حسن الخراط وأسطورة التحرير

حسن الخراط وأسطورة التحرير

1875-1925م

 

د. عبد الجواد حردان

امتدت الثورة السورية ثمانية عشر شهرًا، كانت تمتلأ بأخبارها البرقيات وأعمدة الصحف، وتتصدر أكبر جريدتين يومئذ التايمز والطان التي خلفتها لوموند، ولقد قهر أبطالُها ومنهم حسن الخراط جيش الاحتلال الفرنسي، وهذا هو الحق الذي كان، فهذه ليست أحلام يقظة ولا منام، فلقد كانت الحملة تخرج وفيها الدبابات والمصفحات، يقودها الجنرال أوكولونيل وفيها آلاف الجنود، فيردها عشرات أو مئات من الثوار سلاحهم البنادق والإيمان، نعم إن الإيمان ولو كان بالجبت والطاغوت قوة لا تكاد تغلب، والمثل القريب الأدنى فيتنام الملحدة، والبعيد الأعلى المسلمون الأوائل(3).

من أشهر قادة هذه الثورة القاهرة للاحتلال الفرنسي الحارس الليلي حسن الخراط، فهو ممن أطلق شرارة معركة ميسلون عام 1920م مع شهيدها الأشهر وزير الدفاع يوسف العظمة(4)، وذاك هو عهدنا برجال غوطة دمشق، فكم وكم من قائدٍ مقدام على غرار حسن الخراط نبت وأينع في بساتينها، وبه وبأمثاله من المغاوير غدت الغوطة ملاذًا لثوار رقموا سطور العزة والمجد بدماء زاكية وهممٍ سامقة.

كان حسن الخراط حارسًا ليليًّا، خفيرًا من خفراء البلد، يعمل على حراستها من اللصوص، لكن لما رأى لصوصًا أخطر وشرهم أكبر قد سرقوا البلد، نهض مع من نهض من الثوار يحمي الذمار ويمحو العار، وقف مع إخوانه الذين باعوا أنفسهم لله ليواجه فرنسا عندما كانت فرنسا تملك أقوى جيش بري في العالم يوم خرجت من الحرب العالمية ظافرة على هامتها غار النصر(5).

ذاكم هو حسن الخراط الذي هابه الفرنسيون حيًّا وميتًا، وها هو ذا الأديب علي الطنطاوي يبرهن على ذلك بحادثتين؛ أولاهما في حياة حسن الخراط، والأخرى بعد استشهاده ببضع سنوات.

أما التي بعد رحيله فهي يوم شرع الطنطاوي يسطر في مجلة الناقد الدمشقية ملاحمَ حسن الخراط بأسلوبه الشائق وبإسهابٍ معجِبٍ مفصِّل لأيامٍ نقشتْ في ذاكرته بطولات ماثلة أمامه لا تفارق عينيه، فبعد أن نشر الطنطاوي الفصول الأولى من هذه الملحمة أوقفها الفرنسيون لما رأوا صداها وفعلها في النفوس، وكذلك يفعل تاريخ الأبطال فِعلَتَهُ في النفوس، فلا عاشت ثورة خلت مناهجها من تاريخ فرسانها.

وأما التي في حياته فإنها لم تكن لتصدَّق لولا أن الثقات شهدوا عليها، وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها، فمن أطرف تلك الوقائع أن ضابطًا باريسيًّا أشقر ناعم كأن رجولته خطأ مطبعي في سجل الحياة أحبَّ أن يرى صورة حسن الخراط، فجاءه أحد ظرفاء الحي بصورة عنتر التي تعلق في المقاهي، فلما نظر إليها ورأى سوادًا كالليل، وعينين تتقدان كعيني الصقر وشاربين كساريتي مركب انخرط بطنه وأصابه الزُّحار فحمل من فوره إلى المستشفى!(6)

الكرُّ والفرُّ في حروب التحرير

إن من أبرز سمات القائد في حروب التحرير والاستقلال حكمته وحنكته، وسحر بيانه وخطابه، وجاذبية شخصيته وأصالة معدنه، فرغم ضعف عدته وعتاده قياسًا بقوة أعداء الثورة وأعوانهم قاد حسن الخراط ثوار دمشق في معارك ما زالت تتداولها السطور وتحفظها الأجيال في الصدور لأنها مثلت ذروة الوعي بصراع الحق للباطل، ولقد تمكن هو وتلك الثلة الصامدة

من هزيمة المحتل الفرنسي في ملاحم الغوطة الشرقية، وأشهرها معركة زور المليحة ومعركة جسر تورا يوم قطع الجسر وحال بذلك دون عبور الجيش الفرنسي منه.

لم يكن اسم جسر تورا ليغيب يومًا عن البرقيات وأعمدة الصحف(7)، إنه نُهَيرٌ عرضُه أقلُّ من خمسة أمتار، عليه جسر صغير كانت تمر عليه الحملة فلا تكاد تجوزه حتى يردها أفراد من الثوار ما لهم حصون ولا خنادق سوى جدران البساتين؛ فارتدت فرنسا بجيشها وطائراتها وجبروتها عن جسر تورا ولم تتجاوزه إلا مرات معدودات، ثم كان ما هو أعجب، فقد شنَّ الحارس الليلي حسن الخراط وجنوده غاراتٍ متتالية من ثلاثة محاور لتحرير مدينة دمشق، واقتحم مقر الحاكم الفرنسي في قصر العظم في السادسة مساء من يوم الأحد 18 تشرين أول عام 1925وسيطر عليه، وكان فيه الجنرال الفرنسي ساراي المفوض السامي في سورية ولبنان، وكان مقره في بيروت لكنه كان يأتي إلى سورية أسبوعيا في هذا الوقت.

لقد اختار حسن الخراط مقدمة قواته ممن لا يخطئون الرمي وعلى رأسهم الشيخ عبد الحكيم المنير الحسيني الشاغوري، فاقتحموا القصر بقتالٍ عنيف، وتحررت دمشق من الاحتلال الفرنسي ثلاثة أيام لم يكن فيها فرنسي واحد (8)، ولما عجزت فرنسا عن مواجهة الحارس الدمشقي في ميدان القتال سرعان ما قامت بقصف دمشق بالمدفعية والطيران فدمرت معظم أحيائها وهجرت سكانها وأعادت قصة دونكيشوت مع الطواحين(9).

واجه الثوار ببسالة سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها المحتل حتى تمكنوا من الانسحاب نحو بساتين الغوطة الشرقية، واحتل الفرنسيون دمشق مرة أخرى أما أطرافها فبقيت في أيدي الثوار أكثر من سنة(10)، ثم شنت فرنسا هجومًا مضادًا على الثوار، أحرقت فيه قرى الغوطة، وقتلت السكان ودمرَّت البنيان(11)، وطاردت الثوار وحاصرتهم واضطرتهم لتغيير مواقعهم، فكان الفرنسيون يقتِّلون سكان القرى التي تؤوي الثوار تقتيلًا جماعيًا ويعرضون جثثهم في ساحة المرجة بدمشق(12).

حسن الخراط تلميذ قائد الثورة وشيخها

كان حسن الخراط قائد ثورة الغوطة يتلقى أوامره يوميًّا في صلاة الفجر بمسجد بني أمية من الشيخ بدر الدين الحسني، ولما انتهت معركة مرج السلطان كتب رسالته المشهورة إلى الجنرال ساراي، قال فيها: لقد أرسلتك فرنسة لتقاتل الثوار، فخرقت القيم الإنسانية، وحرقت الشام وقتلت أبناءها، وقد فاتك أننا نحافظ على الجوار

إنـا لقوم أبـت أخلاقـنا شرفـًا          أن نـبتدي بالأذى من ليـس يؤذينا

وإني أنذرك إذ أقدمت على إعدام رجالي الثلاثة، فسأعاملك بالمثل وأقتل كل رهينة عندنا، فأعذر من أنذر، والسلام على من اتبع الهدى (13).

لم يكن حسن الخراط ليهرب ويختبئ فقد كان ينزل إلى دمشق علنًا فيحييه الكبار والصغار، ويزور زوجته وأصدقاءه، وقد نصب له أكثر من كمين فرنسي عند مداخل حي الشاغور، وكانت أوامر الفرنسيين: حسن الخراط مسلح بالغ الخطر يجب أن يقتل فور رؤيته.

شخصيته ومعدنه

كان حسن الخراط شخصية ذات قدر ومعدن أصيل، وكان رامياً ماهراً سريعاً لا تخطئ طلقته هدفها، وكان أيام اشتداد القتال في الثورة السورية الكبرى يحمل بندقية وأكثر من مسدس ويرمي بكلتا يديه بدقة متناهية، ويجيد ركوب الخيل العربية الأصيلة ويقتني أفضلها.

ولعل كثيرين لم يسمعوا باسم حسن الخراط، لكن هل كان ذنبه أنْ ظهر في أمةٍ لا يجهل  أحد فيها اسم تشي جيفارا وقد بخست ولم تنصف رجالاتها ولم تقدرها حق قدرها (14)، ولم تتلُ أنباءَها على مسامع أبنائها، ففي عصر الخراط كان أحدهم إذا مرَّ بسوق مدحت باشا يقف عند الأطفال المرابطين فيسألهم: أتأذنون لي بالعبور يا أولادي؟ فيجيبون: إذا كنت تستطيع المرور بين العسكر مرفوع الرأس وتحملق فيهم فمرَّ وإلا فعُدْ(15)، كذلكم كان الجيل الذي قاده الخراط.

ومضى حسن الخراط في جهاده وقتاله للمحتل الفرنسي حتى استشهد في كمين محكم أثناء محاولة توجهه إلى حي الشاغور يوم 19 تشرين ثاني 1925، وتناقل الفرنسيون بينهم خبر مقتله كما تروي أليس بوللو، وقيل إنه نجا من هذا الكمين، ووجه رسالة تهديد باسمه إلى المندوب السامي الجديد بعد أن هرب الجنرال ساراي متخفيًا بثوب امرأة، وعندئذٍ اطمأنَّ السوريون إلى أن الخراط بخير، فشحذت هممهم ودبَّ الخوف في الفرنسيين حتى امتنع المندوب السامي الجديد عن لقاء أي وفد سوري، ثم حوصر الخراط لاحقاً في إحدى قرى الغوطة الشرقية واستشهد في جحيم القصف الذي نزل عليهم أواخر عام 1925م، وقيل بل استشهد في قتال عنيف وجهًا لوجه برصاصة في صدره، وأعدم المحتلُّ الفرنسيُّ ابنَه فخري الخراط شنقًا في 28 كانون الثاني 1926م (16)، وقد قُدِّمت أوسمة لجميع ضباط الجيش الفرنسي الذين شاركوا في المعارك والقصف يومئذٍ، وحسبك هذا منهم إقرارًا للخرَّاط -رحمه الله تعالى- بأنه كان جيشًا وحدَه بما أوتي من هِمَّةٍ أحيا بها الأمَّة.

الحارس واللصوص

يقول الخراط لكاتب ساخر كان يهزأ من تلقيبه نفسه بالباشا: نعم كنت حارسًا ولم أكن لصًّا مثل زعمائكم، لقد ورد إلى مسامعي أن صحفياً لديكم قد قال عني ما قال..., وعليكم اللعنة إذا لم تنشروا ردِّي هذا في ذات المكان الذي نشر فيه الصحفي الذي قال عني: إنني كنت أعمل حارسًا.

(نعم إنني كنت حارسًا، وأفخر؛ لأني كنت دائما حارسًا لمصالح هذا الشعب وحريته وكرامته، ولست مثل مصاصي دماء الشعب، فلم أكن يوما من ناهبي خيراته من شاكلة زعمائكم)(17).

 

الحواشي:

1 https://2u.pw/uTeXH، وثمة من يروي أنه ولد عام 1861م. أكرم هندي: كفاح الشعب العربي السوري، ص 238. أدهم آل الجندي: تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي، ص 348.

2 مدرس الفقه وأصوله في جامعة سوتجي إمام.

3 ذكريات علي الطنطاوي ص 210.

4 قلدت فرنسا قاتليه أرفع الأوسمة: تمام أبو الخير، https://www.noonpost.com/content/39324

5 ذكريات علي الطنطاوي ص 206.

6 ذكريات علي الطنطاوي ص 206-212.

7 القائد البطل حسن الخرّاط (شيخ شباب الشاغور): د. أبو بكر الشامي، https://2u.pw/j2FsR

8 ذكريات علي الطنطاوي ص 212

9 ذكريات علي الطنطاوي ص 213.

10 ذكريات علي الطنطاوي ص 213.

11 ذكريات علي الطنطاوي ص 213- 215.

12 القائد البطل حسن الخرّاط (شيخ شباب الشاغور): د. أبو بكر الشامي، https://2u.pw/j2FsR.

13 العرب من وراء اللهب: مذكرات عبد الغني الأسطواني، ص179.

14 ذكريات علي الطنطاوي ص 207.

15 هتاف المجد 137.

16 أدهم آل الجندي: تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي، ص 348-354.

17 https://ebd3.net/62183-2/