حُسْن البهاء في قصة وشهادة أبي البراء الشهيد مصطفى هربش تقبله الله..

 

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الملك الجبار, معز المؤمنين, ومذل الكافرين, والصلاة والسلام على إمام المجاهدين, وقائد الغر الميامين, وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أخص الآن بحديثي الشاب الشهيد الحبيب أبي البراء مصطفى هربش الحمَوي تقبَّله الله, عرفاناً مني لروحه الطاهرة, والتي ما زالت خالدةً بيننا.
 
ولادته ونشأته وشمائله:

ولد الشهيد في مدينة حماة في حي الكرامة – الذي كان يسمى بحيِّ البعث قبل الثورة السورية المباركة- عام 1988م.
عاش الشهيد في كنف أسرته الكريمة التي تعهَّدته بالتربية والرعاية, ودفعت به لمدارس الحي كشأن كل الأطفال والأبناء, وأتم المرحلة الإعدادية والثانوية, ثم التحق بكلية طب البيطرة فدرس بها السنة الأولى والثانية.
عرف الشاب المتدفق فتوةً مصطفى هربش بخلقه الكريم النبيل, وبتدينه وتقواه, وحرصه على اتباع سنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله, يحب ما يحب, ويبغض ما يبغض.
 

ملازمته المسجد وأثر الصحبة الصالحة :
كان كثير الحياء والأدب والهدوء والصمت لا يتكلم إلا لضرورة.

تعلق قلبه ببيت الله عز وجل، فكان يجيب داعي الفلاح لكل وقت يزاحم فيه المصلين بالمناكب لتتهذَّب نفسه وروحه، ولتتربى التربية الإيمانية.
 
كان يراه أحد الفتية من أبناء حيه الذي كان يصلي معه في مسجد سعيد الجابي، ولما رأى خلقه وأدبه وسمته وتمسكه بالسنة دفعه ليتعرف عليه, وانشرح له صدراً فكانوا يجتمعون على الله ويفترقون عليه وانضمّت لهم ثلة من المؤمنين من أبناء الحي، وتعمَّقت العلاقة بين أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم, وزادهم هدى بحرصهم على اتباع الهدى.
 

اشتعال جذوة حب الجهاد في قلبه:
تركت هذه الصحبة الصالحة، ومتابعة القنوات الإسلامية أثراً طيباً في تربية أبي البراء, وأدرك أن الحياة الحقة هي عقيدة وإيمان، وأن الواجب الجهاد في سبيلها حتى الموت.

قضايا المسلمين وأحوالهم, وتداعي الأمم عليهم ، أهمَّت أبا البراء فقوّى ذلك جذوة حبِّ الجهاد في قلبه، وكان يلهب مشاعره سماعه للأناشيد الجهاديَّة, وما يقرع سمعه كل يوم من مآسي المسلمين في العراق فينصدع قلبه لما يسمع ويشاهد عبر القنوات ما يحدث للمسلمين ولا سيما هو ابن حماة التي ما نسي أهلها جراحاتهم وآلامهم، تلك المدينة التي يذكّر هواؤها ونسيمها ما فعلته عصابات الأسد الأب, يشهد بذلك كل حجر وشجر ومدر, وما من ذرة من ترابها إلا وتضمَّخ بطيب دماء شهدائها, وما من قطرة من العاصي إلا وتنبأك عن إجرام تلك الطغمة الطاغية.
 
شرع الشهيد يبحث عن وسيلة للنفور في سبيل الله عز وجل الذي سبقت كلمته لعباده المرسلين والمخلصين أنهم لهم المنصورون ووعد بأن جنده هم الغالبون.
 

في المدرسة اليوسفية :
وفي يوم من الأيام يعرض عليه جنود الرحمن ليسلك هذا الطريق ،فطار بذلك فرحاً وكأنه قد حيزت له الدنيا بما فيها! وأي دنيا لا تساوي جناح بعوضة أمام دار الخلد والكرامة فلذلك استرخص نفسه في سبيل الله عز وجل.
 

 لكن حال دون ذلك ما قدّره له المولى من خضوع في دورة تدريبية إيمانية في مدرسة يوسفية، فاعتقله الظالمون ظناً منهم أنهم بهذا العمل الخسيس يطفؤون نور الله بأفواههم جاهلين أن الله متم نوره ولو كره الكافرون والحاقدون.
 

دروس الصبر والإيمان :
نظرت الأم الرؤوم إلى ابنها المقيَّد، فقالت له: جعلك الله في كل بيت يا مصطفى, تقصد بذلك أن يجعل الله من أمثاله في كل البيوت والأسر, وفُتحت كل حجب السموات أمام دعوة أم مظلومة فاستجاب الله دعوة الأم المفجوعة بولدها التي لا حول لها ولا قوة فما من بيت من بيوت المسلمين اليوم في سوريا إلا وفيه مصطفى.
 

زُجَّ بمصطفى بأقبية الأفرع الأمنية، وبدأت مسلسلات التحقيق والتعذيب, والإهانات النفسية التي لم تعد هذه الأساليب الفرعونية خافية على أحد.
 
صبر مصطفى على هذا الإيذاء وثبت، وما صدَّه ذلك الفعل الشنيع عن السبيل الذي اختاره، بل إنه قال لمن حوله من إخوانه الذين سلكوا هذا الطريق: والله ما حدت عن الطريق ولن أتراجع عن هذا الدرب, فعلّم إخوانه دروساً في الثبات والإيمان ، فكان يقول لهم: من باع نفسه لله لا ينبغي أن يبيعها لغير الله, ثم يدعو ربه ليعفو عنه ويغفر له.
 

غوانتامو سوريا ( صيدنايا) :
هذا هو شأن مصطفى أثناء مرحلة التحقيق والتعذيب, وكيف لا يكون هذا شأنه وهو من أمة فيها حبيب وخبيب, بلال وعمار, فكان يقف بين يدي الظالمين عالي الهامة مشدود القامة تتأجَّج بين جوانحه عزة الإسلام وتتوقَّد في فؤاده كبرياء الإيمان.
 

اقتيد أبو البراء مع ثلة من الشباب المؤمنين إلى غوانتانامو سوريا (صيدنايا) ليودع فيه قرابة أربع سنين من الظلم والقهر والعذاب، تعرَّض فيه لعدة أنواع من الأمراض ، فهزل جسمه وأصيب بالجريب والروماتيزم، وكانت تستعر الحمى في جسده فلا يستطيع أن يحرك يده ليجفِّف دمع عينه بسبب ما أصاب جسده من شلل مؤقت في كل أعضائه.
 
لم يخترق هذا الداء والبلاء إيمان أبي البراء الراسخ في قلبه كرسوخ الراسيات في جذور الأرض بل كان محصّناً بالصبر واليقين, ويثبّت مَن حوله, ويصبّرهم وقويّ عزائمهم.
 

كفى يا نفس ما كانا... كفاك هوى وعصيانا.
التقى الشهيد في سجن (صيدنايا) بمجموعة من طلاب العلم منهم: الشيخ الشهيد عمار السيد الحلبي تقبله الله، ولازمه لزوم الظل يستفيد من علومه ونصائحه وإرشاداته وتوجيهاته, ويجالس بقية إخوانه يناصحهم ويستنصحهم, يرشدهم ويسترشدهم, متواصين بالحق والصبر وينشد لهم أنشودته المفضلة:
 

ازدادت فيه صفات القوة والشجاعة والثبات في الحق بعد ملازمته للشيخ عمار, وازداد كرهه للمداهنين والمخذّلين والمرجفين, ويقول عنهم : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وازداد حبه للمجاهدين وتكوَّنت له صحبة صالحة مع ثلة صالحة ممن هم على منهجه وخاصة الفتية الذين هم من أبناء سنه.
 
حصلت في تلك المرحلة كوارث ومجازر سجن (صيدنايا) بسبب الاستعصاءات الثلاث خلال أشهر يسيرة ، ولكأنَّ تلك المرحلة كانت مرحلة إعداد وتدريب للمجاهدين أعدَّهم الله لمثل هذه المرحلة التي تمر بسوريا اليوم.
 
في الاستعصاء الثالث 6-12-2008م كانت المواجهة بين الشرطة العسكرية والسجناء العزَّل ومع أنهم عزَّل غير أن النظام كان يتمثلهم سواد الليل وبياض النهار، ويخشاهم وهم مقرنين في الأصفاد.
 
فلم يجد السجناء بداً للدفاع عن أنفسهم إلا أن يصنعوا سلاحاً أبيضاً من قوائم الأسرَّة, فكان الشهيد في الصف الأول في تلك اللحظات العصيبة، والتي أطلق عليها السجناء فيما بعد: النزول الأسود, وقد جعل الله لهم فرجاً ومخرجاً من هذه المحنة التي تحوَّلت إلى منحة فيما بعد.
 
صدرت الأوامر الاستخباراتية بنقل السجناء إلى (سجن عدرا ) وبقية الأفرع، فاتخذ أبو البراء قراراً مع ثلة من الشباب للبقاء في سجنه دون أن يتحرك، واجتهد إخوانه لإقناعه فلم يستجب حتى لشيخه عمار، ونتيجةً لضغط الإخوة عليه استجاب لهم على مضض، وخاصة عندما قال له أحد إخوانه: ينبغي أن ننزل، وأن نتهيَّأ للمعركة المنشودة، والتي ستكون مدويَّة بإذن الله، ونحن الآن في مرحلة إعداد وتدريب، وسنخرج قريباً بإذن الله لكن علينا أن ننجح في هذا الامتحان.
 
أمضى ستة أشهر في (عدرا )،ثم أعيد مع بقية المعتقلين إلى (صيدنايا)، وأمضى بقية سجنه مثابراً على ما كان عليه، وكان كثير الحب للشهادة، وتعلق قلبه بها ،لكنه كان يشعر بالإحباط في بعض الأحيان، فيشدَّ من عزمه بعض إخوانه، ويقصُّون عليه الرؤى والمبشِّرات، وكان يأتيه هذا الإحباط خشية ألا ينال نصيبه من الجهاد في سبيل الله عز وجل، وخاصة أنه ذاق طعم الجهاد في حدث صيدنايا، فكان يتساءل ويقول: هل سنتمكن من الخروج؟ ونجاهد في سبيل الله ونحرر البلاد؟ أم أننا سنعود إلى روتين الحياة؟.
 

خروجه من السجن وانضمامه إلى كتائب النصرة واستشهاده :
نقل من سجن (صيدنايا )إلى سجن حماة بعد إلغاء قانون الطوارئ، وأمضى فيه بقية سجنه صابراً محتسباً، يحضر الدروس عند شيخه أبي الطاهر محمد نعسان الشمّاع، ويحافظ على الطاعة والأذكار إلى أن يسّر الله له الخروج من السجن في 22-9-2011 .

كان خروجه مع بداية نشوب حرب الثورة السورية فنفر في طليعة جيش المسلمين لحرب الظالمين مع كتائب جبهة النصرة .
 
 وظل حلم الشهادة يلوح لأبي البراء إلى أن وهبه الله إيَّاها في معارك العزة والكرامة والتصدِّي للظالمين في شهر ذي القعدة من عام 1433ه, وقد بذل دمه ليكون شعلة للأجيال من بعده , ورحل إلى ربه ليشكو إليه ظلم الظالمين , راغباً بما اعده له من النعيم .
أسال الله أن يتقبله شهيداً، وأن يرزقنا شفاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون .
 
أخوكم
أبو خليل السوري

6 ذو الحجة 1433هـ