تصحيح تصورات خاطئة في القدر والدعاء (3)

 

- مسألة الدعاء، والظواهر الكونية

- ما ذهب أحدٌ إلى تكسير الحقائق الإيمانية، والكونية المرتبطة بها، إلا وهو يعتمد على ثقافة لا صلة لها بالمصادر الأصلية لبحوث القضاء، والقدر، والدعاء، وله كمٌّ من الجهالة بمعاني أسماء الله التي وردت في التنزيل ، والأحاديث الشريفة !

- مما جاء من أسماء الله تعالى أنه {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }، ولاسم الله { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } دلالة على ما ذهب إليه المسلمون عبر القرون، وقبل أن تنبت النابتة المعاصرة التي ترى أن الكون يعمل بصورة مادية ذاتية بحتة، من أنه أوجد الله ما أوجده، ويرعاه مدة وجوده المقدرة له في علم الله، وبهذا ينتفي تصور من ذهب إلى أن الله تعالى خلق الخلق، وتركه يفعل فعله بنفسه وفق سنن كونية، صارت غنية عن الله بمجرد أنها وجدت به!

- وقال أهل الفهم عن الله: قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: هَذِهِ الآيةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِلَهَ العَالَمِ ليسَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ، بل هُوَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَالدَّلِيلُ على أَنَّ المُوجِبَ بِالذَّاتِ لَا يَسْتَحِقُّ على شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ، وَالتَّعْظِيمَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا انْتَفَعَ بِسُخُونَةِ النَّارِ، أَوْ بِبُرُودَةِ الْجَمْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْمَدُ النَّارَ، وَلَا الْجَمْدَ لِمَا أَنَّ تَأْثِيرَ النَّارِ فِي التَّسْخِينِ، وَتَأْثِيرَ الْجَمْدِ فِي التَّبْرِيدِ لَيْسَ بِالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ بَلْ بِالطَّبْعِ، فَلَمَّا حَكَمَ بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ ثَبَتَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا كَوْنَهُ فَاعِلًا مُخْتَارًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوجِبًا لَدَامَتِ الْآثَارُ وَالْمَعْلُولَاتُ بِدَوَامِ الْمُؤَثِّرِ الْمُوجِبِ، وَامْتَنَعَ وقوع التغير فيها، وحيث شاهدنا حصول التغييرات عَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا قَادِرٌ بِالِاخْتِيَارِ لَا مُوجِبَ بِالذَّاتِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ ثَبَتَ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ.

- [تعلق صفة الإرادة] 

- للإرادة تعلقان، وكلاهما قديم، فالأول : صلوحي، وهو صلاحية الصفة - أزلاً - للتخصيص، إذ لا مكره لها ، ولا مانع منها، والثاني : تنجيزي، وهو وقوع التخصيص بالفعل أزلاً، وثبوته، وفق العلم ، فـالله تعالى قد خصص الأشياء الممكنة - أزلاً - بما ستكون عليه، واختار لها بعض ما يجوز عليها. قال تعالى : { وربك يخلق ما يشاء ويختار }

- على أن ترتيب تعلق الإرادة بالتخصيص، على تعلق العلم الكاشف ترتيب ذهني، للتعقل، لأن كلا التعلقين أزلي، فلا سبق بين التعلقين، وبتغاير نوعي التعلقين، إذ العلم كاشف، والإرادة مخصصة، وبأن ما علم الله أنه لا يكون لم تتعلق به الإرادة ليكون، قال تعالى : {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهو معرضون} فلم يكون الإسماع، لأنه ما علم فيهم خيراً، وبالتالي ما أراده، لأنه لو أراده لكان، والله علم أنه لا يكون .

- والإرادة تتعلق بالممكن - وحده - ولا تعلق لها بواجب ذاتي، ولا بمستحيل ذاتي، لأن الإرادة صفة مؤثرة، والواجب لا يقبل الانتفاء أصلاً، والمستحيل لا يقبل الثبوت بحال، ومالا يقبل العدم، أو مالا يقبل الوجود أصلاً لا يقبل أن يكون أثراً للإرادة، وإلا لزم تحصيل الحاصل إن كان الغرض إيجاد الواجب، لأنه موجود، ولزم قلب الحقائق إن كان الغرض تخصيصه بالعدم أو الإعدام، لأن الواجب لا يقبل العدم، وكذلك يقال في شأن المستحيل .

- والممكن - الذي هو في مجال التخصيص لبعض ما يجوز عليه - هو الشامل للخير والشر، والنفع والضرر، والطاعة والمعصية، فالإرادة عامة التعلق بجميع الممكنات، وبهذا تكون المخلوقات كلها بمشيئة الله تعالى وقدرته، ولا يخرج مخلوق عنهما.

- قال البغدادي :" إرادته تعالى صفة، أزلية، قائمة بذاته تعالى، وهي إرادة واحدة محيطة بجميع المرادات على وفق علمه بها، فما علم منها أنه سيكون أراد كونه، خيراً كان أو شراً، وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون، ولا يحدث شيء في العالم لا يريده الله، فالمشيئة الكونية موجبة لكل موجود حادث، وعدم المشيئة موجبة لعدم الوجود، وهذا معنى :" ما شاء الله كان، ومالم يشأ لم يكن " .

وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (296)عن الأوزاعي أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يهوديٌّ، فسأله عن المشيئة، فقال: "المشيئة لله تعالى"، قال : فإني أشاء أن أقوم ؟ قال : قد شاء الله أن تقوم، قال : فإني أشاء أن أقعد؟ قال : فقد شاء الله أن تقعد، قال : فإني أشاء أن أقطع هذه النخلة ! قال : فقد شاء الله أن تقطعها، قال : إني أشاء أن أتركها؟ قال : فقد شاء الله أن تتركها، قال : فأتاه جبريل - عليه السلام- فقال : لُقِّنت حجتك كما لقنها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، قال : ونزل القرآن فقال تعالى :{ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ، وليخزي الفاسقين} .

]عموم تعلق الإرادة]

- ومذهب السلف وأئمة الأمة أن الله تعالى خالق كل شيء، وربه ومليكه، وما شاء الله كان، ومالم يشأ لم يكن، فلا يند ممكن عن تعلق إرادته، خلافاً للمعتزلة المبتدعة في قصر الإرادة على :" الخير والنفع والطاعة " ، قالوا : " إن المعاصي كلها، والشرور جميعها، حادثة بغير إرادته، بل هو كاره لها "، واقتضى ما ذهبوا إليه أن يكون ما يكرهه - أي: كراهة عقلية لاشرعية - أكثر مما يريده، لأن نسبة المعاصي أكبر من نسبة الطاعات، وفسرت الكراهة بالعقلية لأن الكراهة الشرعية - التي هي النهي عن المعاصي والآثام - مما أجمع عليه المسلمون قاطبة ، فـالله تعالى لا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، وكره لنا أموراً منها: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وإن كان هذا كله واقع بمشيئته، لكنه تعالى لا يحبه، ولا يرضاه بل يبغضه، ويذم أهله، ويعاقب عليه " فسبحان من ربط الأسباب بمسبَّباتها ليهتدي العاملون، وخرق العوائد - أحياناً - ليتفطن العارفون، فيعلموا أنه تعالى فاعل مختار، وأن الحوادث لا تحدث بالطبع، ولا بالاضطرار ".

ودافِعُ المعتزلة إلى إخراج أفعال الإنسان الاختيارية عن تعلق الإرادة نفي الجبر عن الإنسان، إذ ظنوا أن كون كل شيء بمشيئة الله تعالى يقتضي أن يكون الإنسان مجبوراً على ما يقوم به من أعمال صالحة وطالحة، مادام أن ما يقوم به لا يخرج عن المشيئة، وتجلية هذه الحقيقة العقدية تتأتى من أنه لا تعارض بين كون كل شيء بمشيئته تعالى، وكون الإنسان مختاراً في ما كلف به، ويحاسب عليه، أو : لا تلازم بين الجبر وعموم تعلق الإرادة، ويكفي دليلاً على أن الإنسان مختار فيما كلف به توجه الشرع إلى الإنسان بالتكليف - أن يفعل، ولا يفعل - مع ترتيب الثواب والعقاب على الاستجابة وعدمها، وأن قوله تعالى :{وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} يثبت الاختيار للإنسان بإسناد المشيئة إليه بالفعل " تشاؤون " ويثبت إطلاق مشيئة الله تعالى وعموم تعلقها .

- ويدل على أن ما يشاؤه الإنسان - بعد إعمال عقله في البدائل المطروحة من طاعة ومعصية، وصدق وكذب، وإيمان وكفر - هو الذي شاءه الله تعالى أزلاً، علماً أن الإنسان حين اختار اختار من واقعه، وتدبره فيه، ولم يطلع على ما اختاره الله تعالى له أزلاً ليأخذ به، والمتدبر لمهمة الإنسان يتجلى له أنها تقتضي الاختيار ، والاختيار يتطلب توجيها، ومن هنا نزلت الشرائع توجه الإنسان لأداء المهمة المنوطة به، ومنطلق هذا التوجيه " افعل " و " لا تفعل ". 

- وقد درب آدم - عليه السلام - وحواء، على المهمة " بافعل " المتمثل بقوله تعالى:{وكلا منها رغداً حيث شئتما} وفيه معنى حرية الفعل، كما دربا كذلك على المهمة " بلا تفعل " المتمثل بقوله تعالى:{ ولا تقربا هذه الشجرة } وفيه معنى حدود الحرية المعطاة للمكلف.

- على أن الإنسان يشعر من نفسه بأن له إرادة جزئية يختار بها بين البدائل المطروحة في ساحة التكاليف الواسعة، وهذه الإرادة مفارقة - بداهة - لما يعلمه الإنسان من شأن تلك البدائل، كما يشعر أن له قدرة يبلغ بها ما اختاره وأراده، سواء كان معصية أو طاعة، خيراً أو شراً، قال الله تعالى : {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً} فمشيئة الإنسان - هنا - في الاختيار ثابتة دون التفات لما شاءه الله لزيد أو لعمرو - أزلاً - إذ ما شاءه له غيب مطوي عنا، نؤمن به إيماننا بالغيب .

- أويعطى الإنسان هذه الإرادة، ويكون من أعطاها له غير مريد؟ أو: يكون مكرهاً على أفعاله، لا اختيار له فيها ؟

- لكن اختلف في جواز نسبة خلق الشرور، وخلق خسائس الأمور إلى الله تعالى والراجح أنها تجوز في مقام التعليم، وليس في غيره، فيقال في مقام التعليم: "الله خالق الخنازير - مثلاً - تقريراً لعموم تعلق القدرة والإرادة " ... ومن الأدب الجم ما قاله بعضهم في هذا الشأن، قال : من سألنا عن الشرور- بلفظ الحوادث - قلنا : إن الله تعالى أراد حدوث جميع الحوادث، وهذه منها، ولا نقول أدباً : إنه سبحانه أراد الشرور.

- وهذا الأدب فرع من غصن أدب الجن النضير المزهر حيث قالوا : بعدما لمسوا السماء فوجدوها قد ملئت حرساً شديداً وشهباً : {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } فمع ذكر " الشر " بني الفعل للمجهول تحاشياً من أن يقولوا " أشراً أراد الله بمن في الأرض " وحين ذكر " الرشد " بُني للمعلوم ، وأسند لله - تعالى - حيث قالوا :{أو أراد بهم ربهم رشداً }.

- وعلى هذا المنهج الكريم جرى قوله تعالى :{ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيد الخير إنك على كل شيء قدير}.

الإرادة في القرآن: 

- هذا ، وقد وردت " الإرادة " في القرآن الكريم على ضربين :

الأول : إرادة شرعية دينية، تشمل كل ما جعل ديناً وشرعاً، مما أمر به، أو نهي عنه، وهي مناط التكليف، إذ تختص بالإيمان والعمل الصالح، وتتضمن محاب الله تعالى ومراضيه، ويترتب على موافقتها الثواب، وعلى مخالفتها العقاب، ومن هذا الضرب قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} وقوله تعالى : {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج }.

إن الله تعالى لا يريد الكفر أو الفسوق أو العصيان إرادة شرعية، ولا يرضى ذلك، ولا يحبه، قال تعالى:{ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم }، وقال:{وكره إليكم الكفر والفسوق

والعصيان }، وقال:{والله لا يحب الفساد}.

- وأما الضرب الثاني فالإرادة الكونية، وهي إرادة قضاء وتقدير، إذ تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وتتناول جميع المخلوقات، وتحيط - أزلاً - بكل الحوادث، وما فيها من طاعة ومعصية، وإيمان وكفر، ومنع وعطاء، قال تعالى :{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله}، وقال : {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله }، وقال أيضاً:{فمن يرد الله أن يهديه بشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً } وقال تعالى : {يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة }.

الفرق بين الإرادة والأمر: 

والإرادة - عند أهل السنة - تابعة للعلم في التعلق، إذ تخصِّص الممكن ببعض ما يجوز عليه، على وَفْق العلم، وليست تابعة " للأمر الشرعي " كما أن الأمر الكوني تابع للإرادة الكونية. قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} .

- وقد ذهب المعتزلة إلى أن الإرادة عين الأمر، والأمر عين الإرادة، فتعلق الإرادة - عندهم - تابع للأمر، ومما يرد به عليهم في هذا أن القرآن الكريم قد نطق بجواز أن يأمر بما لا يريد، فقد أمر الله سبحانه الخليل عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام، ولم يرده، وعموماً فلا يتخلف شيء أراده الله تعالى أن يكون، كما لا يكون شيء لم يرد الله تعالى أن يكون، وهذه الإرادة متعلقة بخلقه، وأمره الكوني، وبما يحب ويبغض، ولا يترتب على تعلقها تكليف، ولا ثواب، ولا عقاب، إذ مناطها ترجيح بعض ما يجوز في حق الممكن، ولا اختيار للعبد أمام تعلقها، وإنما يقع التكليف حيث يكون الاختيار، ألا ترى أن الله تعالى نهى عن أشياء عددها، وربط النهي بمقدار ما لدينا من اختيار في الاجتناب حيث قال :{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} فحيث لا يدفع الاضطرار إلا بالأكل مما حرم أكل، وحيث يمكن أن يؤكل لدفع الضرر فلا ينبغي أن يصاحب بالبغي والعدوان، لأن الامتناع عن البغي والعدوان - مع الاضطرار إلى الأكل - في مقدور المكلف، ولا أوضح من هذه النقطة في قول الله تعالى : {من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان وما استكرهوا عليه" .

- مما سبق يتضح أن قضية الهداية والإضلال، والرزق والنفع والضر، والاقتتال بين أهل الحق وأتباع الباطل، وحرمان الكافر من النعيم، بل، كل أفعال الله تعالى ما خفي من حكمتها وما ظهر، تابع للإرادة الكونية، فالأفعال أثر لتعلق القدرة، والقدرة لا تبرز إلا ما خصصته الإرادة {ولكن الله يفعل ما يريد} وهو تعالى{فعال لما يريد} وفي إطار حكمة ربانية بالغة شاملة، لا يعرو عنها فعل من أفعال الله تعالى.

قال تعالى:{إن الله يحكم ما يريد}وذلك على سبيل الإجمال، أما في مجال التفصيل، ففي شأن الهداية قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء}، وقال :{كذلك يضل الله من يشاء}، وفي شأن ما يجعل الله به من دنيا لمن أرادها قال : {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد }.

كذلك من المقطوع به عقدياً أن أحداً من الخلق لا ينفع أحداً بشيء ما، كائناً ما كان إلا إذا شاء الله، كذلك لا يوصل ضراً إلا بإذنه، بهذا نزل الوحي، بقوله تعالى:{ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم }، وبقوله :{ قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً }، وقوله:{فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم }، وقوله : { وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ومالهم من دونه من وال}، وقوله : {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً، يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم}. ولا تخفى الصلة بين ما أراده لهم من حرمان وما يسارعون به من كفر، والمسارعة فيه باختيارهم، وقد جاءت الأحاديث تؤكد هذا المعنى، منها قوله صلى الله عليه وسلم : " ... واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك " وما كتب هنا إلا لأنه علم أنه سيكون، وما أراد إلا وفق العلم، والعلم كاشف لا مجبر كما هو مقرر، ومسلم به.

وغايرت أمراً :

- وثمة نوعان من الأمر: أمر تكوين، وأمر تشريع، فمثال الأول قوله تعالى : {كن فيكون }، وقوله : {كونوا قردة خاسئين}.

ومثال الثاني: قوله تعالى :{وكونوا مع الصادقين} و : {أوفوا بالعقود }، والمأمور به - في أمر التكوين - لا يتخلف عن الأمر، ولا اختيار له فيه، ولا تكليف به، قال- تعالى- :{وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً} فقوله : {أمرنا } أمر تشريع وتكليف ... ، وقد قابله المترفون بالفسق والعصيان، فعوقبوا بالإهلاك، فأمر التشريع يقع في دائرة اختيار المأمور، والآبون يخالفونه، والطائعون يسارعون إلى امتثاله. قال تعالى في بيان الإباء الإبليسي لأمر السجود : {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى} فمسه الصغار، وتوجه إليه أمر الحكم العدل : {فاخرج إنك من الصاغرين} .

- أي : باينت الإرادة أمراً، بمعنى أنها ليست عينه، ولا مستلزمة له، كيف : وقد : " يريد ويأمر " فتلتقي الإرادة والأمر ؟ مثل إيمان من علم الله منهم الإيمان، فإنه أراده منهم إرادة كونية بدليل وقوعه منهم، وأمرهم به أمرا شرعيا.

- وقد:" لا يريد ولا يأمر " مثل كفر من علم الله تعالى منهم الإيمان، فإن الكفر ما أراده منهم، ولا أمرهم به .

- وقد: " يريد ولا يأمر " ككفر من علم الله أنهم يكفرون، وكالمعاصي ممن علم الله منهم أنهم يقعون فيها، فإنه أراد ذلك، لأنه علم أزلاً أنهم سيكفرون، لكنه تعالى لم يأمر به، لأنه لا يأمر بالكفر، وقد دل قوله تعالى في شأن إبليس : {أبى واستكبر وكان من الكافرين} على أنه قد علم - أزلاً - أنه " كافر " ومن " حزب الكافرين " فإباؤه السجود ظهور لما كان لله معلوماً، لذا جاء التعبير القرآني {وكان من الكافرين} ولم يأت " أبى واستكبر وكفر" كما يرشح له السياق، إذ الكفر حكم مستمد من الإباء والاستكبار .

- وقد : " يأمر ولا يريد " كالإيمان ممن علم كفرهم، فما أراد إيمانهم لأنه علم - أزلاً - أنهم لا يؤمنون، وما أمرهم بالإيمان إلا ليظهر في عالم التكليف ما علمه الله أزلاً، فيكون الحساب على ما ظهر منهم، لا على ما علمه فيهم ، قال تعالى : {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم}.

علماً :

- أي : وغايرت الإرادة علماً، بمعنى أنها ليست عينه، ولا مستلزمة له، لتعلق العلم بالواجب والجائز والمستحيل تعلق انكشاف، والإرادة تعلقت بالجائز - وحده - تعلق تخصيص .

والرضا :

- أي : وغايرت الإرادة رضاه تعالى، وهذا ردٌّ على من فسر الإرادة بالرضا، إذ الرضا يثمر قبول العمل، والإثابة عليه، والإرادة تتعلق بما لا يرضى، كالكفر والمعاصي.

الحلقة الثانية هــنا

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين