حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون (1)

حال العالم في ظل القوانين الوضعية لحقوق الإنسان

لقد كان قدر هذا العالم الذي نعيش فيه أن تعتريه مشاعر الفزع والاشمئزاز إزاء ما ابتليت به (حقوق الإنسان) من كوارث مفجعة شهدتها معظم دول العالم، سواء منها دوله المتقدمة أو دوله النامية، ودوله الغنية أو دوله الفقيرة.

ورغم فظاعة الحال وشناعته، فقد ظلت الحكومات كعهدها تنتقي ما تشاء من قضايا حقوق الإنسان فتنبري للدفاع عنها، ثم تضرب صفحا عن غيرها في انتقائية فاضحة وازدواجية مقيتة. وهي في ذلك إنما تصدر عن أهوائها ومصالحها السياسية والاقتصادية، ولا تجد بأساً أو حرجاً في التحلل من التزاماتها الدولية، والنكوث بالمواثيق والعهود المغلظة التي قطعتها على أنفسها، وتضرب بها عُرض الحائط في استخفاف وازدراء، ما دامت المصالح قد اقتضت ذلك ودعت إليها الظروف والمنافع.

لقد تفاخر البريطانيون والأمريكيون والفرنسيون بأنهم من رعى حقوق الإنسان، واعتقد كل منهم أنه السبّاق إلى نشر مبادئ حقوق الإنسان إلى البشرية جمعاء، انطلاقاً من أن كلاً منهم قام بثورة، فالبريطانيون تمكنوا عام 1688 من استبدال سلطة الملك المطلقة بسلطات شكلية، وتم تقييده بقوانين تكفل حرية الفرد، والأمريكيون قاموا بثورة ضد الإنكليز عام 1779 أعلنوا خلالها مبادئ حقوق الإنسان، والفرنسيون قاموا بثورة ضد سلطان الملك المطلق عام 1789، أرست مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.

إن من حق كل شعب أن يفتخر بما قدمه للإنسانية، ولكن من غير الإنصاف أن يحتكر شعب ما لنفسه السبق في تقديم تلك الخدمة للإنسان، أو أن يحصرها فيه، ومثل هذا الادعاء يدل على الأنانية، والتمركز على الذات، وإنكار حق الآخر في القول بما قدمه خدمة للإنسانية، والمتتبع لمسار تاريخ حقوق الإنسان يجد حضارات الشرق قدمت الشيء الكثير في هذا الميدان، كما هو في حالة رسالة الإسلام التي وضعت الإنسان في مرتبة متقدمة في الحياة الاجتماعية.

ومجمل القول فإن استجابة الحكومات لأزمات حقوق الإنسان التي تقع في بلدان العالم إنما تنم عن نقص واضح في نزاهتها السياسية. فنجد أن المصلحة الذاتية هي معيار الحكومات للاستجابة لهذه الأزمات، وتحديد الكيفية للاستجابة لها، وهي التي تمنع أو تعيق أي تحرك إزاء بلدان عديدة هي في مسيس الحاجة إليها (كما حدث ويحدث في فلسطين والعراق وسورية وأفغانستان وكشمير ومنمار والصين والهند، والعديد من دول أفريقيا والبوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان) وكثير من البلدان في آسيا وأمريكا الجنوبية.

لقد شهد العالم ورأى كيف تقابل انتهاكات حقوق الإنسان بالصمت إن جاءت من حليف أو دولة كبرى (كما يحدث في فلسطين على يد إسرائيل، وفي العراق وأفغانستان على يد أمريكا وبريطانيا، وفي كشمير على يد الهند، والشيشان على يد روسيا، والأقلية المسلمة في بورما على يد حكامها البوذيين، وسورية على يد نظامها السادي)، بينما تلقى الشجب والإدانة والحصار وشن الحروب إذا جاءت من غير هذه المفردات، ناهيك عما تفعل الدكتاتوريات والدول ذات الأنظمة الشمولية (صنيعة الدول العظمى) بشعوبها وما ترتكب من جرائم، تحت سمع وبصر العالم بغطاء إعلامي فاضح وسكوت مقيت وافتراء رهيب ونفاق غليظ.

وكان من شأن هذا النفاق أن تلاشت ثقة الناس في مسلك هذه الحكومات والنظر بقرف واشمئزاز لأسلوب تعاملها مع حقوق الإنسان، أو في علاقات تلك الحكومات مع غيرها من الحكومات، أو من خلال المؤسسات الدولية، التي تميز في العرق والدين، وخاصة بعد نشوء النظام العالمي الجديد في أوائل التسعينات من القرن الماضي بعد فرط عقد المنظومة الشيوعية، حيث المعايير المتباينة والمكاييل غير المتوازنة وغير العادلة.

إن ما دفعني للكتابة حول (حقوق الإنسان) في ديننا مقارنة بحقوق الإنسان في القوانين الوضعية هو الحال التي آلت إليه حقوق الإنسان في بلداننا العربية، والتي لم يعد يحتمل السكوت عنها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.

فالحديث عن حقوق الإنسان لم يعد ترفاً فكرياً بل حاجةً ملحةً، ومطلباً ضرورياً يعادل الماء والهواء للمواطن العربي، وركيزة صلبة لنهضة الأمة من كبوتها والخروج من أزمتها، وهي السبيل لإعادة التلاحم بين المواطن ومجتمعه ودولته، وهي الطريق لاستعادة النظم الشرعية ومصداقيتها، وهي النبراس لاستعادة المواطن العربي لموقعه في معارك الكفاح الوطني.

إن الحقائق التاريخية التي عصفت بأمتنا العربية وشعوبها، ومواطنها محجّم في تفكيره، ومغرّب في وطنه، ومقصيٌ ومبعدٌ في أية مشاركة وطنية، وممنوع عليه أن يقول: (لا) ومحرم عليه النقد، كل ذلك أدى إلى ما حل بهذه الأمة من نكسات. ففي الأعوام المظلمة السابقة والتي لا نزال نعيش مأساتها، والتي كان أفجعها هزيمة (حزيران 1967)، واجتياح القوات الصهيونية لبيروت عام 1982، وسقوط مدينة بغداد عاصمة الرشيد عام 2003 بيد الغزاة الأمريكان وحلفائهم الإنكليز وظهور الربيع العربي. وقبل ذلك دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 وجعله مزرعة لحكام دمشق يعبثون به وبأهله، وأيضاً دخول القوات العراقية الكويت عام 1990 واستباحتها وجعلها المحافظة التاسعة عشرة. ودخول القوات الأثيوبية الصومال بحجة دعم الحكومة.

هذه الفواجع جعلت المواطن العربي يصاب بالإحباط لما يحدث، ويتساءل: لماذا هذا يحدث ؟! ولا يجد الإجابة لأنه مغيب عن القرار والفعل فقد أطفأ حكامنا الشموليون والديكتاتوريون سراج عقولنا، فلم نجد أمام كل هذه النوازل والإحن من يتظاهر أو يعبر عن استيائه في أية عاصمة عربية، أو يهتز جفن لأي حاكم عربي ويعلن انسحابه من الحياة السياسية لفشله وإخفاقه في قيادة السفينة، فقد كان كرسي الحكم هو كل طموحاته وآماله وأهدافه، فإذا ما أمسك به، بغض النظر عن الكيفية أو الوسيلة، تمسك به حتى القتل أو الموت أو الاعتقال !!

لابد للإنسان العربي أن يترحم على الأيام الخالية يوم كان يملك زمام أمره، حيث لا عظماء للأمة ولا رواد ولا أبطال صمود أو تصدي، بل كان هناك حكام وطنيون تهون عليهم كراسي الحكم ويموتون في سبيل صون الأوطان وعزتها، وكلنا نذكر، نحن جيل الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، كيف كنا نخرج إلى الشوارع معبرين عن غضبنا إذا ما شعرنا بأي حيف من قبل حكامنا أو ظلم أو تفريط، وللحق فإن حكامنا في تلك الأيام كانوا يتفاعلون معنا، فلا يتصدون لنا بالرصاص، ولا يسوقوننا إلى المعتقلات أو السجون، أو يمنعون عنا أسباب معيشتنا، أو يطاردوننا في المنافي، كما يفعل حكامنا اليوم. وكنا نتظاهر معبرين عن غضبنا لما يحل بأوطاننا العربية، فلا أزال أذكر المظاهرات الصاخبة العنيفة التي كانت تخرج في دمشق تأييدا لثورة الجزائر، وتأييدا لأهلنا في مصر لمقاومة العدوان الثلاثي، ناهيك عن فلسطين وتطوع الرجال للقتال إلى جانب الأخوة فيها.

إن القهر المنظم، وانتهاك السلطة - في غياب القانون والرقابة الدستورية والشعبية والصحفية - المستمر لحقوق الإنسان. ففي الوقت الذي كانت القوات الصهيونية تتقدم في سيناء والضفة الغربية والجولان في حزيران 1967، وجيوش هذه البلدان تنكفئ متقهقرة لا تلوي على شيء إلا النجاة، كان الآلاف من أصحاب الرأي والفكر يقبعون في الزنازين المظلمة ويحتجزون في السجون والمعتقلات، إضافة إلى الآلاف المبعدون في نفي قسري إلى خارج حدود الوطن.

كل هذا يؤكد على مقولة: إن أزمة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي لم تعد محصورة بإخفاق الأشكال التقليدية لها، بل تجاوزتها لتكون حكراً على الأشكال الجديدة من النظم التي أصمت آذان المواطن العربي وهي تتشدق بشعارات الحرية والديمقراطية لعقود طويلة، حتى وصلت أزمة الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى حد لم يعد يحتمل معه الانتظار، مثلها في ذلك مثل الجوانب الأخرى للأزمة العامة في الساحة العربية. فالإنسان العربي الذي يرزح تحت وطأة التخلف والاستغلال والإقامة الجبرية ضمن الحدود الإقليمية المفروضة من الدول الاستعمارية على الوطن العربي، والتي كرّستها حكومات ما بعد الاستقلال… لم يعد هذا الإنسان يطيق الهموم الجديدة الثقيلة المحتملة في القهر السياسي، والحجر على الرأي، ومصادرة الحقوق الأساسية، وامتهان الكرامة، والتضييق على سبل العيش.

لقد أخفقت النظم العربية المعاصرة في توسيع المشاركة السياسية وتحقيق الديمقراطية وصون حقوق الإنسان، وهذا يشكل ورماً سرطانياً في ابتعاث تاريخنا الحضاري الذي نما في ظل الدولة الإسلامية منذ نشأتها الأولى على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في العام الهجري الأول، في دولته التي أقامها في المدينة المنورة وحتى نهاية العصر العباسي الأول، حيث قامت أزهى حضارة قوامها المشاركة والشورى واحترام كرامة الإنسان وحق مقاومة الطغيان.

كما استأثرت هذه النظم الشمولية بظاهرة المرشح الوحيد الذي يحوز على (99,9%) من أصوات الناخبين، سواء منهم الأحياء أو الأموات أو المقيمين أو المنفيين، إمعانا في امتهان عقول الناس من مواطني هذه الأمة، إضافة إلى سعي رؤوس هذه الأنظمة على التركيز على الابن الخليفة وتهيئة أجواء الحكم له وتوريثه، كما حدث عند توريث بشار الأسد منصب الرئاسة بعد موت أبيه سنة 2000(في حين تنص الفقرة (ج) من المادة الثانية من ميثاق حقوق الإنسان على: (حق اختيار الحكام وتغييرهم) وقد أخذ أفراد الأسر الملكية الحاكمة في بعض البلدان العربية يتندرون في مجالسهم بالقول: لقد سبقتنا الأنظمة الجمهورية وباتت ملكية أكثر منا، فنحن ورثنا الملك كابراً عن كابر، أما هؤلاء فقد اغتصبوا الحكم ولم يكونوا شيئاً يذكر !.

ومما دفعني إلى الكتابة عن (حقوق الإنسان) أيضا قصور العديد من المفكرين الذين لم تكن كتاباتهم وبحوثهم إلا نسخة طبق الأصل عما تسوقه القوانين الوضعية حول (حقوق الإنسان)، متناسين أو متغافلين عما حواه ديننا الإسلامي الحنيف من تعاليم وقيم وتراث دعت إلى صون حقوق الإنسان وحمايتها، وقد سبقت ما توصلت إليه القوانين الوضعية من ابتكارات ونظريات ومفاهيم بأربعة عشر قرن من الزمان.

وكان الأجدر بأمتنا - وهي التي حررت الأمم والشعوب من اضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان - أن تكون في مقدمة الأمم التي تصون حقوق الإنسان وتدافع عنها، بدلاً من أن تكون منغمسة في مستنقع إهدار حقوق الإنسان، والتي كانت بالتالي ذريعة لاتهام ديننا الإسلامي الحنيف بقصوره عن إنصاف الإنسان وحماية حقوقه من قبل الحاقدين على هذا الدين والمتربصين به الدوائر.

وإن هدفي البعيد من المقارنة بين الشريعة والقانون هو طرح ما في ديننا الإسلامي الحنيف من تعاليم وقيم ومثل، للعمل بها عالمياً كبديل لما تسوّقه القوانين الوضعية من نظريات لا ترقى في مجملها إلى الحد الأدنى مما جاء في ديننا - ولو أحسنا الظن فإنها تكرار لبعض ما جاء فيه - فهو يحمل الشرع الوحيد الذي يمكن أن يحقق للناس جميعاً العدل والمساواة والسعادة والأمن والأمان.

وقد اعتمدت في طرحي هذا على ما جاء في كتاب الله من أحكام، وما جاء في السنة المطهرة من أقوال وأفعال، وما روته كتب السير والتاريخ من أحداث ووقائع، مقارنة بما جاء في الأدبيات المعاصرة لمصطلحات حقوق الإنسان، وما تضمنته المواثيق والعهود الدولية التي أقرتها الهيئة العامة للأمم المتحدة.

لقد كانت حقوق الإنسان هي المحور للحقوق جمعاء، وهي المعيار لتقييم الفرد وسلوكه، مثلما هي المعيار الحضاري لتقييم الدول والمجتمعات، وقياس مدى إنسانية التعامل فيها.

لقد رافق الاهتمام بحقوق الإنسان البشرية منذ عهد الإنسان الأول، عندما ترك الله سبحانه وتعالى لآدم وإبليس حرية التفكير وحرية السلوك وحرية التعامل وحرية الاختيار، فأخرجهما من الجنة واسكنهما الأرض وقال لهما: (… اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)(1). وقد تضمنت حياة الإنسان الأول منذ تشكيل مجتمعه البدائي وحتى بعث الرسل وقيام الديانات والأعراف الاجتماعية والفلسفات والثقافات الفكرية، إلى أن تطور في حياته إلى سن الدساتير والقوانين والنظم السياسية بكل ألوانها وأطيافها، لنجد - بما لا يدع مجالا للشك - أن قيم ومثل ديننا الإسلامي قد فاقت كل ذلك رقياً وعلواً وعدلاً وإنصافاً.

وهكذا نجد أن القوانين الوضعية أقرت أن الإنسان هو أكرم المخلوقات وأرقاها، يتميز عن غيره من الكائنات بالعلم والأخلاق، وبقدرته على التفكير والإبداع، وتسخير ما في الكون لخدمته وترقية حياته باستمرار وعلى نحو موصول.

وقد جاء اصطلاح (حقوق الإنسان) في الأدبيات المعاصرة، مرتبطاً بما تضمنته الوثائق الدولية التي أقرتها الهيئة العامة للأمم المتحدة، وكانت حصيلة النضوج الفكري والتطلع الإنساني - عند مبتكري القوانين الوضعية - لمجمل شعوب العالم بعد أربعة عشر قرناً من نزول الآية الكريمة: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(2)، وقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)(3)، وقوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم)(4)، وقوله تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(5). وهذا يجعلنا نقر بحقيقة أن القرآن قد سبق فلاسفة هذا العصر وما يطرحونه من أدبيات حول حقوق الإنسان بأربعة عشر قرن، وما هذه المواثيق التي أعلنوها إلا تصديقاً لبعض ما جاء به.

لقد اعتمدت الأمم المتحدة في العاشر من شهر كانون الأول (1948) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأصدرته.. أي تم إصداره بعد ما يقرب من أربعة عشر قرن من نزول القرآن الكريم، الذي تضمن - من جملة ما تضمن - حقوق الإنسان وحث على رعايتها وأمر بصونها، وقد اعتبرها ضرورية للحياة وليست حقوق يمكن التنازل عنها أو عن بعضها، وبالتالي فإنه ليس من حق الإنسان أن يتنازل عنها أو عن بعضها لأنه مأمور بصونها وحفظها والدفاع عنها. ونرى أن الأمم المتحدة بعد هذا التاريخ، طلبت من كافة الدول الأعضاء في الجمعية العامة أن تدعو لنص الإعلان وأن تعمل على نشره وتوزيعه وقراءته وشرحه، ولا سيما في المدارس والمعاهد التعليمية الأخرى، وذلك من أجل أن يعرف الناس جميعا حقوقهم ويشاركوا في ممارستها والدعوة لها والمطالبة بها والدفاع عنها(6).

"""""""""

1-سورة الأعراف-آية (24).

2-سورة الحجرات- آية(13).

3_سورة التين-آية(4).

4_سورة التغابن-آية(3)

5-سورة الإسراء-آية(70)

6-حقوق الإنسان-مناهج التدريس-ص(13-51).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين