حفر قناة السويس

 

 

حدث في السادس والعشرين من ربيع الآخر 1272

 

في السادس والعشرين من ربيع الآخر من سنة 1272، الموافق 5/1/1856، أصدر خديوي مصر محمد سعيد بن محمد علي الكبير فرماناً من الإسكندرية جدد فيه منح الفرنسي فرديناند ديلسبس امتياز حفر قناة السويس لتصل بين البحر الأبيض وبين البحر الأحمر، وهو المشروع الذي سيجلب الرخاء والشقاء على مصر وأهليها.

 

وكان الخديوي محمد سعيد باشا قد تولى الحكم في 28 شوال سنة 1270=24/7/1854، بعد وفاة ابن أخيه عباس الأول، وبعد قرابة 3 أشهر أصدر مرسوماً في 9 صفر سنة 1271=30/11/1854 تضمن منح الامتياز لصديقه الفرنسي فرديناند ديلسبس، ثم أصدر بعده بسنتين المرسوم الثاني الذي نحن بصدده، وهو أكثر تفصيلاً ودقة، وكان المرسوم الأول يتألف من 12 مادة، أما المرسوم الثاني فقد تألف من 23 مادة، وكان مقسماً إلى أبواب حسب مواضيع المواد، وأصدر الخديوي معه مرسوماً آخر من 53 مادة بتشكيل الشركة العالمية لقناة السويس الملاحية: la Compagnie Universelle du Canal Maritime de Suez‏.

 

وجاء في مقدمة المرسوم الأول: وجه صديقنا المسيو فرديناند ديلسبس نظرنا إلى الفوائد التي تعود على مصر من وصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر بإنشاء طريق للملاحة صالح لمرور السفن الكبرى، وأبان لنا أن في الإمكان تأسيس شركة لهذا الغرض تؤلف من أصحاب رؤوس الأموال من شتى الأمم، وقد ارتضينا ما عرضه علينا ورخصنا له بموجب هذا ترخيصاً خاصاً في تأسيس وإدارة شركة عامة لشق برزخ السويس واستغلال قناة بين البحرين مع الإذن له في القيام بجميع الأعمال والمباني اللازمة لذلك أو أن يعهد بها إلى الغير، على أن تتكفل الشركة بتعويض الأفراد مقدماً إذا دعت الحال إلى نزع ملكيتهم للمنفعة العامة، كل ذلك في الحدود وطبقاً للشروط والالتزامات المبينة في المواد الآتية:

 

1.      يؤسس المسيو فرديناند ديلسبس شركة نعهد إليه بإدارتها تسمى الشركة العالمية لقناة السويس، تكون مهمتها القيام بشق برزخ السويس، واستغلال طريق صالح للملاحة الكبرى، وإنشاء وإعداد مدخلين كافيين أحدهما على البحر الأبيض المتوسط والآخر على البحر الأحمر وبناء مرفأ أو مرفأين.

 

2.      يعين مدير الشركة دائماً من قبل الحكومة ويختار ما أمكن من بين المساهمين الذين لهم أوثق الصلة بالمنشأة.

 

3.      مدة الامتياز تسع وتسعون سنة تبتدئ من التاريخ الذي تنفتح فيه قناة البحرين.

 

4.      تجرى الأعمال التي يقتضي إجرائها على نفقة الشركة وحدها، وتمنح بدون مقابل جميع ما يلزمها من الأراضي التي ليست ملكاً للأفراد، ولا تكون التحصينات التي ترى الحكومة القيام بها على نفقة الشركة.

 

5.      تجبي الحكومة سنوياً من الشركة 15% من صافي الأرباح المستخلصة من ميزانية الشركة وذلك فضلاً عن الفوائد والحصص الخاصة بالأسهم التي تحتفظ الحكومة بحق الاكتتاب فيها لدى إصدارها، وذلك دون أي ضمان من جانبها لتنفيذ الأعمال أو لقيام الشركة بمهمتها .. ويوزع الباقي من صافي الأرباح على الوجه التالي: 75 % للشركة، 10 % للأعضاء المؤسسين.

 

6.      يتم الاتفاق على تعريفات رسوم المرور بقناة السويس ما بين الشركة وخديو مصر ويجبى عمال الشركة هذه الرسوم وتكون التعريفات متساوية دائماً لجميع الأمم. ولا يجوز مطلقاً اشتراط امتياز خاص لإحدى الدول دون سواها.

 

وورد في آخر مواد المرسوم:

 

10.     عند انتهاء الالتزام تحل الحكومة المصرية محل الشركة، وتنتفع بكافة حقوقها دون تحفظ، وتستولي على قناة البحرين وجميع المنشآت التابعة لها وتؤول إليها ملكيتها الكاملة، ويحدد مقدار التعويض الذي يمنح إلى الشركة في مقابل تنازلها عن المهمات والأشياء المنقولة باتفاق ودي أو بطريق التحكيم.

 

11.     يعرض مدير الشركة علينا فيما بعد نظام الشركة، ويجب أن يحوز موافقتنا، ولابد من إذن منا مقدماً بأي تعديل يدخل عليه في المستقبل، ويجب أن يذكر نظام الشركة أسماء المؤسسين، على أن نحتفظ بحق اعتماد قائمتهم، ويراعى أن تتضمن هذه القائمة أسماء الأشخاص الذين سبق أن ساهموا في تنفيذ مشروع قناة السويس الكبير سواء بأعمالهم أو أبحاثهم أو بجهودهم أو أموالهم.

 

12.     وفي الختام نعد بطيب تعضيدنا الخاص وكذا جميع موظفي الحكومة المصرية لتسهيل تنفيذ واستغلال هذا الترخيص.

 

وكان الخديوي آنذاك تابعاً للسلطان العثماني، وبرتبة نائب السلطان على مصر، ولم يكن من صلاحياته  عقد اتفاق كهذا، بل كان لا بد من موافقة السلطان في استانبول حتى يصبح لهذا الامتياز قوة القانون، ولذا سافر ديلسبس إلى القسطنطينية بعد حصوله على الامتياز بشهرين يلتمس تصديق السلطان عبد المجيد على عقد الامتياز، ولكنه لم ينجح في ذلك فقد عارضت بريطانيا المشروع معارضة شديدة، وادَّعت أنه غير مجد اقتصادياً وأن دخل القناة لن يغطي مصروف صيانتها فضلاً عن ربح لرأسمالها، وكان السلطان يتوجس خيفة من المشاريع الأجنبية وبخاصة من فرنسا، فعاد ديلسبس خالي الوفاض إلى مصر.

 

وكانت الحكومة البريطانية التي كان يرأسها بنجامين دزرائيلي قد أسفرت عن عدائها للمشروع المزمع، وذلك لأنه عز عليها أن تسبقها فرنسا إلى مثل هذه الفكرة، التي اعتبرتها تهديداً لمصالحها لأنها ستجعل فرنسا تتحكم في التجارة العابرة التي تمر بمصر، وكانت سياسة بريطانيا قائمة على أن تكون هي المسيطرة على حركة التجارة والأساطيل العسكرية، ورغم ذلك بقي ديلسبس يطلب ود بريطانيا، وكان حريصاً أشد الحرص على مساهمتها في القناة، فقد كان آنذاك صاحبة أكبر أسطول تجاري وعسكري، وكان حريصاً كذلك عى مشاركة غيرها من الدول الأوروبية ليضمن استعمال هذه الدول للقناة، وليجعل لشركته صبغة دولية تواجه بها مصر والدولة العثمانية وتتقوى بها عليهما في حالة الخلافات.

 

ورغم عدم حصوله على موافقة السلطان العثماني، استصدر ديلسبس من الخديوي سعيد باشا مرسوم عقد الامتياز الثاني مشروطاً لنفاذه بموافقة السلطان وإلى جانبه قانون الشركة الأساسي، وجاء مرسوم الامتياز الثاني كما أسلفنا مفصلاً ومبوباً، وتضمن زيادة على ما سبق تفاصيل فنية محددة حول مسار القناة ومحطاتها، وتفاصيل حول إدارتها المالية، وجعل فرديناند ديلسبس رئيساً لها لأول 10 سنوات، ولإنشاء حِمى للقناة منح المرسوم الشركة الأراضي المملوكة للحكومة بعرض كيلومترين على كل جانب منها، وأعطاها حق تملكها من الأهالي بسعر عادل، وأعفاها من الضرائب والرسوم الجمركية، وسمح لها بإنشاء محاجرها أو الاستفادة من المحاجر الحكومية، وألزم شركة القناة بحفر ترعة للماء العذب تربط النيل بالقناة الملاحية وتستخدم في أغراض الري والملاحة النهرية، وتتفرع قبيل وصولها إلى بحيرة التمساح إلى فرعين للري والتغذية، ويتجه أحدهما شمالا إلى الفرما والثاني جنوبا إلى السويس، وأن يتم المشروع خلال مدة لا تتجاوز 6 سنوات، وأن تقوم الشركة بدفع أجور عادلة لمن تستخدمهم، وتضمن إنشاء هيئة تحكيم تبت في النزاعات، كما نص على سلم تصاعدي لحصة الحكومة من العائدات إن هي قررت تمديد الامتياز لأكثر من 99 سنة.

 

وحلاً لأية إشكالات دستورية أو دبلوماسية، وتفادياً لإثارة غضب السلطان، أرفق الخديوي المرسوم السابق برسالة هذا نصها:

 

إلى صديقي المخلص الكريم المحتد الرفيع المقام

 

السيد فرديناند ديلسبس

 

بما أنه تلزم موافقة عظمة السلطان على الرخصة الممنوحة للشركة العامة لقناة السويس، فإني أبعث إليكم بهذه النسخة لحفظها لديكم، أما الأعمال الخاصة بحفر قناة السويس فلن يبدأ فيها إلا بعد الحصول على ترخيص الباب العالي.

 

الإسكندرية 26 ربيع الآخر 1271، 5 يناير 1856

 

محمد سعيد باشا والي مصر.

 

وفي نفس اليوم أصدر الخديوي موافقته على نظام تأسيس الشركة العالمية لقناة السويس الملاحية، وأمر بضمه إلى مرسوم منح الامتياز للمسيو ديلسبس، وتألف نظام الشركة من 78 مادة، من أهمها أن مقرها الرسمي هو الإسكندرية على أن تكون باريس مقرها الإداري، وأن رأسمال الشركة 200 مليون فرنك موزعة على 400 ألف سهم تصدر سنداتها باللغة التركية والألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، ويتألف مجلس إدارتها من 32 عضواً يمثلون الجنسيات المختلفة صاحبة المصلحة في المشروع، وينبثق عنهم لجنة تدير الشركة، ومنح النظام المؤسسين نسبة 10% من الأرباح السنوية للشركة، ونسبة 3% لمدرائها، وخصص 2% من الدخل لبناء احتياطي طوارئ حده الأقصى 5 ملايين فرنك، وجعل النظام التحكيم أساساً لفض المنازعات، وجعل محكمة استئناف باريس المسؤولة عن النظر في الاعتراض أو الاستئناف لقرارات التحكيم.

 

وبسبب من معارضة بريطانيا السافرة، كان أغلب حملة الأسهم من الفرنسيين الذي اكتتبوا بنسبة 52% من أسهم الشركة، واكتتب الخديوي بنسبة 44%، أي ‏أن المساهمين من غير مصر وفرنسا لم يكتتبوا إلا بنسبة 4%، ومع ذلك كان أعضاء أول مجلس إدارة ينتمون إلى 14 جنسية، وفي سنة 1275= 1858 أرسل ديلسبس قبل 4 شهور من الشروع في عمليات الحفر خطاباً إلى سعيد باشا أبلغه فيه بتأسيس الشركة، وأن سعيد باشا أصبح موضع التقدير العميق من رجالات السياسة في أوروبا بسبب رعايته للمشروع، ولم ينس أن يشير للسلطان العثماني فقال: إن سلطان تركيا هو رئيس العالم الإسلامي، وإن مشروع القناة يهدف إلى تقريب السلطان من مكة المكرمة التي هي أهم جزء في الإمبراطورية العثمانية لأنها أساس سلطته الروحية والدينية، وأشار إلى الصبغة الدولية للشركة التي تضم مساهمين ينتمون إلى دول عديدة.

 

وبدأ الحفر في القناة قرب دمياط في 22 رمضان سنة 1275=25/4/1859، وخطب ديلسبس في الحفل قائلاً: باسم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، وطبقًا لقرار مجلس إدارتها، نضرب أول معول في الأرض التي ستفتح أبواب الشرق لتجارة الغرب وحضارته، إننا نجتمع هنا تحدونا فكرة واحدة، هي فكرة الإخلاص لمساهمي الشركة ولصالح منشئها وراعيها العظيم محمد سعيد.

 

والتفت ديلسبس بعد ذلك إلى العمال المصريين قائلاً: سيضرب كل منكم بمعوله الأرض كما فعلنا نحن الآن، عليكم أن تذكروا أنكم لن تحفروا الأرض فقط، ولكن ستجلبون بعملكم الرخاء لعائلاتكم ولبلادكم الجميلة، يحيا أفندينا محمد سعيد باشا.

 

وسيق للعمل في المشروع عشرات الألوف من فلاحي مصر، بمعدل 20.000 فلاح كل 10 أشهر، وبأجور بخسة، ومات منهم ألوف ضحية الإنهاك والجوع والأمراض، وكان الحفر في البداية بالمعاول والمقاطف، ولكن جري فيما بعد استيراد الكراكات ذات المحركات البخارية وكانت هذه الآلات يقودها سائقوها الأوربيون تقوم بتجريف التراب من المناطق المغمورة لترميه على الشاطئ، وكانت أسرع وأقل تكلفة من الحفر بالأنفار، ولذلك قررت إدارة المشروع العدول عن الحفر الجاف وغمر المناطق المراد حفرها ثم تجريفها بعد ذلك.

 

وفي سنة 1277=1861 توفي السلطان العثماني عبد المجيد وخلفه السلطان عبد العزيز، وتوفي بعده بسنتين الخديوي محمد سعيد باشا، عن 42 سنة بعد مرض عضال، وذلك في الإسكندرية في 27 رجب سنة 1279= 18/1/1863، وذلك بعد قرابة 8 سنوات من إصداره الترخيص، وكان آخر أعماله أن استجاب لطلب الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث لمساعدة فرنسا في تدخلها في المكسيك فأرسل فرقة من الجيش المصري قاتلت هناك مع الجيش الفرنسي.

 

 وخَلَف محمدَ سعيد على عرش مصر ابنُ أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا الكبير، وكانت بين السلطان عبد العزيز وبين الخديوي إسماعيل صداقةٌ شخصية، وتشابهٌ في الانبهار بالغرب والاندفاع وراء المظاهر والبهارج، وعادت هذه الصداقة بالوبال على تركيا ومصر، ودفع البلدان ثمنها غالياً.

 

وتسبَّبت المعارضة البريطانية للمشروع في توقفه مرتين، ولارتباط الجهات التجارية والحكومية البريطانية بعقود امتياز مشابهة، لم يكن من المنطق أن تهاجم الصحف البريطانية مبدأ المشروع، فكانت تهاجمه لتضمنه إجبار الفلاحين المصريين على العمل فيه، واعتبرت نظامه نظام سخرة يعود بالبشرية إلى عهد العبيد، ونسيت أن بريطانيا استعملت السخرة حقاً أثناء مدها السكك الحديدية في مصر، وأن عشرات الألوف من الفلاحين ماتوا دون أن يدافع عنهم أحد.

 

وتحت الضغط البريطاني الذي لم يتوقف، أرسل الديوان السلطاني في سنة 1279=1863 رسالة يعترض على بدء العمل دون تصديق السلطان العثماني على الامتياز، فأجابه الخديوي إسماعيل أن هذه أعمال ابتدائية ضرورية لتخطيط المشروع ولا تعتبر بدءاً في العمل.

 

وأفلحت الضغوط البريطانية المتزايدة في أن أصدر الباب العالي عدة قرارات، تمخضت بعد 17 اجتماعاً، وتضمنت ألا تمد الحكومة المصرية الشركة إلا بستة آلاف عامل بدلا من 20 ألف، ورفع أجر العامل إلى ضعف الأجر العادي في مصر، وإلغاء ما تضمنه الامتياز من تمليك الشركة للأراضي على جانبي القناة وغيرها، ولم يكن أمام حكومة الخديوي إسماعيل إلا أن تعلن أنها ستنفذ قرارات الباب العالي، وفي اليوم التالي اعتبرت الصحف البريطانية ذلك نصراً أحرزته الإنسانية في حربها على السُّخرة والاستعباد.

 

وكان تلك القرارات بمثابة حكم بالموت على الشركة التي كانت أصلاً تعاني من ضائقة مالية وحصار بريطاني محكم، فعارضتها معارضة شديدة واعتبرتها منافية للامتياز، وطلبت أن يبتَّ في أمرها التحكيم المنصوص عليه في العقد، وطُرِح اسم الإمبراطور نابليون الثالث ليحكم في النزاع، وقبل به الخديوي إسماعيل ظنا منه أنه سيكون محايداً وينصفه ضد الشركة إزاء أمر حدث خارج عن إرادة إسماعيل معارضته، ولكن الإمبراطور اتخذ هذه الفرصة ليصدر حكماً جائراً يحكم فيه للشركة بملايين طائلة وفرت لها سيولة ما كانت تحلم بها ومكنتها من إتمام المشروع، وتابع الإمبراطور نابليون الثالث مساعيه مع السلطان العثماني عبد العزيز الذي أصدر فرماناً بالمصادقة على الامتياز في 2 ذي القعدة سنة 1282=1866.

 

و بعد 11 سنة من بدايته اكتمل العمل في القناة في جمادى الأولى سنة 1286، وبلغ طول القناة عند انتهائها 160 كيلومتراً، وكانت في بدايتها متواضعة لا يزيد عمقها على 8 أمتار وعرضها على 22 متراً، وبلغ أكبر عرض لها 58 متراً، وحمولة السفن العابرة لها لا تتجاوز 5000 طن، وجرت عليها عبر السنين عمليات توسيع وتعميق، حتى أصبح عمقها 24 متراً في سنة 2010، وصارت حمولة السفن التي تعبرها 240.000 طن، وهي بذلك أهم المعابر في العالم ،ومصدر دخل رئيس لمصر.

 

وجرى افتتاح القناة رسمياً في 12 شعبان سنة 1286=17/11/1869، وأقام الخديوي إسماعيل احتفالات دعي إليها ملوك أوروبا وعلى رأسهم الإمبراطورة يوجيني زوجة نابليون الثالث الذي كانت فرنسا قد عزلته قبل شهرين، وتكلف عليها الأموال الطائلة، وبنى من أجلها دار الأوبرا الخديوية في ستة أشهر، ودفع للموسيقار الإيطالي فيردي مبلغ 150.000 فرنك ذهبي في سبيل إخراج أوبرا عايدة، عدا ما تكلفته من ملابس وتأثيث وزينة، استقدمها من باريس، ولكنها لم تصل في الوقت المناسب، فاستعيض عنها بأوبرا أخرى، وبلغ ما أنفقه إسماعيل على هذه المناسبة 16% من ميزانية مصر، وقد وصف الاحتفالات الخيالية والقناطير التي أنفقت عليها أمير الشعراء أحمد شوقي فقال:

 

نهضت مصر بالزمان نزيلاً ... وبأهليه يوم ذلك وفدا

خطروا بين زاخرين ولاقوا ... ثالثاً من نداك أحلى وأندى

بين فُلك يجري وآخر راسٍ ... ولواءٍ يحدو، وآخر يُحدى

وملوكٍ صِيد يُراح بهم في ... واسع الريف والصعيد ويُغدى

صُورٌ لم يكنَّ حقاً، وحلم ... فُجع الصبحُ فيه لما تبدى

وقناطير يجفِل الحصرُ عنها ... كل يوم تَعدُّها مصر عدَّا

ليت شعري؟ هل ضِعنَ في الماء، أم هل ... يضمر الماء للودائع ردا

ليعيدنَّها إلينا بوقت ... زمنٌ طالما أعاد وأبدى

 

وبمثل هذا الإسراف كان من الطبيعي أن تحل سنة 1875 وإسماعيل باشا غارق في أزمة مالية لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر، وهنا وافت بريطانيا الفرصة لتستدرك ما فاتها، فشجع بنجامين دزرائيلي رئيس الوزراء البريطاني الخديوي على بيع حصة مصر من الأسهم التي بلغ عددها 176.602 سهماً، فما أن قرر الخديوي البيع حتى أمر دزرائيلي بشرائها على الفور رغم معارضة البرلمان ومعه بنك إنجلترا المركزي، واقترض دزرائيلي لشرائها مبلغ 400.000 جنيه من أسرة روتشيلد ريثما يستطيع إقناع البرلمان بتخصيص مبلغ للشراء، وهو الأمر الذي حمده له فيما بعد الشعب البريطاني.

 

واعتقد إسماعيل أنها صفقة رابحة، فقد باع السهم بمبلغ 568 فرنك بينما كان ثمنه لسنوات طويلة أقل من سعر الإصدار البالغ 500 فرنك، ولكن تبين أن السعر المنخفض للسهم كان بسبب الفتور البريطاني إزاء المشروع، فما أن أصبحت الأسهم في حوزة بريطانيا حتى بدأ سعرها في الارتفاع متصاعداً حتى وصل سعر السهم إلى 3600 فرنك في سنة 1900، ولم تكن تلك الخسارة الوحيدة لمصر، بل كانت خسارتها كذلك في أنها لم تعد ممثلة في مجلس إدارة الشركة، والتي غدت ولسنوات طويلة أهم شركة اقتصادية في مصر.

 

وهنا نتوقف لنتحدث بإيجاز عن فرديناند ديلسبس الرجل الذي كان وراء المشروع والذي عمل من أجله بتصميم وإصرار حتى أخرجه إلى الواقع.

 

 ولد ديلسبس في فرنسا سنة 1805 لأسرة عريقة في السلك الدبلوماسي، ونشأ في إيطاليا حيث كان والده قنصلاً لفرنسا بها، والتحق هو كذلك بالسلك الدبلوماسي فعمل في لِشبونة وتونس، وانتهى به المطاف في سنة 1833 قنصلاً في القاهرة، وبقي في هذا المنصب حتى سنة 1837، وحيث كانت فرنسا على صداقة مع محمد علي باشا الكبير حاكم مصر، فإن قنصلها لقي ترحيباً فوق عادي في الفترة التي خدم فيها دولته في مصر، وصادق خلال هذه الفترة الأمير اليافع محمد سعيد بن محمد علي باشا، المولود سنة 1822، وبعد تركه مصر في سنة 1837 تنقل في مناصب دبلوماسية حتى سنة 1851 حين تقاعد على إثر خلاف مع الحكومة الفرنسية.

 

ولما تولى عرش مصر الأمير محمد سعيد في سنة 1854 اتصل به ديلسبس، وقد اختمرت فكرة المشروع في ذهنه، فدعاه الخديوي الجديد لزيارة مصر فقدمها، وبعد حوالي 3 أسابيع منحه الامتياز الأول، الذي كان بمثابة وثيقة يستطيع بها ديلسبس أن يتحدث عن مشروعه بثقة وقوة في المحافل المالية والهندسية، فشكل لجنة تضمنت مهندسين من دول أوروبية مختلفة درست المشروع، وأكدت إمكانية تنفيذه وقدّرت تكاليفه، وبعد تنفيذ القناة ونجاحها، تحول إلى رجل يحلم ويخطط لمشاريع عملاقة بمقياس ذلك الزمان، منها مشروع لمد سكة حديدية بين أوروبا وبين الهند، ومنها إلى الصين، ومنها: شق قناة من البحر المتوسط إلى منخفض في الصحراء الجزائرية لتشكيل مسطح مائي تنتج عنه زيادة معدل الأمطار في داخل الجزائر.

 

 وفي سنة 1879 نجح في تأسيس شركة إنشاء قناة في خليج باناما تصل المحيط الأطلسي بالمحيط الهادئ، واستطاع توفير التأييد السياسي والتمويل المالي للمشروع، ولكن الشركة أعلنت إفلاسها في سنة 1888 بسبب العقبات الفنية وانتشار الملاريا والحمى الصفراء، ووافت المنية ديلسبس في سنة 1312=1894.

 

وفي سنة 1882 قام أحمد عرابي بحركته التي ثار فيها مع مجموعة من  الضباط على أوضاعهم السيئة داخل الجيش المصري، واتخذتها بريطانيا ذريعة لتبسط حمايتها على مصر وتحتلها، وكان الهدف الحقيقي لها هو أن تضع يدها على القناة كما وضعت يدها على أسهمها من قبل، وفي تخطيطه للدفاع إزاء الهجوم البريطاني الوشيك أراد عرابي ردم القناة لكيلا تستعملها القوات البريطانية الغازية، ولكن ديلسبس رئيس الشركة أقنعه بالعدول عن تلك الخطة، لأن القناة منشأة دولية لا يمكن المساس بها، ولذا فلن تستعملها جيوش بريطانيا في غزوها لمصر، ويبدو أن هذه المعلومة لم تكن وصلت بعد للقادة العسكريين البريطانيين، فعبرت سفنهم القناة، وأنزلوا قواتهم في بورسعيد والإسماعيلية، وكان أول هدف لهم تأمين منشآت ومعدات شركة القناة حتى لا تتوقف حركة الملاحة فيها، وأعلنت الحكومة البريطانية في بيان رسمي أن العملية العسكرية البريطانية تهدف إلى حماية الحركة الملاحية التجارية المعتمدِة على المرور في القناة.

 

وبعد أن كانت بريطانيا قلقة من وضع القناة، انقلب الأمر وانتقل القلق إلى فرنسا، فقد أصبحت القناة تحت السيطرة العسكرية البريطانية، ولذلك دعت فرنسا في سنة 1888 إلى مؤتمر دولي في استانبول لبحث أمور الملاحة في القناة، عرف بمؤتمر القسطنطينية، ودعيت إليه الدول البحرية: فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وروسيا والنمسا وألمانيا وهولندا وأسبانيا، وكانت الدولة العثمانية هي المضيف، وتمخض المؤتمر عن معاهدة القسطنطينية التي نصت في مادتها الأولى: تظل قناة السويس البحرية بصفة دائمة حرة ومفتوحة في زمن السلم كما في زمن الحرب لجميع السفن التجارية والحربية بدون تمييز بين جنسياتها. وبناء على ذلك فقد اتفقت الدول العظمى المتعاقدة على عدم إلحاق أي مساس بحرِّية استعمال القناة سواء في زمن السلم أو في زمن الحرب. ولن تكون القناة خاضعة مطلقا لاستعمال حق الحصار البحري.

 

وكان ذلك في الحقيقة سلخاً للسيادة المصرية عن منطقة تقع بكاملها ضمن الأراضي والمياه الإقليمية المصرية، وتحويل القناة إلى معبر مائي في أعالي البحار لا سلطان لأحد عليه، ولمصلحتها الذاتية لم يفت بريطانيا أن تضع نصاً غائماً في المادة العاشرة من المعاهدة يسمح بالتدابير التي: قد يرى عظمة السلطان وسمو الخديو اتخاذها باسم صاحب الجلالة الإمبراطورية ليضمنا، بواسطة قواتهما وفي حدود الفرمانات الممنوحة، الدفاع عن مصر وصيانة الأمن العام.

 

ويتعجب الأستاذ الباحث أيمن زغلول، الذي أفدت كثيراً من بحثه النقدي الرصين، أن يأتي هذا من بريطانيا وليس من حكومة السلطان العثماني عبد العزيز التي يعيب عليها تفريطها في حقوق مصر، وهي صاحبة الحق السيادي عليها، ويقول: أصرت بريطانيا على نص المادة العاشرة من الاتفاقية، والذي يفرغ المادة الأولى من محتواها في حالات الدفاع عن مصر، بحيث أصبح من حق مصر منع الدول المعادية من استعمال القناة رغم الصياغة الغائمة، وكان هذا هو أساس رفض مصر مرور جميع السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل في القناة عقب حرب 1948، ولولا وقوف إنجلترا موقفا صلبا في ذلك المؤتمر بأن أضافت نص المادة العاشرة لانسلخت القناة بالفعل وأصبحت مياها دولية تماما كأعالي البحار.

 

وسيظهر المستقبل مرات أن هذه المواد حجة على الضعيف، ولا يأبه بها القوي الذي يفعل ما يناسب مصالحه، فحينما قامت الحرب بين روسيا وبين اليابان في سنة 1904، وكانت بريطانيا تميل فيها إلى جانب اليابان، لم تسمح بريطانيا للأسطول الروسي بعبور قناة السويس ليتجه إلى حرب اليابان في الشرق الأقصى، واضطر أن يسير إلى الصين بالطواف حول أفريقيا ورأس الرجاء الصالح، ولكن بريطانيا لم تغلقها أمام الأسطول الإيطالي الذي توجهت سفنه في سنة 1936 للاعتداء على الحبشة واحتلالها بوسائل عنيفة وحشية شملت العقوبات الجماعية والغارات الجوية بالغازات السامة، رغم كون الحبشة وبريطانيا وإيطاليا أعضاء مؤسسين في عصبة الأمم التي تمنع مواثيقها البغي والعدوان.

 

ومن الناحية التجارية لقيت القناة نجاحاً فورياً فور افتتاحها، وبحلول سنة 1889 كانت حركة السفن في القناة قد تضاعفت عما كانت عليه سنة 1881، ثم تضاعفت مرة أخرى بحلول سنة 1911، وكانت البضائع البريطانية تمثل 80% من مجموع البضائع المارة بالقناة، ولذا أوعز البريطانيون في سنة 1909 إلى بطرس غالي باشا رئيس وزراء الحكومة المصرية آنذاك أن يقترح تمديد الامتياز الذي كان سينتهي في 17 نوفمبر 1968، لمدة 40 سنة أخرى تنتهي عام 2008، وذلك مقابل مبلغ يقرب من 11 مليون فرنك وعرضاً يتضمن تقاسم الربح الذي يزيد على 50 مليون فرنك مناصفة بين الشركة وبين الحكومة المصرية، وتصدت لهذا الاقتراح الحركة الوطنية المصرية بقيادة محمد فريد، وقام شاب قبطي يدعى إبراهيم الورداني باغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي، وألّف الاقتصادي المصري طلعت حرب كتاباً عن قناة السويس، وضع النقاط على الحروف وبيَّن ما خسرته مصر في الماضي ببيعها الأسهم، وما ستخسره إن هي مددت الامتياز، وبعد ذلك رفض مجلس النواب المصري التمديد وبقي الامتياز على حاله.

 

وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى في سنة 1914 سارعت بريطانيا في فرض الحماية البريطانية على مصر، رغم كونها جزءا من الإمبراطورية العثمانية التي كانت حليفة ألمانيا في حربها ضد الحلفاء بقيادة بريطانيا، وبعد أن ضمنت بريطانيا سيطرتها على القناة ، استعملت حق الخديو الذي ورد في المادة العاشرة من الاتفاقية، ومنعت سفن ألمانيا التجارية والعسكرية من المرور في القناة، بينما كانت سفنها تعبر القناة جيئة وذهاباً بالرجال والأسلحة والذخيرة.

 

 وبعد انتهاء الحرب أصدرت بريطانيا تصريح 28 فبراير عام 1922 والذي اعترفت فيه باستقلال مصر، مع تحفظات أربع يتعلق واحد منها بسلامة قناة السويس، وفي الحرب العالمية الثانية كررت بريطانيا منعها لسفن أعدائها من عبور القناة.

 

وبقيت مصر على هامش إدارة القناة، وبقي حديث القناة خافتاً في مطالب الحركة الوطنية حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية وتصاعد وتيرة المطالبة المصرية بالاستقلال وبالاستفادة من القناة، فجَرَت مفاوضات ومباحثات قامت بها مع الشركة وزارة التجارة والصناعة المصرية وتمخضت في  سنة 1368=1949 عن اتفاق تضمن إدخال مصر في مجلس إدارة الشركة، وخصص لها 7% من الدخل، ووافقت الشركة على أن تخصص للمصريين 90% مما تستجد من الوظائف المكتبية و80% من الوظائف الفنية، ووعدت الشركة أنها ستقوم ببناء المستشفيات والمدارس وغيرها من المرافق في محيط القناة.

 

وبعد الاتفاق بأيام كتب الأستاذ البحاثة السفير أحمد رمزي مقالة عن قناة السويس في مجلة الرسالة جاء فيها:

 

" إننا في حاجة إلى عدة مشاريع إنشائية: أهمها توسيع الموانئ المصرية في بور سعيد والسويس، وإنشاء مناطق حرة متسعة، وفي وضع شبكة من المواصلات البرية السهلة من الشرق إلى القناة، ومن الغرب إليها، وفي حاجة لسياسة عامة للخطوط الحديدية حول القناة، ثم في حاجة إلى عدد من المطارات الكبرى والمحطات المائية التي تسمح بهبوط أي نوع كبير من الطائرات فيها، وإن تطور مصر سيفرض نشر العمران في سيناء، ومصلحة القناة تحتم إنشاء منطقة صناعية كبرى في المثلث الذي تشغله المعسكرات البريطانية؛ لأن توسيع الصناعات الكبرى يفرض من المبدأ أن تكون على الطرق المائية، هذه نظرة لمستقبل القناة في السنوات القادمة إذا أخذنا بها نقول: أن مصر قد انتقلت من الزمن الذي كانت معدة فيه لخدمة القناة، ودخلت العهد الجديد الذي يضع القناة في خدمة مصر".

 

وفي 17 ذي الحجة سنة 1375= 26 / 7 / 1956 أعلن الرئيس جمال عبد الناصر أثناء خطاب شعبي له أن حكومة مصر قد قررت تأميم القناة، ولقي القرار صدى شعبياً واسعاً في مصر والعالم العربي والإسلامي، بل على صعيد دول العالم الثالث، وجاء قرار تأميم القناة رداً على رفض أمريكا، وبريطانيا من ورائها، تمويل إنشاء السد العالي في أسوان، فقد كانت الدولتان غير راضيتين عن علاقات عبد الناصر المتنامية مع المعسكر الشرقي والاتحاد السوفيتي، وقدر عبد الناصر أن رسوم القناة تكفي في خمس سنوات لسداد تكاليف السد العالي، ورداً على التأميم قامت الدولتان بتجميد أموال الحكومة المصرية لديها وانضمت لهما الحكومة الأمريكية، وللذكرى كان للحكومة المصرية دين قدره 135 مليون جنيه على الحكومة البريطانية!

 

وأعلن عبد الناصر التأميم في طريقة استعراضية فيها كثير من التحدي للمعسكر الغربي، ولقي بسببها من التأييد الجماهيري ما جعله في أوج شعبيته، حتى خشيت فرنسا وبريطانيا أن يتجرأ على إغلاق القناة، ويمنع شحنات النفط العابرة من الخليج إلى أوروبا، فاتفقت الدولتان على شنِّ هجوم عسكري تستوليان فيه على القناة، وكان لكل منها سبب إضافي في الهجوم على مصر، فقد كانت حكومتها تدعم بالسلاح ثوار الجزائر المناضلين لإنهاء الاحتلال الفرنسي، وكانت فرنسا من قريب قد اعترضت الباخرة المصرية (عايدة) وصادرتها بعد أن وجدتها تحمل أسلحة إلى الثوار الجزائريين، وكانت بريطانيا قبل قرابة سنتين قد أخلت قواعدها العسكرية في القناة بسبب المقاومة الشعبية المسلحة ضدها، فوجدت ذلك فرصة للعودة والسيطرة على القناة، وتحالفت الدولتان مع إسرائيل التي كانت سفنها ممنوعة من المرور في القناة، وكانت كذلك تعاني من حصار بحري فرضه عبد الناصر على مضائق تيران في مدخل خليج العقبة، ومن إزعاج  غارات الفدائيين الفلسطينيين التي انطلقت من قطاع غزة بعلم ودعم من إدارته المصرية.

 

وبدأت إسرائيل العدوان في 24 صفر 1376= 29/10/1956 واستولى مظليوها على مضائق المطلة في سيناء، فأمنوا الطريق لقواتها المدرعة التي وصلت بسهولة إلى ضفاف قناة السويس بعد أن أخلى الجيش المصري سيناء، ووفقاً للخطة المبيتة قامت بريطانيا وفرنسا بتوجيه إنذار لمصر وإسرائيل بالانسحاب من ضفاف القناة، وإلا فستتدخلان لتنفيذ قرار وقف إطلاق النار الذي أصدرته الأمم المتحدة، وخلال أسبوع قامت الدولتان بإنزال بحري ومظلي في بور سعيد وبور توفيق وبدأتا في احتلال منطقة القناة، وقام الجيش المصري بإغلاق القناة وذلك بإغراق بعض السفن فيها.

 

وكانت حسابات دول العدوان الثلاثي خاطئة، فقد وقف الرأي العام في مصر وراء عبد الناصر رغم اتضاح طبيعة حكمه الدكتاتوري، وأجَّجت الحرب المشاعر الشعبية في العالمين العربي والإسلامي، والتي عبرت عنها المظاهرات العارمة في كل هذه البلاد، وعارض الغزو حزبا العمل والأحرار في بريطانيا، ولكن الرأي العام فيها أيده تأييداً قويا.

 

وجرت هذه الأحداث متواكبة مع أحداث أوروبية صبَّت في صالح عبد الناصر والقضية المصرية، فقد كانت هنغاريا تمر بثورة حقيقية على السيطرة الشيوعية، وكان زعيمها ناجي إمري قد أعلن بعد يومين من الغزو الأنجلوفرنسي انسحاب هنغاريا من حلف وارسو، وكانت الاهتمام الأمريكي مركزاً على كيفية دعم الرئيس إمري، وكانت أمريكا على علم بالتدخل الوشيك للدبابات السوفياتية لإسقاطه وإعادة بلغاريا إلى الربقة السوفياتية، واستاءت الدبلوماسية الأمريكية استياء كبيراً لكونها لم تستشر في الهجوم، وإن كانت مخابراتها قد علمت به، وطلب الرئيس الأمريكي إيزنهاور، وكان صاحب عقل وضمير، من المعتدين الانسحاب، فلم يملكوا إلا الانصياع.

 

وقدمت المواجهة بين عبد الناصر وبين دول العدوان الثلاثي فرصة ذهبية لحكومة الرئيس نيكيتا خروشوف في الاتحاد السوفياتي التي لم تمض سنة على صعودها للحكم، لتظهر حزمها وتفرض مصالحها، وبخاصة بعد قمعها الثورة الديمقراطية في المجر، وحسمت الأمور عندما قام نيقولاي بولغانين رئيس الوزراء السوفياتي في بتهديد المعتدين بتدخل سوفياتي حتى بالأسلحة الذرية إن اقتضى الأمر.

 

وبعد شهرين من الغزو انسحبت بريطانيا وفرنسا تحت إشراف الأمم المتحدة، وبعد 5 أشهر انسحبت إسرائيل بعد أن انتزعت من عبد الناصر رفع حصاره لمضائق تيران وكذلك حق المرور في القناة للسفن غير الإسرائيلية التي تقصد ميناء إيلات، ورابطت من يومها قوات الأمم المتحدة على حدود الهدنة بين مصر وإسرائيل.

 

ويرى الأستاذ أيمن زغلول أن قرار التأميم لم يكن في مصلحة مصر، فقد كان امتياز شركة القناة سينتهي في 17/3/ 1968 أي بعد أقل من 12 سنة ، ولم ينتبه كثيرون في الشارع العربي أن قانون التأميم تضمن أيضاً تعويض المساهمين في الشركة العالمية لقناة السويس بقيمة السهم في بورصة باريس في اليوم السابق للتأميم، وتضمن كذلك مواداً غير دستورية أو غير قابلة للتطبيق، إذ كانت شركة قناة السويس العالمية تمتلك أصولا وأموالا ليس فقط في داخل مصر ولكن في خارجها، فقد كانت تمارس أنشطة متعددة في أوروبا لا علاقة لها بالقناة، منها على سبيل المثال توليد الكهرباء في محطات بفرنسا، ولا تزال الشركة قائمة إلى اليوم تحت اسم شركة GDF SUEZ‏ وتعد من كبريات الشركات العالمية في توليد الكهرباء وتوزيعها.

 

ودارت مفاوضات بين حكومة عبد الناصر وبين هيئة المنتفعين من قناة السويس أحيطت بكثير من الكتمان، وجرت في جنيف وفرنسا وبريطانيا، وانتهت بتنازل مصر عن الأصول المملوكة لشركة القناة والواقعة خارج مصر، وفى النهاية تم الاتفاق على أن تدفع مصر للمساهمين مبلغ 23 مليون جنيه مصري على ستة أقساط تبدأ في يناير 1959 وتنتهي في يناير 1964، وهو مبلغ هائل من المال بمعايير ذلك الوقت، ويكفى أن نعلم أن التمويل الأمريكي البريطاني لمشروع السد العالي والذي بسببه وقع التأميم كان يبلغ 70 مليون دولار أمريكي أي 24.4 مليون جنيه مصري بأسعار ذلك الزمان، وهو تقريبا نفس القدر الذي دفعته مصر تعويضا لحملة الأسهم، على أن مصر قد تحملت، إضافة إلى الخسائر البشرية، تكاليف تدمير جيشها بالكامل ومدينة بورسعيد وبعض منشآت البنية التحتية في الحرب، ولم تتقاض عن خسائرها في تلك الحرب التي لم تشنها أية تعويضات.

 

ويشير الأستاذ زغلول إلى الصين الشعبية التي لا تستطيع أي قوة على الأرض أن تناصبها العداء المفتوح بسبب كثافتها السكانية الهائلة وتعدادها الكبير وقدرتها على ممارسة حرب الاستنزاف لسنين طويلة، وأنها لم تسترجع هونج كونج بطريق القوة بل استرجعتها بالتفاوض السلمي في عام 1986،  والذي نتجت عنه اتفاقية الجلاء البريطاني عن هونج كونج بعد ذلك بأحد عشر عاما في عام 1997 بلا حروب وبلا خسائر من أي نوع.

 

وإذا عدنا إلى التاريخ فسنجد أن قناة السويس الحالية ليست هي أول مرة يتم فيها إنشاء معبر مائي يصل  بين البحر الأبيض وبين البحر الأحمر، فقد سبق إليها الأقدمون من حكام مصر فوصلوا النيل بالبحر الأحمر، ويبدو أن أول قناة حفرت في سنة 1850 قبل الميلاد، وفي العهد الإسلامي قام عمرو بن العاص رضي الله عنه أثناء ولايته على مصر بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحفر قناة سميت خليج أمير المؤمنين، وصلت بين النيل في القاهرة وبين البحر الأحمر، وكان ذلك في عام المجاعة لتسهيل نقل الطعام من مصر إلى الحجاز بحراً، وما لبثت القناة أن سدها الطمي المحمول في النيل والذي تراكم فيها سنة بعد أخرى، وفكر في إعادتها من جديد الخليفة العباسي هارون الرشيد ولكنه عدل عن ذلك خشية أن يسهل لسفن الروم دخول البحر الأحمر والاعتداء على الحجاز.

 

وكانت مصر في القرنين السابع والثامن الهجريين معبر التجارة الدولية من الهند والصين إلى أوروبا، وكانت أساطيل جمهوريتي البندقية وجنوا الإيطاليتين أنشط الأساطيل التجارية في البحر المتوسط، وقد ساورت فكرة إنشاء قناة تصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر عدداً من أهل البندقية، ولما جاء احتلال نابليون لمصر في سنوات 1798-1801، كان علم المساحة قد تقدم بدرجة كافية لدراسة الموضوع دراسة علمية رصينة، فقام مساحوه بدراسة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين