حتى يخرج الفقه من عزلته عن الحياة

حتى يخرج الفقه من عزلته عن الحياة ([1])

لا نُعلن مفاجأة غريبة على الأسماع إذا قلنا: إن الفقه الإسلامي قد أدى وظيفته في الماضي الأول خير أداء، وأثبت قدرته بأقوى إثبات على مواجهة الحياة البشريَّة في تطوُّرها وتوسُّعها واحتياجاتها ومُستجدّاتها وتعقُّدها ومُشكلاتها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في جميع المجتمعات التي غطَّاها الإسلام بسلطانه.

هذه حقيقةٌ واقعةٌ ثابتةٌ في تاريخنا لا تحتاج إلى إثبات. وإنَّ شواهدها ناطقة صَارخة في تلك المكتبة الفقهيَّة التي خلَّفها أسلافنا الأوَّلون في مختلف المذاهب وملأت خزائن الأمم في المشارق والمغارب إلى يومنا هذا بالمخطوط منها والمطبوع، ولم يعرف في تاريخ البشر حتى الآن أمة لها من الميراث في علم الحقوق وفقهه، ومن أساطين الفقهاء أئمةً وأتباعًا مؤصِّلين ومؤلِّفين، ما يبلغ مُدَّ ما لنا نحن من هذا الرصيد المجيد أو نصيفه.

ولذا، لن أفيض في عرض هذه المرحلة الزاهرة من تاريخنا الفقهي، وإنَّما أُشير إليها هنا إشارة عابرة إلى معلوم ثابت، بدءًا من عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فإنَّ عهدهم هو بداية تطوُّر الفقه الإسلامي وتضخُّمه وتوسُّعه المستمر.

فمن المعلوم أنَّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعتمدون عليه في فهم الشريعة، ويسألونه عن كلِّ شيء. وإذا اضْطروا للاجتهاد في غيابهم عنه يرجعون إليه فيقرهم أو يُصحِّح لهم. لكن بانتقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى انتقل الصحابة فجأة من طور الاعتماد إلى طور الاجتهاد، لزوال ذلك المرجع، وحلول مخلفاته الدستورية ـ القرآن والسُّنَّة النبوية ـ محل بياناته الشفهيَّة، فأصبح اجتهاد الصحابة، بدءًا من عهد الراشدين، ضرورة حتمية لا مَنَاص منها ولا حدود ولا أمدَ لها تجاه طوارئ الأحداث، حين انْسَابَ المسلمون دعاةً وفاتحين في ملك الأكاسرة والقياصرة ذوي الحضارات العريقة في مصر وفارس والشام، ثم في شمال أفريقية.

وفي هذه الطرق المُتَشعِّبة من خطوط السَّيْر، وفي مواجهة الحياة والحضارات والوقائع والمشكلات المعروفة بالحلول الفقهيَّة النابعة من مَنْبعها الثر الفيَّاض الذي لا يَنْضب، قام صَرْح الفقه الإسلامي على أيدي الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وتعاظم وَرَسخ وشَمَخ، كما سالت ينابيعه على كلِّ أرض مُتعطِّشة للعدل والحق والإنصاف، فارتوت منه بالعذب النَّمير، حتى اهتزت وَرَبَت وأنبتت من ثمرات الفكر الفقهي كل زوج بهيج.

وهذه مرحلة نموِّ الفقه واتِّساعه، وعهد ازدهاره وإثماره واستثماره.

وفي خلال القرون الأربعة الأولى نشأت المذاهب الفقهيَّة المتكاملة. على أيدي أئمتها. وأتباع مدارسهم، وتمَّ تدوين ما دُوِّن منها في جميع الأبواب وأنواع العلاقات وفروعها، من العبادات ونظام الأسرة، إلى المعاملات والجنايات، وشؤون الإدارة؛ أي: العلاقة الحقوقيَّة الداخلية بين الحاكم والمحكوم، والعلاقات الخارجيَّة بين الدولة الإسلامية وسائر الأمم والدول الأخرى في أحكام السِّلم والمعاهدات، وأحكام الحرب والغنائم.

ومن هذا الفقه في ظلِّ الكتاب والسُّنَّة والأصول والقواعد المستفادة من دلالاتهما، كان لكلِّ عقدة حل، ولكلِّ فراغ ملء، ولكلِّ مشكلة عارضة علاج حاسم. والشواهد الناطقة بما وصفنا كثيرة:

ففي قضية قتال مانعي الزكاة في عهد أبي بكر، وقضية أراضي سَوَاد العراق ومصر، ومشكلة المسألة المشتركة في عهد عمر، وقضية اختلاف المصاحف والقراءات في عهد عثمان، وقضية ضمان الصناع والأجراء العاملين ما تحت أيديهم من أموال الناس إذا هلكت لديهم، وقضية تدوين السُّنَّة النبوية (مع نهي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك) في عهد عمر بن عبد العزيز، وقضية قتل الرهائن من الروم لما نقض قومهم العهد وفتوى الإمام الأوزاعي بعدم جواز قتلهم، وقضية عدم وقوع الطلاق المعلّق على نقض البيعة إذا أخذ بالإكراه، حين أفتى وأعلن بذلك الإمام مالك وتعرَّض به للمهالك ـ أقول: في هذه الأمثلة التي نلتقطها عرضًا، وفي كثير غيرها مما لا يُحصى، نماذج ناطقة بما كان للفقه في هذه المرحلة من دور أداه بكل قوة وكفاية.

ولم تَنْته هذه القرون الأربعة الأولى حتى كانت المذاهب الفقهيَّة قد توزَّعت الأقطار الإسلامية، وسَادَ كلٌّ منها في قطر أو أكثر.

*صدمة لحركة الاجتهاد*

أما القرون الأربعة التالية فقد استهلَّت بحادث كان عظيم الخطورة في حياة الفقه المستقبلة، حيث أعلن فئة من فقهاء المذاهب إغلاق باب الاجتهاد بعد القرن الرابع، اكتفاءً بما تَّم تحقيقه وتقريره وتدوينُه من أحكام العلاقات والوقائع في تلك المذاهب، وخوفًا على الشرع وفقهه من تلاعب الأدعياء وأهل الأهواء، ومن تجار العلم الذين يبيعون ضمائرهم وذممهم من الحكام ليتقرَّبوا إليهم بما يُرضيهم، عندما ظهر فساد الزمان، وضعف الوازع الديني، وغَلَبت الأطماع على التقوى.

كان ـ ولا شك ـ هذا الإعلان صدمةً عنيفةً لحركة الاجتهاد أصبح بعدها أشل، رغم ما كان وراء دوافعها من حُسْن النيَّة، والغيرة الدينيَّة، وكانت هذه الصدمة لحركة الاجتهاد مُمهِّدة لبداية عهد الانحدار الفقهي.

لكن استمرَّت في هذه القرون الأربعة التالية حركة فقهية عظيمة النتاج بين رجال المذاهب في التأليف والتصنيف، والتخريج والتفريع، والتَّصحيح والترجيح، وأثرت بها المكتبة الفقهية في العالم الإسلامي أجمع أيما إثراء، وأتت من ثمار النقاش الفقهي في الاستدلال والتعليل والترجيح أدقّ الأنظار والآراء.

على أنَّه في أواخر هذه المرحلة الزمنيَّة بَرَزت شخصيَّات عبقريَّة استثنائيَّة بفكر اجتهادي وإصلاحي وكفاية مدهشة، كان من ألمعها وأوسعها أفقًا في المشرق شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وفي المغرب أبو إسحاق الشاطبي صاحب كتابَيْ «الموافقات»، و«الاعتصام».

ثم في القرون الخمسة التوالي بعد القرن الثامن، آل الفقه في جميع أنحاء العالم الإسلامي والمذاهب إلى الجمود، وفقد حركيَّته وفعاليَّته حتى أصبح كالعملاق المخدّر، وحتى أصبحت تُهمة «الاجتهاد» التي يُرمى بها من يبحث من المتفقِّهين النابهين عن أدلة الأحكام الفقهية كافية للحكم بالإعدام على مَنْ يُرْمى بها في أواخر العهد العثماني.

ونتيجةً لهذا الجمود في الفقه، ظهر عجزه أو عجز علمائه في العصر الحديث عن تقديم النظم والحلول الفقهيَّة القائمة على أصول الشريعة الإسلاميَّة، والتي تفي بحاجات التطور المذهل في وسائل الحياة، وفي الأوضاع الاجتماعيَّة الجديدة، فلجأ الحكام والمسؤولون المدهوشون بمفاجآت الحضارة الغربية إلى استيراد النظم والقوانين الأجنبيَّة لتسيير سفينة الحياة العصريَّة المتطوِّرة، وتنظيم العلائق والمعاملات والإدارة والصلات المتشابكة بين الشرق والغرب، ولا سيما في الشؤون التجارية والمصرفية، بل وفي نظام العقوبات الذي هو داخلي محض أيضًا. ثم في شؤون وقضايا العلاقات بين العمال وأرباب العمل عندما قامت في البلاد معامل حديثة، وانبعثت في العالم بتأثير بعض المذاهب والتيارات الاجتماعية، مشكلة العمال وأرباب العمل، وأثارت صراعًا طبقيًا. وأحوجت إلى تنظيم خاص.

*لماذا العزلة عن الحياة؟*

هذا، ومن الناحية العملية والتطبيق في العصر الحاضر يمكن القول ـ مع الأسف والأسى ـ أن الفقه الإسلامي أصبح معزولًا عن الحياة العمليَّة في البلاد الإسلامية، جلّها، إن لم نقل كلها، حتى البلاد العربية منها، وذلك فيما سوى أحكام العبادات، وأحكام الأحوال الشخصية (نظام الأسرة)، وحل محله قوانين مدنيَّة وضعيَّة مُسْتَوْرَدة، وقوانين تجارة، وقوانين عقوبات، وقوانين فرعيَّة خاصة ببعض شؤون معينة؛ كالقوانين العقارية، وقوانين العمل والعلاقات الزراعية وسواها.

ومن أهم أسباب هذا العزل للفقه عن جادة الحياة العملية في البلاد الإسلامية، وحلول القوانين الوضعية والمستوردة محله: قلّة المشتغلين بالفقه، وضَعْف مستواهم العلمي والفكري غالبًا، فكانوا غير قادرين على مواجهة مُتطلبات الاجتهاد، وحل مشكلات العصور على أسس إسلامية فقهية سليمة.

على أنَّه من نعمة الله في القرن الحاضر في البلاد العربية والإسلاميَّة، بعد طغيان الغزو الفكري والمد الأجنبي، وظهور أهدافه الخبيثة، قد تحرَّكت عوامل ودوافع حافزة إلى تحقيق الذات الإسلاميَّة، والبحث عن الأصالة في التراث الفقهي العظيم، ولا سيما بعد أن ظهرت في تقنينات نظام الأسرة في البلاد العربية مزايا المذاهب الفقهيَّة المختلفة التي استمدَّت منها تلك التَّقْنينات أحكامها الإصلاحيَّة، حين كان واضعو تلك الأنظمة لا يجدون حلًّا وعلاجًا لبعض مشكلات الأسرة في بعض المذاهب، ويجدونه في مذهب آخر فيقتبسونه، كما حَصَل في مشكلة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وتعليق الطلاق الذي في معنى اليمين للحثّ أو المنع، وجَعْل الطلاق رجعيًا كله إلا ما استثناه النظام، والتطليق القضائي بطلب المرأة في حالات معينة دفعًا عنها لظلم لا يُقرُّه الشرع، إلى غير ذلك من الأحكام الإصلاحيَّة في نظام الأسرة مما كان طريقه مَسْدودًا في بعض المذاهب. ومفتوحًا في غيرها.

وكذلك كان من الدوافع في العصر الحاضر للمناداة بالرجوع إلى التراث الفقهي ما تمَّ من دراسات شرعيَّة حديثة في نُظم التعليم الجامعي، وما أظهرته هذه الدراسات من سَعَة وأصالة في فقهنا الإسلامي، ومن قابليات لا حدود لها.

وكذا ما جَاء في بحوث وقرارات وتوصيات المؤتمرات الحقوقيَّة التي عقدت في أواسط القرن الحاضر على مستوى عالمي، من إشادة بمكانة الفقه الإسلامي في عالم الحقوق، ومن قابلية كبيرة فيه لإمداد النظم العالمية بأفضل القواعد والحلول القانونية العادلة، وأدق الآراء الفقهية. من هذه المؤتمرات مؤتمر القانون المقارن الذي عُقد في مدينة (لاهاي) عام (1948م)، وأسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد في باريس عام (1951م)، ثم في دمشق (1961م) وكان كاتب هذه السطور من المشتركين في هذين الأخيرين.

إن مستقبل الفقه الإسلامي العظيم اليتيم المضيَّع بين أهله هو رهن بتطبيقه فعلًا في معاملات الناس، والقضاء به بينهم.

وهذا التطبيق المنشود للفقه الإسلامي، باتِّخاذه قواعد وأحكامًا للعمل، ومرجعًا للبحث، ونظامًا للقضاء، في هذا العصر الذي حدث فيه من مذهلات الحضارة ما جعل له سمات تميزه كل التمييز عن العصور الماضية، أقول: إنَّ هذا التطبيق المنشود للفقه الإسلامي يتوقَّف على تحقيق إنجازات ثلاثة لا بد منها، ولا أمل دونها في أن تنجح الدعوة إلى تطبيقه بين أهله عمليًا وقضائيًا. وتلك الإنجازات الثلاثة المطلوبة هي:

الموسوعة الفقهية.

تقنين الفقه الإسلامي، والتقنين منه.

المجمع الفقهي.

موسوعة الفقه الإسلامي

وهي الموسوعة المأمولة التي بَرَزت فكرتها منذ ربع قرن، يعرض فيها تراثنا الفقهي في مختلف مذاهبه بأسلوب مُوطّأ لتسهيل فهمه وتذوُّقه على غير الفقهاء المختصِّين من رجال العصر وعلماء القانون، وتُرتَّب فيها أحكامه ترتيبًا هجائيًا بحسب عناوينها الاصطلاحية، ليستطيع كل راغب وباحث أن يراجع فيها أي موضوع وحكم فقهي، كما يراجع عن معنى كلمة لغوية في معجمات اللغة.

ومعلوم أنَّ هذه الموسوعة قد بُدئ بالعمل في مشروعها في دمشق، ثم في مصر، ثم في الكويت، واعتراها جَزْر ومد بتأثير الأحداث، ويجب دعم مشروعها حيث كان، وأن تتضافر الجهود لإمداده بالتغذية التي تُعطيه القوة والسرعة في طريق سليم، وأسلوب محكم قويم. وإن وجود هذه الموسوعة الفقهية ضروري لتحقيق الإنجاز الثاني التالي.

تقنين الفقه الإسلامي، والتقنين منه

ويتحقَّق ذلك بأن تجمع في كل دولة من بلاد الإسلام مجموعة من الأحكام الفقهيَّة في القضايا والمسائل التعامليَّة التي تدخل تحت القضاء، تختار من بين المذاهب الفقهيَّة المعتبرة أو من أحدها فقط (لمن يشاؤون الاقتصار على مذهب واحد) مرتَّبة بصورة مواد ذات أرقام متسلسلة مُتَتَابعة في جميع الأبواب والفصول (على غرار مجلة الأحكام العدلية التي صدرت في عهد الدولة العثمانية من المذهب الحنفي سنة (1293هـ) بإرادة سلطانية جعلتها بمثابة قانون مدني عام ألزمت محاكم الدولة بوجوب تطبيقها في كل ما ليس عليه نص في قانون خاص) وتقْتصر في كل مسألة على حكم واحد يلزم به القاضي إذا كان في مصدر المسألة آراء مُتعدِّدة مختلفة بين المذاهب، أو كان فيها أقوال مختلفة في المذهب الواحد المأخوذة منه، فيختار للتطبيق القضائي ما هو الأصلح من تلك الآراء والأقوال بحسب قوة الدليل الشرعي، ويسر التطبيق، والقُرب من مقاصد الشريعة وعدالتها، فيكون القاضي والمتقاضي في كلِّ مسألة أمام حكم فقهيٍّ واحد واضح النص واجب التطبيق. وينحصر اجتهاد القاضي عندئذٍ في فهم هذا النص.

ذلك لأنَّ من بديهيات قواعد النظام اليوم في العالم أنَّ المواطن المكلف؛ أي: الفرد في الدولة، له الحق كل الحق أن يعرف مُسْبقًا حكم النظام الذي يَسْري عليه في الأفعال والتصرُّفات والعقود وسائر الحوادث التي يمكن أن تقع منه أو عليه، لكي يعرف كيف يطيع النظام، ويعرف ما هي تبعاته إذا عصاه؟

ومردُّ ذلك إلى مبدأ هو من بديهيَّات أصول الشرائع الإلهيَّة المصدر أو الوضعيَّة على حدٍّ سواء، هو مبدأ (علنيَّة النظام). فكلِّ نظام يُراد تطبيقه على المكلَّفين يجب أن يكون مُعْلَنًا إليهم بجميع قواعده وأحكامه قبل سريانه عليهم وَنَفاذه فيهم؛ لأن علم المكلَّف بالنظام الذي تطلب منه طاعته شرطٌ لصحة التكليف، وإن تكليفه بطاعة نظام غير مُعلن، بل هو في ضمير الحاكم، هو تكليفٌ بما لا يُطاق، وهو ممتنع شرعًا وعقلًا.

وعلنيَّة النظام هي طريق علم المكلَّف به، فيمكن بعدها القضاء عليه بمقتضاه، سواء أعلم به بعد ذلك أو جهله؛ لأنه بالإعلان أصبح قادرًا على معرفة أحكامه جملةً وتفصيلًا، إما بنفسه أو بالسؤال من أهل العلم. ومن ثمَّ قامت في عالم التشريع القاعدة الشهيرة: أن الجهل بالقانون ليس عذرًا للمكلف يمنع تطبيقه عليه؛ لأنه بعد كونه معلنًا للجمهور يعتبر عدم اطلاع بعض المكلفين عليه تقصيرًا منهم، فلا يبقى جهلهم عذرًا لهم. فالمهم أن لا يُفاجأ المكلف بمسؤولية بمقتضى نظام لم يعرفه، ولم يكن له سبيل إلى معرفته؛ لأنه غير معلن.

وقد كانت العلنية في الشرائع قديمًا تُحقَّق بالوسائل الممْكنة إذ ذاك؛ كالنقش على النصب (المسلات)، أو على ألواح من الخزف تُعرض في الأماكن العامة، أو إرسال مُنادين ينادون ويُعلنون للناس ما يصدر عن الحكام أصحاب السلطة من أوامر ونواهٍ وترتيبات إلزامية.

واليوم تتحقَّق العلنيَّة بالنشر في جريدةٍ رسميَّةٍ تُصدرها الدولة، وتُعتبر مسؤولة عن كل حرف ينشر فيها.

ومن ثمَّ أيضًا كان من المُقرَّر في النظم القضائيَّة، مهما تعدَّدت المحاكم في الدولة الواحدة؛ أن لا تتعدَّد محكمة التمييز (محكمة النقض والإبرام)، بل يجب أن تكون واحدة ليكون الاجتهاد القضائي الملزم واحدًا كوحدة النص أمام المكلَّف، حتى يستطيع أن يعرف مُسْبقًا ما سَيُطبَّق على أعماله وتصرفاته.

وهذا لا ينافي إمكان تبدُّل اجتهاد محكمة التمييز، فإن حالة التبدُّل تقبل بصورة استثنائية للضرورة، ثم نبقى أمام اجتهاد واحد في تفسير النص الواحد أو القياس عليه أو ما لا نص فيه من الحوادث، إذ يحل الرأي الاجتهادي الجديد محل القديم، ولا نكون بصورة دائمة في دوَّامة أمام آراء اجتهاديَّة مُتعدِّدة يتخيَّر القاضي بينها، فلا يعرف المكلف مصيره فيها.

رأي في اجتهاد القاضي

وفي صدر الإسلام كان القضاة مجتهدين، بحكم الضرورة على خلاف الأصل، إذ لم تكن قد تكوَّنت آراء ومذاهب اجتهاديَّة في فهم نصوص الشريعة في الكتاب والسُّنَّة، وتبلورت ليُمْكن الاختيار من بينها للقضاء، فكان ذلك حالة استثنائية كتبدُّل اجتهاد محكمة التمييز اليوم. تقبل ولا تستمر بصورة دائمة حرصًا على مبدأ علنية النظام.

وإذا كان القضاة في صدر الإسلام مجتهدين فقد كان ذلك حالة لا بدَّ منها ولا محيص عنها قبل أن تستقرَّ قواعد الفقه وأصوله ومذاهبه، إذ كان الصحابة ومن تلقى عنهم من التابعين وتابعيهم متفرِّقين في الأمصار، وعند كلٍّ منهم علم من سُنَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفسيره للقرآن ما ليس عند الآخر، كما قاله مالك رضي الله عنه للمنصور.

أما بعد ذلك وقد استقرَّ الفقه على قواعده ومذاهبه فلا يجوز أن يبقى القاضي حرًا يختار للحكم في كل قضية ما يراه هو حقًا وعدلًا، ولو كان هو من العلم والفقه في رُتبة الاجتهاد. بل يجب تقييده بنصوص مُعلنة للملأ لا يخرج عنها. وينحصر اجتهاده عندئذٍ في فهم النص وتفسيره وفقًا لقواعد الفهم والتفسير في أصول الفقه، كما سلفت الإشارة إليه. حتى أن الرأي الاجتهادي للقاضي في فهم النص الموحَّد يجب أيضًا أن يكون معروفًا مسبقًا للمكلَّفين ما أمكن إلى ذلك من سبيل.

ومن ثم كان اليوم في عالم القانون والنظم القضائية أن رأي محكمة التمييز (محكمة النقض) وحدها في تفسير النص القانوني هو الاجتهاد القضائي الملزم، ليكون الاجتهاد القضائي (كالنص القانوني) رأيًا تفسيريًا واحدًا معروفًا لدى المكلفين.

وأمَّا الظنُّ بأن القاضي يجب شرعًا أن يُتْرَك لاجتهاده يقضي بحسبه، وأنَّه لا يجوز تقييده بقول شرعي واحد يلزم بالقضاء به، فهذا الظن لا سَنَد له من الفقه. ذلك لأنَّ نصوص الفقهاء في كتاب القضاء صريحة بأن القضاء يتخصَّص بالزمان وبالمكان وبنوع القضايا، وبالرأي المذهبي. فلو نُصب قاضٍ ليقضي بالمذهب الشافعي في أصح الأقوال فيه ليس له أن يقضي بسواه ولو خالف مذهبه هو. ذلك لأنَّ القضاء في الأصل شرعًا من حقِّ الإمام الخليفة بعد أن كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته.

وإنَّ للإمام أن يُنيب عنه في القضاء إذا كثُرت الأعباء العامة عليه. فالقاضي شرعًا نائب الإمام؛ أي: وكيله. والوكيل يتقيَّد بما يُقيِّده به الموكل؛ لأن الإرادة الأصليَّة للمَنُوب عنه. فإذا رأى صاحب السلطة الشرعيَّة في النظام اختيار رأي شرعيٍّ معتبر يلزم به الناس نظامًا معلنًا يطيعونه ويطبقونه، ويلزم نائبه القاضي أن يقضي به، فهذا صحيح شرعًا، ومُلزم للقاضي وليس له تجاوزه والقضاء بسواه اجتهادًا منه.

وهذه المشكلة كانت قد بَرَزت، وحصل الانتباه إليها في أوائل العصر العباسي، ورفعها عبد الله بن المقفع إلى الخليفة المنصور في رسالة سماها (رسالة الصحابة) شرح له فيها «أنه في البصرة يقضى بحلِّ الأنكحة والأموال في حادثة، ويقضى في الكوفة بحرمتها، لاختلاف اجتهاد القضاة. وأشار عليه بأن يوحّد ما يقضى به بين الناس، وذلك بأن يأمر بجمع تلك الأقضية وآراء الفقهاء المتعارضة في مجموعة، وترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل فئة من سُنَّة أو قياس، ثم ينظر فيها ويختار في كل قضيَّة ما يُلهمه الله أنه الصَّواب أو الأصوب، فيأمر بالعمل به وينهى عن القضاء بخلافه، فتُصبح تلك الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكمًا واحدًا صوابًا. ويكون اجتماع السير قربة لاجتماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه» [تنظر رسالة الصحابة لابن المقفع في جمهرة رسائل العرب للأستاذ أحمد زكي صفوة (3) الرسالة (26)].

وقد همَّ المنصور أن يختار مذهب الإمام مالك، وكتابه الموطأ، نظامًا قضائيًّا للدولة العباسيَّة، فلم يرضَ مالك رضي الله عنه وقال: «إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختلفوا في الفروع وتفرَّقوا في البلدان، وكل منهم مصيب»؛ أي: له دليل مقبول مُعتبر من الكتاب أو السُّنَّة أو القياس.

ولكلِّ بلد إسلامي أن يُقنِّن في إطار المذهب السائد فيه حيث ائْتلفه أهله وأنسوا به، كما فعلت الدولة العثمانية في تقنين المجلة من المذهب الحنفي. وله أيضًا أن يختار أحكام المجموعة الفقهية القضائية من مختلف المذاهب المعتبرة بحسب ما يراه أكثر ملاءمة لحاجة البلد وتطورها في كل عصر.

فالمهم إنما هو توحيد الحكم القضائي من بين الآراء الفقهية المتعدِّدة بصُورة إلزاميَّة للقضاة والمتقاضين في الدولة الواحدة، وتحقيق علنيَّته بأحسن الوسائل وأوثقها كما تُوجبه أصول التشريع، وذلك للقضاء على فوضى القضاء، وإن كان الأفضل عدم التقيُّد بمذهب واحد؛ لأنَّ في كل مذهب بعض مزايا وحلول أفضل، نتيجة لأنه ليس أحد من أئمة هذه المذاهب وأتباعهم معصومًا ومحتمًا أن يكون عنده الصواب وعند غيره الخطأ، أو أن يكون عنده أحسن الفهوم الاحتماليَّة جميعًا لنصوص القرآن والسُّنَّة النبوية والواقعة المستنبطة منهما. فعند كلٍّ منهم ما هو فاضل ومفضول، وما يضيق عنه مذهب من حاجات الزمن قد يتَّسع لحلِّه مذهب آخر، فالعصبيَّة المذهبية في فقه الشريعة بليَّة وغشاوة حاجبة للرؤية، يجب أن تذهب إلى غير رجعة لكي تظهر في ميدان التطبيق غزارة الشريعة وفقهها، وقدرتهما على تلبية حاجات العصور، بالإضافة إلى مصلحة توحيد الحكم القضائي وعلنيَّته المسبقة. ويبقى الاجتهاد مطلقًا للمفتي المؤهَّل لا للقاضي، وينحصر اجتهاد القاضي بفهم النص المقنَّن فقط تحت رقابة محكمة التمييز توحيدًا للاجتهاد الملزم.

وانطلاقًا بالنظر والرؤية السَّديدة من هذه الزاوية الصحيحة يصبح طريق القضاء سويًا واضحًا أمينًا متمشيًا مع المصلحة الشرعية والعملية.

ومن ثم يتبيَّن لنا أنه إذا صحَّ ما يقوله مؤرخو نشأة المذاهب الفقهيَّة وانتشارها من أن أبا يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة حينما جعله الرشيد رئيسًا للقضاء، وربط به القضاء كان لا ينصب قاضيًا إلا من أتباع مذهب أبي حنيفة، فإن عمله هذا يدلُّ على بصيرة نافذة وإدراك عميق لمصلحة القضاء والمتقاضين؛ لأنه كان الطريق الوحيد لتوحيد الحكم القضائي الواجب عندما لا يكون الفقه مقننًا.

والإمام مالك رضي الله عنه من قبل لو أنه رضي توحيد القضاء في أرجاء الدولة العباسيَّة على مذهبه أو أحكام موطئه لكان ذلك في ذاته عملًا وتدبيرًا سليمًا لا غبار عليه لولا تفرُّق كثير من الصحابة في الأقطار والأمصار، وانسياحهم فيها مُعلِّمين ومُبلِّغين ما عندهم من علم نقلوه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن تفسير لكتاب الله، وكل منهم قد يحفظ ما لم يحفظ الآخر ولم يشهد، كما علل به مالك نفسه عدم رضاه، وهذا التعليل منه رضي الله عنه يشعر بأنه لولا ذلك لرضي.

مجمع الفقه الإسلامي

نريد بمجمع الفقه الإسلامي أن يكون للدراسات والبحوث الفقهيَّة، وتقنين الفقه والتقنين منه، والاجتهاد المطلق في وجه الحوادث والقضايا الاعتقاديَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، مؤسسة علمية تتألف من كبار فقهاء العالم الإسلامي الراسخين ذوي البصيرة الزمنية، على طريقة المجامع اللغوية اليوم، للنهوض بهذه المهمَّات العلمية الإسلامية الواجبة الجسيمة، ولتقرير الحلول والأحكام الفقهية الشرعية فيما يعرض من مشكلات العصر للمجتمع الإسلامي في هذه الميادين.

من أمثلة هذه المشكلات العصرية اليوم:

ـ التيّارات الفكرية، والفِرَق، والمذاهب الاعتقادية، وموقف الإسلام منها، وحكمه في أصحابها وأتباعها: أيعتبرون بها خارجين عن الإسلام أو مجرد منحرفين، أم لا؟

ـ اختلاف إثبات الأَهِلَّة بالرؤية البصريَّة بين بلدان العالم الإسلامي وما ينشأ عنه من اضطراب في الصيام والأعياد وسواها: هل يمكن توحيده لجميع الأقطار بطريقة مقبولة شرعًا، بعد أن أصبحت بلاد العالم ودوله بوسائل الاتصال الحديثة كأنها مدن صغيرة متقاربة في دولة واحدة؟

ـ مواقيتُ الصلاة والصوم في حقِّ سكان المناطق الشمالية من العالم حيث يكاد يتصل آخر الليل بأول النهار، أو يستمر كل منها أضعاف المدة المعتادة في المناطق المعتدلة من الكرة الأرضية.

ـ قضيةُ عمل المرأة اليوم، وحجابها الشرعي، بل وتعليمها وطرقه وموضوعاته، وتوليها وظائف الدولة و و و.... ومستلزماته: ما هو المقبول والمرفوض منه بالنظر الإسلامي؟

ـ قضيةُ معالجة العقم بالتلقيح الصناعي المباشر أو في الأنابيب المخبرية، وهي قضية الساعة التي شغلت الصحف والناس اليوم.

ـ الحاج بالطائرة قادمًا من بلاد بعيدة باردة: ما ميقاته الذي يلزمه فيه الإحرام؟

ـ العقود الجديدة التي دَعَت إليها حاجات اقتصادية وتطوُّرات حيوية؛ كالتأمين بمختلف أنواعه، وشركات المساهمة (المغفلة ـ أنونيم) التي تتداول الحصص فيها بصورة أسهم بيعًا وشراءً، ولا يزال هناك اليوم من يعلن حرمتها وعدم جواز شراء أسهمها.

ـ العمل الوظيفي في المصارف الربويَّة لمن لا يجد عملًا آخر، مما كثر السؤال عنه اليوم: ما حكم الشريعة فيه؟

ـ تنظيم العلاقة في المعامل والشركات بين العمال وأرباب العمل بقانون عمل إسلامي، يُحدِّد الحقوق والواجبات بين الطرفين، ويُقرِّر حدًا أدنى للأجور، وحدًا أعلى لساعات عمل العامل، ويمنع الجوْر والاستغلال من أحد الطرفين على الآخر.

ـ تحديد ملكيَّة الأرض، وطريق اسْتثمارها: هل يقبل شرعًا أو لا، وبأيِّ الحدود أو القيود، وكذا تنظيم العلاقة بقانون بين صاحب الأرض والعامل الزراعي؟

إلى غير ذلك من قضايا يصعب استقصاؤها، نبتت في هذا العصر بعوامل مختلفة وكثيرة، ولم تكن في الماضي تثير أية مشكلة في المجتمعات الإسلامية.

إنَّ موضوع إقامة مجمع للفقه الإسلامي موضوع واسع الجوانب، مُتشعِّب الفروع يحتاج إلى بحث طويل.

وخلاصة القول بشأن المجمع الفقهي: أنه يعتبر اليوم واجبًا كفائيًا على العالم الإسلامي أجمع. ذلك أنه إذا كان الاجتهاد، كما سلفت الإشارة إليه، روح الفقه الإسلامي ومادة حيويَّته الدائمة، فإن المجمع الفقهي هو منفاخ تلك الروح.

ووظيفته الأساسية القيام بمهمَّة اجتهاد الجماعة الذي يجب أن يحل اليوم محل اجتهاد الفرد، إلى جانب وظائف أخرى كثيرة جانبية وفرعية.

وقد كنت قبل أكثر من ربع قرن، في عدد من المؤتمرات الإسلامية، التي شاركت فيها، أنادي بضرورة بعث الاجتهاد في صُورة اجتهاد جماعي ليحل محل الاجتهاد الفردي الذي آتى في العصور الإسلامية الأولى أحسن الثمرات، ولكنه أصبح اليوم خطيرًا غير مأمون المغبَّات لأسباب لا محل لشرحها الآن. كما ناديت بضرورة تكوين مجمع للفقه الإسلامي يقوم بهذه المهمة على غرار المجامع اللغوية والعلمية التي قامت في العصر الحديث، وليس الفقه الإسلامي أقل شأنًا منها.

وهذا المجمع الفقهي المنشود يجبُ أن يكون تكوينه وتمويله شعبيًّا إسلاميًّا؛ ليكون بمنأى عن تأثير السلطات الحاكمة، وأن يختار أعضاؤه بطريقة مأمونة من كبار الفقهاء والخبراء الثقات في علمهم ودينهم وتقواهم. وأن يكون فيه هيئة متفرِّغة، وأعضاء غير متفرغين.

وكنتُ وضعت له مشروع نظام إجمالي لخطوطه العريضة وقدَّمته من نحو عشرين عامًا إلى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الراحل الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله بطلب منه.

واليوم برزت نواته من سطح الأرض برعمة نابتة والحمد لله في مكة المكرمة على يد الرابطة.

والأمل معقودٌ أن يستكمل بإذن الله أجهزته ووسائله وسائر مقوِّماته الأساسية تباعًا واستجماعًا، بمساعي المخلصين من أركان العلم والعمل المقدِّرين لجلال المسؤولية الإسلامية العامة، وأعوانهم في كل مكان، بعيدًا عن العصبيات الإقليمية أو المذهبيّة التي تقضي على كلِّ مشروع إسلامي نافع عام. أو تُفقده ثمراته المأمولة.

هذا، ولا يسعني ختامًا أن أترك القلم في هذا المجال دون أن أشيد بالبادرة الفعليَّة الميمونة التي اتخذتها جامعة الدول العربية في دائرتها القانونية، والتي نؤمل أن تفتح أعظم باب على الفقه الإسلامي يلج منه إلى ساحة التطبيق في البلاد العربية والإسلامية، ألا وهو تقريرها وسَيْرها عمليًا في صياغة مشروع لقانون مدنيّ مُوحَّد للبلاد العربية، مُسْتَمد من الفقه الإسلامي، ووافٍ بالحاجات الزمنيَّة الجديدة، وبالأسلوب العصري الذي يُسهِّل على القانونيين فهمه، ويكون مؤصَّلًا تأصيلًا فقهيًا بمذكَّرة إيضاحية تردُّ كل مادة فيه وحكم إلى مأخذهما من الفقه الإسلامي ومصادره ومراجعه في مختلف المذاهب التي يتكوَّن منها أعظم تراث قانوني عُرف في تاريخ النظام من الحياة البشرية، ليستفاد بذلك من جميع المزايا والنظريات الفقهية النافعة المنتشرة في تلك المذاهب، مما يجعل تلبية الحاجة الزمنية في التقنين مَيْسورة غير عسيرة، ويبعث الحياة من جديد في فقه المذاهب الشرعيَّة، ويجعل منه مرجعًا للقانون وأهله، ومددًا للقضاء ورجاله.

وقد ألفت الدائرة القانونيَّة في جامعة الدول العربية لجنة من الخبراء القانونيين والشرعيين الفقهاء من البلاد العربية لوضع هذا المشروع العظيم للقانون المدني الموحَّد المنشود، وباشرت اللجنة عملها قبل انتقال الجامعة العربية إلى تونس، ثم استأنفته أخيرًا بعد انتقالها، وكاتب هذه الأسطر من جملة أعضائها، كما ألفت لجنة عامة تمثِّل الدول الأعضاء في الجامعة لترفع إليها أعمال لجنة الخبراء تباعًا في دورات مُنتظمة لكل من اللجنتين الخاصَّة والعامَّة. هذه بشرى نزفُّها لمن يهمّهم مستقبل الفقه الإسلامي.

وقد كانت الخطوة الرائدة في هذا المجال للمملكة الأردنيَّة التي فتحت الطريق، حين أصدرت قانونها المدني المُسْتمد من التراث الفقهي، حلَّ محلَّ مجلة الأحكام العدلية فكان لها فضل السَّبْق.

والمأمول بإذن الله تعالى أن تلتقي البلاد العربية قريبًا على المشروع الموحَّد للقانون المدني الذي تُعدُّه الآن الجامعة العربية مشكورة. وبذلك تكون البلاد العربية قد حقَّقت ذاتيتها، وآبت إلى أصالتها القانونية، وقواعدها الخالدة.

 

 



[1] ) مجلة (العربي) الكويتية، العدد (264)، (ذو الحجة 1400هـ نوفمبر 1980م).

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين