خواطر بعد الفراق كلمات في رثاء شيخنا الجليل محمد سعيد الطنطاوي 

بسم الله الرحمن الرحيم

رحم الله تعالى الأستاذ الشيخ محمد سعيد الطنطاوي بقية السلف الصالح، وفريد عصره، ونادرة زمانه...

لقد أكرمني الله تعالى بالتعرف عليه سنة 1401هـ في الحرم المكي صحبة شيخي وأستاذي ديوان المشايخ والصالحين الشيخ مجد مكي أدام الله توفيقه...

ثم توالت اللقاءات...فكان اللقاء الثاني عند باب السلام بالمدينة المنورة بجمع من المشايخ فبادرني بسؤال وهو أبداً يسأل ممتحناً ومعلماً... عن عدد أصهار الشيخ أحمد البيانوني فلم أستطع إكمال العدد...فأشار بثلاثة أصابع - لقد أخذت صفراً –

يسألك عن الأمور البديهية حيناً والعويصة حيناً آخر.

وإن أصبت يسألك: من أين أتيت بالجواب؟ فكان معلماً بحق، يسأل ويشجِّع على الجواب الصحيح (لله أبوك... أحسنت... أحسنت) ويوجه سؤاله لكل مسؤول بحكمة وذكاء بحسب اختصاصه.

زاره الأستاذ الشيخ محمد عوامة حفظه الله تعالى بخير وعافية في بيته بمكة المكرمة، وعند خروجه سأله عن الرواة من اسمه أحمد أكثر أم محمد؟ وقد كان يجله ويحبه، وقد قال عنه: هذا عالم لما عرَّفه عليه الشيخ د. أبو الفتح البيانوني في الحرم النبوي أوائل 1400.ثم كان يثني على تحقيقاته العلمية الكثيرة التي اطلع عليها الشيخ وأعجب بها وأثنى عليها.

وكان يسأل الجميع كباراً وصغاراً بأسلوب طريف محبب.

اجتمعت عليه القلوب بشتى أطيافها فالكل إخوة له يحاورهم ويجالسهم فلا ترى إلا محبًّا له شغوفا بمجالسته...

حتى الطلبة في المدرسة حدثني يوماً فقال: لقد كنت شديداً على الطلبة ولكنهم مع ذلك يحبونني...

هو أستاذ الأساتذة، ومربي المربين، ويوجه النصح والإرشاد والتنبه والتعنيف أحياناً لكلِّ من يرى فيه خللاً مهما علت منزلته...

لم يتتلمذ عن أحد من المشايخ سوى زيارات كان يقوم بها مع بعض رفاقه للشيخ عبد الوهاب دبس وزيت رحمه الله تعالى. 

زار العراق والهند والأردن وأقام فترة في لبنان.

من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه...

لا يجيب عن أي سؤال إذا سئل.

لا يترخص أبداً بل يحاول الأخذ بالعزيمة مهما كانت ظروفه وأحواله ثم يأخذ بالرخصة إن لم يستطع الأخذ بالعزيمة.

ومن المشايخ الذين صحبتهم لزياره الشيخ في مكة المكرمة: فضيلة الدكتور عبد السلام الهراس العالم اﻷفيق الاسلامي البحاثه الثبت توفي 1436 عالم فاس المعروف التقينا الشيخ وهو خارج من مسجد فقيه وركبنا السيارة إلى البيت، وكان اللقاء ماتعا بين علمين من أعلام الاسلام .

ّوكذلك الشيخ عبد الغفار الدروبي رحمه الله تعالى توفي في 20 محرم 1430 حيث كنا في السياره بطريقنا لجامعه أم القرى حيث يدرس الشيخ عبد الغفار والتقينا بالشيخ وهو عائد الى بيته وسلمنا عليه وهو يحبه كثيرا والشيخ سعيد درَّس الشيخ عبد الوكيل ابن الشيخ عبد الغفار الدروبي .

و كانت زيارة أخرى بمستشفى فقيه في مرضه بعد صلاة الجمعه.

ولما اقترب الشيخ عبد الغفار من الغرفه همست في اذن الشيخ سعيد أن جاء الشيخ عبد الغفار يزورك فوالله لقد رأيته قد عدل من جلسته على السرير وتهيئ متهيبا لهذه هذا اللقاء فلا تسأل عن إجلال الشيخ سعيد للشيخ عبد الغفار الدروبي رحمه الله تعالى. قمران من اقمار الزمان قلّ الزمان يجود بمثلهما رحمهم الله تعالى.

وجزى الله الشيخ عبد الرحمن فقيه صديق الشيخ ومحبه وكذلك ولده الدكتور عبد القادر على ما قدموه من رعايه لفضيلة الشيخ محمد سعيد طوال السنين الماضيه.

وقد كان من بره يرسل تمرا هدية للشيخ سعيد في رمضان.

فنظم الشيخ وعلي البديهه أبياتا يشكره على هديته:

الشيخ عبد الرحمن أهدى إلىَّ تمراً فقلت هاته

حروف تمره أبانت عما يكنه من صفاته..

فالتاء رمزٌ الى تقاه تقوى تجلت على سماته.

والميم معروفه تمادى كالبحر يمتد في جهاته.

والراء رفق به تحلى مع ما يلاقيه حتى عداته.

وممن زاره في المستشفى وهم كثيرون وطبعا الشيخ لايستقبل أحدا بين العشائين بتاتا بل يرد كل من أتاه لأنه يخلو بنفسه لطعام العشاء والذي يتكوّن من الخبز الاسمر والشمام وقليل من الجبن فقط . ولا يرضى ان يوضع شيء على طاولته غير ذلك البته .

وقد زاره الدكتور منير الغضبان فانشده الشيخ لابن خلكان الحراني:

أحبابنا قد ندرت مقلتي لا تلتقي بالنوم أو نلتقي.

كم تمطلوني بليالي اللقاء قد ذهب العمر ولم نلتقي.

أعجب الدكتور منير بالأبيات فأخرج قلما ليكتب فنهاه. حتى بدأ الشيخ يلقى عليه الأبيات حتى حفظهم قال: الآن فاكتب.

غلبت على الشيخ رحمه الله تعالى آخر عمره شدة العاطفة فكان يتأثر بذكر الصالحين وحكاياتهم، وقد كان عنده كتاب "من فرائد النقول والاخبار" لفضيله الشيخ محمد عوامة، وقد كان اهداه اليه، وكان يزوره لما يأت للعمره .فكان عنده في المستشفى يقرا فيه قبل ان يكف بصره، ويرفع صوته ويسمعنا فكان كثيرا ما يأخذه البكاء رضي الله عنه، وكان له رأي خاص في الهدايا التي تقدم للمريض فما كان يستحسن تلك الهدايا ويعتبرها غير مناسبه .

بل بعضهم جاء بهديه ودخل بها على الشيخ في البيت ولم يعرّف بها فبقت كما هي على الطاوله أيام واسابيع دون ان يمسها الشيخ.

بكته أعين المحبين لما رأوا تلك القامة العظيمة ممددة وموشحة بالعباءة على أرض المسجد الحرام، وفي مقبرة المعلاة جوار السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.

رحمه الله تعالى وأعلى مقامه، وألحقنا به في الصالحين، وجزاه الله عنا خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم