جريمة القتل

معروف أنَّ الله تعالى إنما حرَّم الذنوب لضررها لعباده، وكلما كان الذنب أكبر ضررًا للعباد كان أكبر إثمًا وأشدَّ عذابًا، فلو نظر الإنسان فقط إلى أخيه نظرة يخيفه بها كان هذا النظر حرامًا حرمةً، ذكر ربنا جزاءها في قول نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم: (من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه بها بغير حق، أخافه الله يوم القيامة) رواه الطبراني (13: 32)، وأبو الشيخ.

وانظر أنت كيف تكون إخافة القاهر القادر للعبد في ذلك اليوم الرهيب، ولو صدرت منك كلمة يكرهها أخوك كان صدورها منك حرامًا، وقد تظن أنْ لا شيء فيها وعاقبتها من أسوا العواقب عليك.

ولعلك تتعجَّب من قولي هذا وتستعظمه على كلمة لم تتجاوز اللسان!!

إني أزيل تعجبك هذا وأرجوك أن تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقًّا على الله أنْ يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال) رواه الطبراني [وأبو الشيخ في التوبيخ والتنبيه (123)].

وأرجوك كذلك أنَّ تسمع قوله صلى الله عليه وسلم لحرمه الجليلة السيدة عائشة رضي الله عنها :(لقد قلتِ كلمة لو مُزِجَت بماء البحر لمزجَتْه)[رواه أبو داود (4875) وإسناده صحيح].

وهل تدري ما هي هذه الكلمة التي تنْتن بحرًا خضمًا عظيمًا كالبحر الأبيض المتوسط أو كالبحر الأحمر، لا نهرًا صغيرًا كالنيل، هي قولها رضي الله عنها:(حسبك من صفيَّة كذا وكذا)، وهل ترى ما تعني بقولها: (كذا وكذا)؟! تعني أنها قصيرة!

هذا يا أخي بعض ما جاء في الكلمة أو النظرة، ولو أوردتُ لك كل ما جاء في ذلك لهالك وأدهشك وأفهمك أنَّ ضرر الناس فوق ما تتصوَّر عِظَمًا وإن بدا لك أنه صغير وحقير، وإنما أوردت لك هذا لتنفذ منه إلى تقدير العاقبة للمضار العظيمة التي تتركها بأخيك.

وأخصُّ من هذه المضار في هذه الكلمة: ضرر قتل أخيك وإراقة دمه وإبطال حياته.

إني لا أشك في أنك تصعق وتموت فزعًا إذا قارنتَ بين جزاء النظرة أو الكلمة وجزاء القضاء على حياة أخيك؟ وكيف لا وقد قال بعض كبار أئمة الإسلام: إنَّ جزاء القتل الخلود الأبدي في النار، فلا يفرِّق بين خلود هذا القتل وخلود الكافر بالله؛ يقول هذا الإمام ذلك لمجرَّد القتل فقط.

ومن اطَّلع على ما ورد في جزاء القاتل عَذَر هذا الإمام ثم عذره، فقد روى النسائي (3987)، والترمذي (1395)، والبيهقي (15870) أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لزوالُ الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم).

ومعنى هذا: أنَّ قاتل المؤمن أعظم جرمًا عند ربنا من رجل يهدم السماء ويهدم الأرض ويزيلهما من الوجود إن أمكنه ذلك، لأن الدنيا إنَّما تقوم بها.

ويقول صلى الله عليه وسلم:(ولو أنَّ أهل السماوات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم لكبَّهم الله جميعًا على وجوههم في النار) رواه الطبراني.

فأيُّ ذنب هذا الذي من أجله يغضب ربنا غضبًا به لا يبالي أن يعذِّب أهل السماوات والأرض بجهنم لو حصل منهم ذلك الذنب؟ إنَّ قَدره إنَّما يعلمه من رتَّب عليه ما ذكر سبحانه وتعالى.

ويقول عليه الصلاة والسلام :(كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمِّدًا) رواه النسائي (3984)، والحاكم (8031)، وأبو داود (4270)، وابن حبان (5980) في صحيحه، وهذا الحديث نصٌّ في مذهب ذلك الحَبْر المتقدِّم ذكره، ويؤيِّد هذا المذهب أيضا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93].

وأنا أقول: لو لم يرد في بيان ضخامة هذا الذنب - ذنب القتل وعظمه العِظَم الذي لا يتناهى - إلا هذه الآية الكريمة لكانت كافية وفوق الكفاية، وكيف لا وهي تُبيِّن أنَّ جزاء القاتل الخلود في جهنم، وهذا الخلود معتاد أن يُذكر في جانب عذاب الكافر الذي لا يخرج من جهنَّم أبدًا، ولم تسكت الآية عند هذا الحدّ من العذاب للقاتل، بل أضافت إلى ذلك أنَّ غَضَبَ الله تعالى يكون مع ذلك العذاب، والتَّنصيص على هذا الغضب يشير إلى عدم العفو عن القاتل بمساعدة المقام، وهو يؤكِّد معنى الخلود السابق، ولم تكتف الآية بكل هذا للقاتل، بل أخبرت أيضًا أنَّ الله لعنه؛ أي: طرده من رحمته، وذلك نتيجة من نتائج الغضب المتقدِّم، ولم تنته الآية إلى هذا الحد من بيان عِظَم جزاء القاتل، بل صرَّحت تصريحًا لا خفاء معه بأن عذاب ذلك القاتل سيكون نوعًا وحده في الشدة لا يماثله عذاب أيُّ معصية ، ووصف العذاب بهذا العظم ألفناه من القرآن عندما يعبر عن عذاب الكافرين، ومثله وصف الشدة والألم، والآية بهذا تسوّي بين القاتل والكافر.

هذا بعض ما ورد في قتل الإنسان غيرَه، وقد ورد ما يضاهي هذا في قتل الإنسان نفسه المعروف اليوم بالانتحار، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (من تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنَّم يتردَّى فيها خالدًا مخلَّدًا فيها أبدا، ومن تحسَّى سمًّا فقتل نفسه فسمه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأ بها في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا) رواه البخاري (5778)، ومسلم (109)، والترمذي (2043)، وأبو داود (3872)، والنسائي (1965).

وهذا الحديث يُصرِّح بالتأبيد فوق الخلود في النار لقاتل نفسه، ويُفيد أنَّ قاتل نفسه بأيِّ آلة من آلات القتل يُعذِّب نفسه في النار بتلك الآلة، يستعملها في نفسه هناك كما استعملها هنا عندما قتل نفسه، فيجتمع عليه عذابان: عذاب النار، وعذاب الآلة المذكورة، كل هذا يحتمله القتل، ولهذا ذهب إلى الحكم بكفر القاتل ذلك الإمام.

وهناك دلائل أخرى ليس هنا موضع ذكرها تدلُّ على أنَّ القاتل كغيره من العصاة مؤمن ليس بكافر وإن كان ذنبه عظيمًا عن جميع الذنوب غير الكفر.

والجواب عن الأدلة السابقة ممكن بسهولة، فإن حديث قتل نفسه، راعى الظاهر من حال المنتحر، فإنَّ الظاهر أنَّ المنتحر إنَّما قتل نفسه ليتخلَّص من شيء يُؤلمه بَغَّضَ إليه الحياة ونغَّصها عليه، ومعنى هذا أنه يعتقد أنه بالموت يستريح من ذلك المؤلم، ومَنْ ذلك اعتقاده لا يؤمن ببعث ولا بجزاء، ولو كان مؤمنًا بذلك ما تقدَّم إلى فعلته ولا إلى قريب منها، لأنه مؤمن أنَّ آلام الدنيا كلها مهما عظمت نسبتها إلى عذاب جهنَّم للقاتل لا تساوي نسبة ذرة إلى العالم كله، ومن يعتقد ذلك لا يعقل أن يفر من عذاب دنیويّ خفيف إلى عذاب أخرويّ لا يعلم قدر شدته وثقله إلا الله تعالى وحده، إذن يكون قاتل نفسه ليستريح من الألم الدنيوي الذي به ليس بمؤمن بعذابها بعد الموت إن كان على الظاهر منه، فيكون خالدًا في النار أبدًا كما يقول الحديث، ولسنا نمنع أن يكون بين القاتل وبين الكافر شبه في شدة العذاب، وفي طول مدته حتى يعبَّر عنها بالخلود، وإن كانت تنتهي مع هذا الطول ويكون غضب الله ولعنه مع ذلك العذاب، فإذا انتهت مدته انتهى الغضب واللعن، وتكون الآية قد أفهمتنا هذا الامتياز للقاتل في عذابه من بين سائر العصاة، والحديث المسوّي بين القاتل والكافر في عدم غفران ذنبه محمولٌ على المرتاح للقتل المستبيح له مع تعمُّده، جمعًا بين الأدلة، وللموضوع بقية نوردها في كلمة ثانية إن كان في الأجل فسحة، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب "النهضة الإصلاحية للأسرة الإسلامية"

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين