رحلتي مع الشيخ العثيمين بدأت من
وقت مبكر، في أواخر المرحلة المتوسطة وقعت بين يدي رسالة صغيرة له فقرأتها وأعجبت
بها ولم أكن أعرفه من قبل، وكانت بلادنا (سيما غزة) بعيدة عن العلم والكتب مطحونة
في الصراع مع اليهود وذلك في أواسط عشر التسعين من القرن الماضي، وكان عمومتي رضي
الله عنهم قد ارتحلوا تباعا إلى نجد من وقت مبكر، ولم يبق إلا الوالد رحمه الله في
غزة مع والده ووالدته، وكان أعمامي يزوروننا من وقت لآخر، فكلمت أحدهم وسألته أن
يجلب معه ما يجده من كتب الشيخ العثيمين، فجاء ب"مجموع الرسائل
والفتاوى" التي تولى جمعها الشيخ فهد السليمان (وهو أفضل من جمع تراث الشيخ)،
وانتهت في ذاك الوقت إلى خمسة عشر مجلدا (واليوم زادت على الثلاثين).
بطل "ألف ليلة وليلة" و
"سين وجيم" و"مسابقات وثقافات" اليوم على موعد مع شيء آخر لم
يعهده من قبل، استعنت بالله وشرعت في القراءة حتى قرأت غالب الفتاوى في ذاك الوقت
سوى المجلدات الفقهية الأخيرة، وأتيت على كل الرسائل العقدية بما فيها "تقريب
التدمرية" و"تلخيص الحموية"، ولا أزعم أني فهمت كل ما قرأت، لكني
فهمت بحمد الله أكثره، وكُسر الحاجز بيني وبين التراث.
وما كان عندي في ذاك الوقت أحد
أسأله عما يشكل علي، ثم يسر الله ذلك بعدُ، وكنت أقرأ وألخص وأنتخب على ظهور
المجلدات.
هذه بدايتي مع العثيمين، بل هذه
بدايتي مع العلم والقراءة والحياة.
صرت بعد ذلك أتتبع كتب الشيخ بواسطة
الأعمام الكرام، حتى يسر الله أول سفر للعمرة في أوائل الألفية الثالثة، وكان
الشيخ قد لحق بربه وكنت أتمنى رؤيته، فاشتريت وقرأت كل ما وقع تحت يدي من كتبه
رحمه الله.
وأنا بعد هذه السنين أعتقد أن الذي
حببني في الشيخ وكتبه: سهولتها ويسرها، فالشيخ رزق العلم وأُعين على تيسيره
للطالبين، فكنت وأنا أقرأ كتبه كأنه يخاطبني وكأني أجلس بين يديه.
ومن عجائب ما وقع لي في تلك الفترة
وكنت أقرأ في "الشرح الممتع" أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في
المنام، وكان في خيمة فدخلت وسلمت عليه بأبي هو وأمي فسألني: هل قرأت "الشرح
الممتع"؟ فقلت أقرأ فيه يا رسول الله، فقال: قرأتَ المجلد الأول منه (شرح
كتاب الطهارة)؟ فقلت: نعم يا رسول الله، سألني عن ذلك مرتين، فرأيت السرور في وجهه
عليه الصلاة والسلام.
وحين استقلت المكتبة ورتبت الكتب
فيها جعلت "مجموع الفتاوى والرسائل" مع بقية كتب الشيخ رحمه الله في
خزانة فوق رأسي أقربَ شيء إليَّ حبا ووفاء، فهي الكتب التي حببت إليَّ العلم،
وبصرتني السبيل من أول أمري، وقد حفظها الله عليَّ بعد ضياع نصف مكتبتي في هذه
الحرب، فانتهى الهدم إليها وبقيت صامدة شامخة ولله الحمد.
قد تقولون: وما صلة هذا الحديث
باليوميات والمشاهدات؟ وأصدقكم القول بأني حين شرعت في كتابة هذه المقالة كنت نويت
جعلها الثانية في سلسلة (من مقروءاتي في الحرب)، وكان الحديث عن كتاب قرأته في
ترجمة الشيخ، فهيجتني الذكريات، وطالت المقدمة علي، وتفلت الكلام مني، فتوسلت بخبر
وقوف الهدم عند خزانة كتبه رحمه الله لأجعل هذا الذي تقرؤونه ضمن المشاهدات،
والحبيب يتعلق بأي شيء يصله بحبيبه.
رحم الله الشيخ العثيمين ورضي عنه
وبارك في علمه وجمعنا به في جنته ودار كرامته. اللهم آمين.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول