تلخيص قصة إبراهيم عليه السلام

قصة إبراهيم عليه السلام في كسر أصنام قومه، ذكرت مرتين: في (سورة الأنبياء) وفي (سورة الصافات). وبينهما تخالف في العبارة، قد يظنه ضعيف الإدراك تضاربًا، فلهذا أردت تلخيصها مع تفسير يزيل ما قد يتوهم من تضارب.

لما جادل إبراهيم عليه السلام قومه في الأصنام التي يعبدونها:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56)}  [الأنبياء: ٥٢-٥٦].

وقال لهم أيضًا: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}  [الشعراء: ٧٥-٨٢].

ولم تكن له خطيئة لعصمته، وإنما قال ذلك تعريضًا بخطاياهم، وتحريضًا لهم على الإيمان بالله تعالى ليغفر لهم، وقال أيضًا: {أَئِفْكًا}  أكذبًا {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)}  [الصافات: ٨٦- ٨٧] إذا عبدتم غيره: أنه يترككم بلا عقاب؟ لا.

حصلت هذه المجادلة والمراجعة بينه وبين أبيه وقومه، وحصلت أيضًا مجادلات ومراجعات أخرى، والقرآن -على طريقته في الإيجاز- لم يذكر تلك المراجعات بتمامها، بل يذكر في كل مرة روحها وخلاصتها، وهو توحيد الله تعالى، وبطلان عبادة الأصنام، ثم هذه الخلاصة ذكرها القرآن بأساليب مختلفة، متساوية في بلاغة التعبير، ووضوح الحجة، وقوة التأثير.

بعد حصول هذه المناقشات التي تكررت من إبراهيم عليه السلام، أنذر من كان حاضرًا من قومه بقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)}  [الأنبياء: ٥٧] فانتقل من تغيير المنكر باللسان، إلى تغييره باليد والقوة، حيث لم ينجح فيهم البرهان، وكان لهم يوم عيد يجتمعون فيه، فدعوا إبراهيم يذهب معهم، وتركوا طعامَهم عند الأصنام للتبرك، فاعتذر إبراهيمُ من الذهاب معهم. وكانوا نجامين {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)}  يوهمهم أنه يعتمدها، ليقبلوا كلامه {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}  يقصد أنه عليل بكفرهم، وفهموا أنه مريض {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)} إلى اجتماعهم {فَرَاغَ}  فمال خفية {إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ} أصنامهم وعندها الطَّعام {فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ}  وبالضَّرورة لم ينطقوا فقال تهكمًا {مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ}  مال {عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)}  [الصافات:88-٩٣] بالقوة، بفأس معه {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا}  فتاتا {إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ}  علق الفأس برأسه {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}  [الأنبياء: ٥٨] فيرون ما فعل بالأصنام الصغيرة، فرآه من لم يخرج معهم لمرض وحراسة ونحوهما {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)} [الصافات: ٩٤] يسرعون قالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}  [الصافات: ٩٥-٩٦].

أخذ منه أنَّ أعمال العباد مخلوقة لله تعالى، خلافًا للمعتزلة القائلين بأن العبد يخلق أفعاله.

فلما رجع من الاجتماع رؤسائهم وأعيانهم، ورأوا أصنامهم مكسرة {قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)}  [الأنبياء: ٥٩ – ٦٠] أي الذين سمعوه يقول: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)}  [الأنبياء: ٥٧]: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}  بالعيب والتَّهديد {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}  تجاهلوه استصغارًا له في نظرهم، وعلموا أن ناسًا ممن لم يخرجوا معهم شاهدوه يكسرها {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ}  الذين رأوه {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}  أنه الذي كسرها {قَالُوا}  له بعد إتيانهم به {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)} . وهذا استفهام تقرير، أي أقر بفعلك  {قَالَ} ساكتا عن فعله، لئلا يكون كاذبًا لو نفاه عن نفسه {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)}  [الأنبياء: 60- ٦٣] وليس في هذا كذب، لأنه نسب الفعل إلى كبير الأصنام على تقدير حصول الشرط، وهو نطقهم، والمعلق على حصول شرط لا يقع إلا بوقوعه. وفي هذا تعريض لهم بما صرحوا به في قولهم له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ (65)}  [الأنبياء: ٦٥] فاعترفوا بأن آلهتهم عاجزة عن النطق، وهي عن الفعل أعجز، وتمت الحجة عليهم باعترافهم، لكنهم استمرُّوا في كفرهم وعنادهم، فقال موبخًا لهم: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)}  [الأنبياء: ٦٦-٦٧] فانقطعت حجتهم، ولم يبق لهم من برهان إلا أن قالوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا}  واملئوها حطبًا فإذا اشتعل {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}  [الصافات: ٩٧] و {قَالُوا} أيضًا {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68)}  [الأنبياء: ٦٨] نصرتها.

فأرادوا به كيدًا بإحراقه، فأنجاه الله تعالى، وجعلهم الأسفلين الأخسرين، وتركهم إبراهيم ذاهبًا ومعه ابن أخيه لوط إلى الشَّام، وبهذا تمت قصته معهم بما فيها من عظة وعبرة، وبالله التَّوفيق.

من كتاب" خواطر دينية"

([1]) في سورة الشعراء.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين