يقولون حِصنٌ ثم تأبى نفوسُهم / وكيف بحِصنٍ والجبالُ جُنوحُ
ولم تَلفِظِ الأرضُ القبورَ ولم تَزُلْ / نجومُ السَّماء والأديمُ صَحيحُ
فعمَّا قليلٍ ثمَّ جاش نَعِيُّه / فباتَ ندِيُّ القوم وَهْوَ يَنوحُ
أيُّ دمعٍ ينسكِبُ يُبرِدُ غُلَّة قلبيَ الحرَّان الذي أضناه فَقدُك؟
وأيُّ نصوصِ العربيَّة التي أوقَدتَّ حُبَّها فيَّ تنهَضُ لرثائك؟
وأيُّ جِراحٍ نافذةٍ تركَ رحيلُك في جسَدي؟
وكيف أكتبُ عنك ودمعي يسبِقُ قلمي، وقلبي يوشِكُ أن ينفَطِرَ أسًى على فَقدِك، وعقلي ذاهلٌ لا يُصدِّقُ أن يدَ المنون اختطفَتك؟
وكيف لبَقْلٍ أن ينهدَ لوصف نخلٍ طِوالٍ؟!
ومَن أعزِّي فيكَ وأنا المُعزَّى بي؟
أأُعزِّي العربيةَ وكتابَها الباقيَ، وأشعارَ فرسانها، وكنوزَ ألفاظها؟
ماذا أكتبُ عنك وفمي مرٌّ وقد ظفِرَ الحزنُ بالسُّرور؟
وبِمَ أبكيكَ وقد تقَرَّحَت مُقلتايَ أسفًا عليكَ وعلى العربية التي اربَدَّ وجهُها وترمَّلَت بعدَ ترجُّلِ فارسِها؟
مَن يُشبِهُكَ يا زينةَ العلماء؟
مَن يدنو من نفسِكَ التي لا سماءَ لها شَممًا وكبرياء؟
قد رأيتُك وعرفتُك ثلاثةً وعشرينَ عامًا ما اختلفتَ عليَّ يومًا، وقد كنتَ تأَنُف أن تضعَ قدمَكَ في الموضع الذي مَرَّغ غيرُك فيه الجِباه؟
أنَّى لعَجْزي الآنَ أن يكتبَ عنكَ، والكتابةُ عنكَ إنما هي كتابةٌ عن تاريخ هذه الأمَّة بقِيَمِها ورِجالها الكبار، وعن كِتابها وعُلومه المختلفات؟
أيُّ غُولٍ غالكَ أزهَى ما كانت أحلامُكَ العِتاقُ في خِدمة هذا اللِّسان متألِّقةً واثبةً لا تعرفُ إلا الرَّصانةَ والهمَّة الحَذَّاءَ الماضية؟
أيُّ موتٍ هذا الذي يَعتامُ كرامَ الناس ويُخطِئُ طَغامَهُم؟
لا دَرَّ دَرُّ نباتِ الأرضِ إذ فُجِعَت / بالأَلمعِيِّ لقَد أبقَت لنا أسَفا
عِشْ ما بَدا لكَ في الدُّنيا فلستَ تَرى / في النَّاسِ منهُ ولا في عِلمِه خَلَفا
عرَفتُه في أيلولَ من عام 1998 أيام كنت طالبًا في دبلوم الدِّراسات العُليا، وكان قد اسَّاقطَ إليَّ بعضٌ من خبره وعلمه، وفُتِنتُ بتلك الكلمةِ الغرَّاء التي حبَّرها في رثاء أستاذه العلَّامة أحمد راتب النفَّاخ ريحانةِ الشَّام وخزانة علمها، كما كان يحبُّ دائمًا أن يذكُرَه.
شامَ فيَّ خيرًا فأزلفَني منه، وما زال يُتحفُني بما حقَّقه من أصول العربية الجِياد: (سِفر السَّعادة وسَفير الإفادة) للسَّخاوي، و(الإقناع) للمُطَرِّزي، و(أخبار في النحو)، و(كشف المشكلات وإيضاح المعضلات) لجامع العلوم، وسِواها ممَّا أخرجَ من أصول العربية العِتاق الأُوَل.
ثم دَعاني أن أمشيَ معه عَقِبَ محاضرة السنة الأولى التي كانت يومَ الاثنين الساعة الثانية، وسألني كيف أنتَ في المشي؟ فقلتُ: لا بأسَ. فقال: أمَّا أنا فما من أحدٍ ماشَيتُه إلا مَشَيتُه! وكان رحمهَ الله ذا بسطة في الجسم. وكان أن مَشَينا معًا من كلِّية الآداب إلى دار البشائر دوحةِ الباحثين والعلماء في شارع 29 أيَّار، ولقِينا من صاحبِها الأستاذ عادل حسين عسَّاف أجملَ تَرحيب.
وتتوالى الأيَّامُ ويستَحكِمُ الحبُّ بيني وبينه، فكان إن أرادَ أن يُصيبَ طعامًا في مَطعَم شعبي في الحلبوني سُوق الكتب والورَّاقين اصطَحَبَني معه بنفسٍ تسُحُّ وُدًّا، وتقطُر سماحةً، فإذا أمَّ مكتبةً يتفقَّد فيها ما طُبع جعلَ يشتري نسختَين ممَّا يختارُ واحدةً له وواحدةً لي، وكم من أثرٍ نفيس يقبَعُ في مكتبَتي دلَّني عليه أو اشتراه لي، أو أهداه إليَّ ممَّا تكرَّر عندَه من الأصول.
ثم شرَّفَني الله في مرحلة الماجستير، فكنتُ أوَّلَ طالب يتولَّى الإشرافَ عليه في حياته الأكاديمية، وكان يُؤثِرُني بقراءة ما يكتبُه من مقالاتٍ أو تحقيقات.
ثم كانت استقالتُه من الجامعة في 14 أيلول 2001م، ولذلك وما إليه أسبابٌ ما له منها مِن سبب، وكان يُنشِدُني قولَ أبي سُليمان الخطَّابيِّ:
وإنِّي غَريبٌ بينَ بُسْتَ وأهلِها / وإن كانَ فيها أُسرَتي وبها أَهلي
وما غُربةُ الإنسانِ من شُقَّةِ النَّوى / ولكِنَّها، واللهِ، في عَدَمِ الشَّكْلِ
فأيقَنتُ أنَّه كان يَضيقُ ذَرعًا بمَن حوله، ويُنكر انصرافَهُم إلى غير العلم، وابتغاءَهُم غيرَ العربية سبيلًا.
ثم اتَّفَقَ سفرُه إلى الكويت، ولم تنقطِع أسبابُ الرَّحِم بيننا، وكان يُراوِدُني حنينٌ إلى مَجلِسه الرَّصين في بيته في المِنطَقة الصِّناعية أو غُرفته التي كان قد استأجرَها في الشَّعْلان سنينَ عددًا، وأتذكَّرُ قولَ الدكتور شاكر الفحَّام فيه: ولقد أُعجِبتُ بهذا الشابِّ المُكتَهِل في شَبيبته جِدًّا ورَصانةً وانصرافًا إلى العلم، جَذَعَ البصيرة قارِحَ الإقدام.
كان - ولا زالَ رَيحانٌ على مُنتهاه - لا يخلو حديثُه من فائدةٍ حتى لو حدَّثك عن نمَطٍ من الثياب، أو ضَربٍ من الطعام، أو شيءٍ من القِرطاسيَّة التي كان مِفَنًّا بها وله بها كلَفٌ، يتأتَّى في كلِّ ذلك، وكان فيه أنيقًا غايةَ الأناقة.
أنتظرُ عُطلةَ منتصَف العام، فما إن يُغادر مِصيافَ إلى دمشقَ حتى يُخبِرَني باللِّقاء في دوحة البشائر التي كانت آثرَ موضعٍ له بالشَّام، حتى إذا انعقدَ المجلسُ لا يفتأُ يحدِّثُك بالدُّرَر والغُرَر التي اتفقَت له سَحابةَ عمله الدَّؤوب، وذلك من ثمار النظَر الدَّائم في الجديد من المصادر، وكان من أوَّل الأشياء التي نبَّهَني عليها: العلمُ اليومَ هو علمُ المصادر.
وقد قالَ لي حينَ وقفَ على رسالة الماجستير: أعرفُ عملَكَ قبل أن أرى آثارَهُ على الوَرَق. حتى إذا أطلَّ الصَّيفُ وانقلبَ من الكويت إلى مِصياف جعلَ لدمشقَ حِصَّة، وكانت حِصَّتي منها أوفَى الحِصَص. يبسُط بين يدَيَّ كنوزَ العربية، ويحنو عليَّ كما تحنُو على الولد الأمُّ؛ يشتري ليَ الثَّوبَ كما يشتريه لنفسه، ويخُصُّني بما يحبُّ من الطعام.
أيُّ رجلٍ أنتَ يا سيِّدي؟ يا من صَنعَني على عينيه!
من نحو أُسبوعَين جرَت بيننا مُكالمةٌ مرئيَّة استمرَّت ساعةً لم يُفسِدها إلا انقطاعُ الكهرَباء، ذكرَ لي فيها أنه يفرُغ فراغًا من تحقيق ديوان الفرزدق بشرح السُّكَّريِّ في آذارَ القادم بإذن الله، ثم سيضَعُ قلمَهُ في تحقيق المخصَّص هذه المدَوَّنة اللُّغَوية الضَّخمة التي أتمَّ تنضيدَها وتصحيحَها واجتلابَ أُصولها.
وما قولُكَ في عالم يُسدِّد أقوالَ الفرزدق ويُناقشها ويُفاتشها، وينصُّ على (فرزدقيَّاتها) التي تمرَّد فيها على مقاييس العربية، ويقوِّمُ ما اضطرَبَ فيه ابنُ حبيب، ويصحِّح أوهامَ السُّكَّري في الأنساب والرِّجال وتحلية المواضع؟
أنت تقفُ أمام طَودٍ شامخٍ من رَعيل الصَّدر الأوَّل، وكأنِّي بالخليل لو رآه لسُرَّ به، وأَدنى مجلسَه، وآثرَه على صاحبِه سيبويه، وتطلَّق وجهُه حُبورًا لما يسمعُه منه.
هذا إلى سَماحةِ نفسٍ وجودِ طَبعٍ وشرفِ أصل، وكم من مرَّة غَرِمَ عنِّي، وحملَ ما آدَني حَمْلُه، لأبقى ماضيًا كالشِّهاب.
أشهَدُ أنَّه واحدٌ من أفذاذ الرِّجال في تاريخ هذه الأمَّة، وأنَّه غُرَّةٌ شادِخةٌ على جَبينها، وأنَّه إمامُ المحقِّقينَ في عَصرنا؛ اجتمعَ فيه من قوَّة النظر وحدَّة الذَّكاء واكتِناه أسرار هذا اللِّسان ما لم يجتمع لأحدٍ عرَفتُه.
وفي عُنقي أن أضعَ سيرتَكَ العاطرةَ في كتابٍ أقيِّدُ فيه ما عرَفتُه عنكَ، وما تعلَّمتُه على يدَيك الطَّاهِرَتَين، وإن أنا إلا صَنيعَتُك، وبَضعةٌ منك يا والدي.
مَضَى طاهِرَ الأثوابِ لم تَبْقَ رَوضَةٌ / غَداةَ ثَوى إلا اشتَهَتْ أنَّها قَبرُ
الدكتور الدالي رحمه الله في دار البشائر بدمشق،
وعن يمينه الأستاذ عادل عساف صاحب الدار
وعن يساره طلَّابه:
محمد عبد الله قاسم، وعماد بيازيد، ومحمد ماجد الحمَوي، وضياء الدين القالش
[1] قال ابن السِّيْد البَطَلْيَوسي في (الحُلَل في شرح أبيات الجُمَل): "أراد [أي النابغة الذُّبياني] أنهم يقولون: ماتَ حصنٌ [حصنُ بن حذيفة بن بدر]، ثم يستعظِمون أن ينطِقُوا بذلك، ويقولون: كيف يجوزُ أن يموتَ والجبالُ لم تُنسَف، والنجومُ لم تنكَدِر، والقبورُ لم تخرُج مَوتاها، وجِرمُ العالم صحيحٌ لم يحدُث فيه حادث؟!". فلم يلبث أن صحَّ الخبرُ بارتفاع نعيه، فناحَ عليه القومُ في ناديهم نُواحًا.
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول