خَـلائِقُ الْقِيَـادَة

 

 كَارِزْمِيّةُ بِلْقِيس:

كانت الملِكةُ بلقيس نموذجاً للشَّخصية الآسرَةِ ذات الجاذبيَّة الشَّديدة، لكونها مَلِكة ذات مَلَكَاتٍ رفيعةٍ مَكَّنتْها من تمَلُّكِ قلوب شعبها، بدلالة قوله تعالى على لسان الهدهد: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23 ]، وتشير كلمة تَملِكُهُمْ إلى أنها كَانت شَديدَة الاسْتِبداد إلى حَدَّ التَّمَلّك، أو أنها تَمَلَّكَتْ قُلوبهم. 

ولمـا كانت وِفْقَ رِواية الْقُرآن مَلكَةً شُورَوِيَّة:ً {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى? تَشْهَدُونِ} [النمل: 32 ] وامرأة عاقلةً، كما اتَّضحَ بجلاءٍ في كافّةِ نواحي قِصَّتِها، فإنَّ المعنى يَنصرفُ إلى جاذبيتها الشَّخصية! 

 

المُلكُ المشْدُود بِأوْتَادِ النُّبُوَّةِ: 

من المعلوم أنَّ الإنسان يَحملُ في ذاتِه اسْتِعْداداتِ الطُّغْيان: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى?. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى?} [العلق: 6 - 7] . 

ولأنَّ المُلوكَ يَمْلِكُونَ الأمْوال والأجْناد والأشْياع فإنَّهُمْ الأشَدّ طُغْيَانًا بَيْن البَشرِ، حتَّى أنَّهم يَنظُرون إلى شُعوبِهم كحَشَراتٍ مِن شِدَّةِ اسْتعِْلائهم وَنَظْرَتِهِمْ الاحْتِقارِيَّة لَهُم.

 

لكنَّ المُلكَ المـَشْدُودَ إلى أَوْتادِ النُّبُوَّةِ والمُسْتَنِير بِضِيَاءِ الْهُدى الرَّبَّانِيِّ لا يتأثر بهذه المظاهر، فهذا سُليمان عليه السَّلام لم تَمنعُه حُشودُ الجُنود ومظاهرُ الأُبَّهة 

والْفَخَامةِ مِن رُؤيةِ النَّملِ تَدُبُّ على الأرضِ، بل لم يَمنعْه ضَجيجُ الموكبِ من سماعِ أَصْواتها، قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى? إِذَا أَتَوْا عَلَى? وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى? وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 17-19].

 

 ضَرُورَة التَّنْظِير: 

إنَّ قولَه تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] وهو يتحدث عن مواكب النبوة وألْوية العظمة يَرسم منهجاً واضحاً للجماعة المؤمنة، حيثُ ينبغي أن تجتمع لها المواهب والقدرات الحركية والفكرية، العملية والنَّظرية، ومن ثمَّ فإنَّ أي كيانٍ يخلو من أولي الأبصار لنْ ينجح ولنْ يُفلح ولنْ يُكتبَ له التَّمكين، فكيف بكيانات تَنظُر إلى الفكر كتهمة تُعادل الزَّيْغ عن منهج الله?!!

 

 حِمايةُ جُدُر المُجْتَمع: 

إنَّ التَّلبُّس بمشاعرِ المسؤوليَّة يَجْعلُ المرءَ حريصاً على الحقِّ خادماً للخلْقِ، يُقيمُ جُدُرَ الحقِّ ويمنعُ جُدُرَ العَدلِ من الانقضاضِ، ويَحولُ دونَ تَهدُّمِ بنيانَ المجتمع وانهيار أركانه، ألم نقرأ في رحلة العبد الصالح مع موسى عليه السلام: {فَانطَلَقَا حَتَّى? إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ? قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، هذا مع أن الجدار يَهم يَتيمين فقط، فكيف بِجُدُر المـُجتمعات الَّتي تَهُمُّ الملايين ممن أحالهم الاستبداد إلى أيتام؟! 

 

 الانْغراسُ في أرضِ الثَّباتِ:

أثقلُ رجُلٍ في ميزانِ الحقِّ هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال له الله تعالى: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } [الإسراء: 74] 

ولذلك لابد أن نَنْغرس في ميادينِ العلمِ، ونُثقِّل موازيننا بقوة الإخلاصِ، ثُمَّ ندعو الله أن يَهَبَنا الثَّبات فإنَّ الثَّبات يحتاجُ إلى قَدَمَيْ العلم والإخلاص.

 

 اللَّسَانُ المِبِينُ: 

مهما كان المعنى أصيلاً ومقنعاً فإنه إن لم تتم صياغته صياغةً فصيحةً، تتجلَّى فيها البلاغةُ ويتألقُّ فيها البيانُ، لن يتم فَهمَهُ كما يَنْبغي ولنْ يفهمَهُ السَّامِعونَ كما يجب، ولاسيما في مُجْتمعاتِنا العاطفيَّة.

ولم يَدْعُ موسى ربه قائلاً: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِيْ } [طه: 28] إلا لإدراكه أهمية الفصاحة في تكوين الداعية والقائد.

 

 الاسْتفادةُ من المْواهِب والْخِبَرات:

القيادةُ في الإسْلام عبادةٌ متعديةٌ ومسؤوليـَّةٌ ثقيلةٌ، وكذلك فإنَّ القائد بعد استعانتِه بالله يوظِّفُ كُلَّ المواهب ويستثمرُ سائر الْخِبرات المـُمْكنة، مِن أجْلِ تحقيق المقاصد بأكفأ الوسائل والأساليب.

ولذلك فإنه لا ينفرد بالرأي ولا يَستبد بالقرار، بل يشاور أهل الرُّؤى والرَّوِيَّة، لإدراكه بأن الشورى ملزمةٌ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي المرسل والرجل الأكمل، حيث أمره الله تعالى فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ? وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ? فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ? فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، ولذلك طبَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الشُّورى يوم أُحُد مع مخالفتها لقناعته. 

 

ويستفيدُ القائدُ من الخبرةِ 

والحِكْمةِ والنَّصيحةِ، ولَوْ جاءت من أضْعفِ الخَلقِ، كما فعل ملك الأنبياء سُليمان عليه السلام، حينما استفاد منْ رُؤْيةِ طائرِ الْهُدهُدِ، ولَم يغْضبْ منه حين تَفاخَر بخبرته قائلاً: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، فإذا كان أعظم مُلوكِ الدُّنْيا سَارَ خَلْف (هُدْهُد)، حيث أرسله إلى المَلكَةِ بلقيسَ برسالة، فكيف إذا كان القائد أقلَّ من سليمان، وكان النَّاصِحُ والمشيرُ أهَمّ مِنَ الُهُدهُد؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين