تود أن تكون ذا ثروة ويسار، تتجر وتتكسب، وتغرس وتزرع وتحصد، تدخر المال، مفتونا بزهرة الدنيا، راكنا إلى حليها وزينتها، ومنغمسا في طلبها الانغماس الشديد، وتستعجل الطرف والمتع، وتهرع إلى اللذات والراحات، وتؤثر قرناء السوء، وتتقلب في الملاهي والملاعب.
وتتطلع إلى أن تكون لك قوة وسلطنة، ماشيا في ثياب مخيلة، مستهينا بأحكام الله، ومستذلا عباده الصالحين، مخلدا إلى تبعية عمياء للكفار والمشركين، وتقليدهم في الأزياء والملابس، ومتلطخا بالتغزل والغرام.
وتتنافس في بناء الدور والقصور، ورفع القباب بعد القباب، وتشييد المعالم والمشاهد، وتضرب في الأرض سائحا، تتبختر في مطرف الصبا مرحا، ويخطر ذراعك وعضدك غطرسة، تقتحم بك دواعي نفسك الذنوب والمعاصي، وتتسكع في أيام التصابي، وتقارف الكبائر والصغائر، غير مستحي من الفاحشات والمنكرات، ولا متورع عن مواطن الشبهات، ولا تنأى بنفسك عن سماع الغناء والمعازف.
تهوى أن تشرب وتسكر، يدار عليك المدام، وتطفح لك الكؤوس، وترقص وتترنح، وتتغنى وتطرب، وترتاد الأفلام والمسرحيات، وتخالط المردان والنساء، وتشهد الحسن والجمال الفاتن في الأندية والشواطئ، وتهيم بمحال الغواني، وترتع في مراعي الريب، وتدمن النظر إلى المحرمات، وتقع في الأعراض، وتؤذي الخلائق.
هب أنك أوتيت سؤلك، وسيقت إليك شهواتك، ثم ماذا؟ ألا تعلم أن حلاوة الدنيا ممزوجة بمرارة، وراحتها مخلوطة بعناء، والرخاء يتبعه بؤس، والهناء تتلوه شدة؟ ما سرور الدار الفانية صافيا، ولا نعيمها باقيا، وما محاسنها إلا سرابا، ولا مفاتنها إلا بلاء واكتئابا يستتبع اكتئابا، كل زمان منها موصول بصرمة، وكل مكان ملطف بجفاء، ألا ترى قرنك الذين عهدتهم مضوا لسبيلهم، ولسوف تلحق بمن مضى، تبكي على أخلائك الهلكى، وستوردك المنايا الموارد التي وردوها، وستباشر الأجداث وحدك، وسيضحك الباكون بعدك، إن البلى مرصد لكل جديد، والردى مصطاد لكل وليد.
اعلمن أن حتوف المنايا إليك قاصدات، وسوف ينادى عليك بالويلات، ويندب عليك بالحسرات، قال عبد الله بن خالد الطوسي: لما خرج هارون الرشيد إلى مكة فرش له من جون العراق إلى مكة لبد مرعزي، وكان حلف على أن يحج راجلاً فاستند يوماً إلى ميل وقد تعب، فإذا سعدون قد عارضه وهو يقول:
هب الدنيا تواتيكا ... أليس الموت ياتيكا
فما تصنع بالدنيا ... وظل الميل يكفيكا
ألا يا طالب الدنيا ... دع الدنيا لشانيكا
فما أضحكك الدهر ... كذاك الدهر يبكيكا
فشهق الرشيد شهقة فخر مغشياً عليه ثم أفاق بعد أن فاتته ثلاث صلوات.
قال ذو النون: بينا أنا في أزقة مصر إذا أنا بسعدون المجنون وعليه جبة صوف جديدة مكتوب عليها خطوط قد أدخل رأسه فيها، فسلمت عليه فرد السلام، فقلت: قف يا أبا سعيد حتى أنظر ما على جبتك، فوقف، فقرأت على كمه الأيمن سطرين:
عصيت مولاك يا سعيد
ما هكذا تفعل العبيد
وعلى كمه الأيسر سطرين:
تباً لمن قوته رغيف ... يأتي به السيد اللطيف
يعصي إلهاً له جلال ... وهو به راحم رؤوف
ومن خلفه سطران:
كل يوم يمر يأخذ بعضي ... يذهب الأطيبان منه ويمضي
نفس كفي عن المعاصي وتوبي ... ما المعاصي على العباد بفرض
ومن بين يديه سطران:
أيها الشامخ الذي لا يرام ... نحن من طيبة عليك السلام
إنما هذه الحياة متاع ... ومع الموت يستوي الاقدام
وعلى عكازه مكتوب:
اعمل وأنت من الدنيا على وجل ... واعلم بأنك بعد الموت مبعوث
واعلم بأنك ما قدمت من عمل ... محصى عليك وما خلفت موروث
قال: فقلت له أنت حكيم ولست بمجنون، قال: أنا مجنون الجوارح، ولست بمجنون القلب، ثم ولى هارباً.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول