حدث في الثاني عشر من رمضان

محمد زاهد أبو غدة

 في ليلة الثالث عشر من رمضان من سنة 886، نزلت صاعقة على هلال المئذنة في المسجد الشريف النبوي فأحرقته بأسره وما فيه من خزائن وكتب، ولم يبق سوى الجدران، واحترقت فيه جماعة من أهل الفضل والخير؛ وكان أمراً مهولاً. وفي ما يلي ما ذكره عن هذا الحريق أبو الحسن علي بن عبد الله السمهودي مؤرخ المدينة المنورة ومفتيها المتوفى سنة 911 عن 67 سنة، وذلك في كتابه خلاصة الوفا وهو مختصر كتابه الوفا بأخبار دار المصطفى:
قام رئيس المؤذنين شمس الدين بن الخطيب يهلل بالمنارة الشرقية اليمانية المعروفة بالرئيسية مع بقية المؤذنين، وقد تراكم الغيم وحصل رعدٌ قاصفٌ، فسقطت صاعقة أصاب بعضُها هلالَ المنارة الرئيسية، فسقط شرقيّ المسجد له لهب كالنار، وانشق رأس المنارة، وتوفى الرئيس لحينه صعقاً، وأصاب ما نزل من الصاعقة سقف المسجد الأعلى عند المنارة المذكورة، فعلقت النار فيه وفي السقف الأسفل، ففُتحت أبواب المسجد ونودي بأن الحريق في المسجد، فاجتمع أمير المدينة قسيطل بن زهير الجمازي وأهل المدينة بالمسجد كلهم، وصعد أهل النجدة بالمياه لإطفاء النار وقد التهبت آخذة في الشمال والمغرب، فعجزوا عن إطفائها، وكادت تدركهم فهربوا ونزلوا بما كان معهم من الحبال، لاستقاء الماء إلى شمالي المسجد، وسقط بعضهم فهلك، ولجأ بعضهم مع من حالت النار بينه وبين الأبواب إلى صحن المسجد.
ومات في هذا الحريق زيادة على عشرة أنفس، وعظمت النار جداً، واستولت على سائر سقف المسجد وما فيه من خزائن الكتب والربعات والمصاحف، غير ما بادروا بإخراجه، وصار المسجد كبحرٍ لُجيٍّ من نار ترمي بشرر كالقصر، ويسقط شررها على بيوت الجيران فلا يؤذيها، وهرب كثيرٌ من جيران الحرم لما رأوا تساقط الشرر، وخرج بعضهم من باب المدينة لعظم ما شاهدوه من الهول وظنوا أنهم أحيط بهم، ولم أشهد ذلك لأني سافرت إلى مكة للاعتمار مستهل رمضان المذكور، وتركت كتبي بخلوة كنت أقيم بها بمؤخر المسجد، فاحترقت وقد عوضها الله عز وجل مع ما منّ به من السلامة وبرد الرضا.
ثم لما أصبحوا بدأوا بطفء ما سقط على القبة اللطيفة التي جعلت بدلا عن سقف الحجرة الشريفة، وكان الذي سقط عليها حريقُ القبة الزرقاء الظاهرة بالسقف الأعلى ورصاصُها وسقفُ المسجد الأسفل الذي كان بين القبتين والشباكُ الذي بأعلى الحائز المتقدّم ذكره، ولم يصل إلى جوف الحجرة الشريفة شيءٌ من هَدْمِ هذا الحريق، نحمد الله تعالى لسلامة القبة السفلى المذكورة وعدم تأثير النار فيها مع ما سقط عليها مما هو كأمثال الجبال، مع إن بعضها من الحجر الأبيض الذي يسرع تأثره بالنار، وقد أثرت هذه النار في أحجار الأساطين، وهي من الرخام الأسود، حتى تهشم بعضها وتفتت، وعدّة ما سقط منها مئة وبضع وعشرون أسطوانة.
ومَنَّ الله تعالى أيضا بسلامة الأساطين الملاصقة للحجرة الشريفة، واحترق المنبر وصندوق المصلى الشريف وما يعلوه من الأخشاب، والمقصورة التي كانت حول الحجرة الشريفة، وسقطت أكثر عقود المسجد التي تلي صحنه، وعلو المنارة الرئيسية.
ثم كتبوا لسلطان زماننا الأشرف قايتباي بذلك، ونظفوا مقدّم المسجد، ونقلوا هدمه إلى مؤخره، وعمل في ذلك أمير المدينة وقضاتها وعامة أهلها، حتى النساء والصبيان، تقرباً إلى الله تعالى، وفي ذلك كله عبرة تامة وموعظة عامة أبرَزَها الله تعالى للإنذار، فخص بها حضرة النذير صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أن أعمال أمته تعرض عليه، فلما ساءت منا الأعمال المعروضة، ناسب ذلك الإنذار بإظهار عنوان النار المجازى بها في موضع عرضها وأنا في وَجلٍ مما يَعقِبُ ذلك حيث لم يحصل الاتعاظ والانزجار، قال تعالى في سورة الإسراء: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلا تَخْوِيفا﴾، وقال تعالى في سورة الزمر: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُون﴾، ومن العجيب إنه لم يتأت إخراج ردم هذا الحريق من مؤخر المسجد حتى حضر الحجاج من سائر الآفاق فشاهدوا هذه العبرة العظيمة ورأوا ما أجتمع من آثارها كالآرام والتلول الجسيمة.
 
ولما اتصل علم حريق المسجد إلى مصر المحروسة وسلطانها الأشرف، عَظُم عليه ذلك، ورأى أن في تأهيل الله له لعمارته مزيد التشريف وكمال التعريف، فاستقبل أمر العمارة بهمة تعلو الهمم العلية، ورسم بتوجيه سُنقر الجمالي صحبة الحاج الأوّل بزيادة على مئة من أرباب الصنائع، وكثير من الحمير والجمال، ومبلغ عشرين ألف دينار، وشرع السلطان في تجهيز الآلات والمؤن حتى كثرت في الطور وينبع والمدينة الشريفة، ثم جهز متولي العمارة السابقة الشمس بن الزمن أثناء ربيع الأوّل في ركب صحبته أكثر من مئتي جمل ومئة حمار، وأزيد من ثلاثمئة صانع، وصارت أحمال المؤن متواصلة قل أن تنقطع براً وبحراً، وقطعوا من أخشاب الدوم والشجر من جهات المدينة شيئاً كثيراً، واستقبلوا أمر العمارة بجدّ واجتهاد.
 
 وشرع السلطان أيده الله وسدّده في تعويض ما فات من المصاحف والربعات والكتب وبعث بطائفة من ذلك على يدي، وكملت سُقُف المسجد كلها أواخر شهر رمضان عام 888، وتمت عمارته عقب ذلك.
 
وفي عام 889 بعث السلطان قايتباي جماعة من الدهّانين لمحو ما بلغه من تساهل متولي العمارة في استعمال النِيلة في بعض السقف وإبداله باللازورد، وجهز معهم أساقيل لذلك فنصبوه وأصلحوه، وتغير خاطره على متولي العمارة بسبب ذلك وغيره، وأرسل كتباً كثيرة في العلوم جعلت وقفا بالمدرسة الأشرفية، وأمر بعمل سماط في المدينة المنورة، وقرر لكل نفر في الشهر سبع أُردُب مصري، وسوّى في ذلك بين الصغير والكبير والحرّ والرقيق فيعطي كل شخص على عدد عياله ما ذكر، وجعل للآفاقيين لكل نفر رغيفين وما يكفيه من طعام.
 
وأخبرني بعض المباشرين لهذه العمارة قبل تمامها أنّ المصروف فيها حينئذ يزيد على مئة وعشرين ألف دينار، ثم بعد تمامها بلغ السلطان ميل المنارة الرئيسية، فانتخب الأمير شاهين الجمالي - أخا سُنقر - وفوّض إليه مشيخة الخدام ونظر المسجد والسماط، فقدم المدينة الشريفة موسم عام 891 وأحسن النظر في ذلك كله، ولما هدم المنارة ظهر أن الخلل كان لعدم المبالغة في حفر أساسها، فحفره إلى الماء وأتخذ لها أحجارا سودا متقنة، وأحكم بناءها مع السحن الفائق ومزيد الارتفاع.
 
والسلطان الأشرف قايتباي من سلاطين المماليك الكبار، وكانت مدته حافلة بالعظائم والحروب، وسيرته من أطول السير، ولد سنة 815 وتولى السلطنة سنة 872، وفي أيامه تعرضت الدولة لأخطار خارجية أشدها محاولة العثمانيين احتلال حلب وما حولها، فأنفق أموالا جسيمة على الجيوش لقتالهم، يقال إنه أنفق زهاء سبعة ملايين وخمسمئة وستين ألف دينار، عدا ما كان ينفقه على الامراء والجند عند عودتهم من جبهات القتال.
 
وكان قايتباي متقشفا، له اشتغال بالعلم، كثير المطالعة، فيه نزعة صوفية، شجاعاً عارفاً بأنواع الفروسية، مهيباً عاقلاً، حكيماً إذا غضب لم يلبث أن تزول حدته، وله كثير من آثار العمران في مصر والحجاز والشام ولا يزال بعضها إلى الآن، وحج في سنة 884، ولكن اهتمامه بالحرمين وعمارتهما كان من أول توليه السلطنة، ففي سنة 874 بنى مسجد الخيف في منى بناء عظيماً محكماً، وأنشأ صهريجاً كبيراً في صحن المسجد يمتلىء من المطر، وجدد العلمين الموضوعين لحد عرفة، والعلمين الموضوعين لحد الحرم، وفي سنة 879 جدد عين عرفات، وابتدأ العمل فيها من سفح جبل الرحمة إلى وادي نعمان، فوجد الماء بكثرة، فاقتصر على ذلك ولم يصل إلى أم العين، وكانت قد انقطعت منذ مئة وخمسين عاماً، فكان الحجاج يقاسون في يوم عرفة من قلة الماء ما لا صبر عليه، ثم أصلح البرك وملأها بالماء، ثم أصلح عين خليص وأجراها وأصلح بركتها وبنى قبتها.
 
وفي سنة 882 بنى في مكة المكرمة بجوار الحرم الشريف مدرسة ليدرس فيها على المذاهب الأربعة، بناها بالرخام الملون، والسقف المذهب، وقرر فيها أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، وأربعين طالباً، وأرسل خزانة كتب وقفها على طلبة العلم، وعمل مدرسة للأيتام، وجعل لكل معلم أربعين صبياً من الأيتام، ورباطاً يسكنه الفقراء، ورتب لكل واحد من الأيتام وأهل الخلاوي ما يكفيهم من القمح كل سنة، ووقف عليهم بمصر قرى وضياعاً كثيرة تحمل غلالها كل عام إلى أهالي مكة. واستغرقت هذه الأعمال سنتين.
 
وسُنقر الجمالي الذي ورد ذكره أولاً والذي قام على البناء، أمير من أمراء المماليك أتي به أسيراً من بلاد الروم وهو فتى، وترقى حتى أصبح مسؤولاً عن أعمال التعمير السلطانية التي قام بها الملك قايتباي بمكة والمدينة، ثم أضيفت له الحسبة بمكة وغيرها، وكان ذا عقل وأدب وتودد ومداراة، وأعجب به أعيان مكة لتميزه على غيره من الأمراء المماليك، واشترى بمكة وبمنى الأملاك، وأنشأ بستاناً بأسفل حراء وتربة المعلاة، وتوفي في سنة 902 عن 77 عاماً

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين