُ عدم الرضا !!! فسألته : خير يا أبي ؟! أراك غيرَ مرتاحٍ ووجهك يدلّ على عدم الرضا !!! هل أخطأ بحقك أحد من الأولاد أو الأسرةِ أو الرجال الذين أشرفوا على تركيب اللوحات ؟!؟! 

فقال عاتباً : ليش هيك عم تساوي يا إبني ؟! ليش هاللوحات هي ؟! 

فقلتُ له : لوحاتٌ قرآنيّةٌ ، ومناظر طبيعيٌةٌ ولا يوجد فيها مخالفةٌ شرعيّةٌ ...

 فقال لي : بعرف ...... ولكن ليش عم تحقّق كل يلّي في نفسك يا بُني ؟! 

ألا تعلم أن الدنيا إذا اكتملت في عين صاحبها فإمّا أنْ يُأخذَ منها أو أنّها تُأْخَذُ منه !!!!!!

وقفتُ مشدوهاً أمام كلامه وأمام وجهه الذي يقطرُ شفقةً علي ... ولم أنبُس ببنتِ شَفَه ...!!!

 وتابع الوالد يقول : يا بني لا تنشد الكمال في زخرف الدنيا وزينتها ودع في أحلامك ما تسعى لتحقيقه ... وانشد الكمال في أمور الآخرةِ ففيها السعادةُ الحقيقيّةُ وفيها المكاسب والمغنم ... 

 قبّلتُ أسفل قدَمه وأنا امسح دموعي وفي آذاني يتهدّجُ صوت دعواته وهو يقول : حماك الله يا بني وحفظك من كل سوء وجعلك ممن يدركون الحقيقةَ قبل فوات الأوان ...

رحمك الله يا أبي كنتَ خيراً لنا في كلّ ما تقول أو تفعل وكنت مفتاحاً لفهمٍ أوقفنا على حقائقٍ نرفلُ بنعيمها