تصحيح تصورات خاطئة في القدر والدعاء -2-

حقائق من الوحي والكون تصوب التصور

- ما قرره علماء التوحيد في صفات القدرة ، والإرادة ، والعلم :

- لو قرأ الباحث الذي انفرد بفهمه في قضايا من الخطورة بمكان ما قرره العلماء المتخصصون في مسألة صفات الله ، وظهور القدرة، والإرادة في الظواهر المحدثة، ودلالة الحوادث على سعة علم الله - تعالى - لتوقف يراجع فهمه فيما ذهب إليه:

- صفة الإرادة :

فالوا : قد قدمت " القدرة " - في التناول - على " الإرادة " وإن كان تعلقها تالياً لتعلق الإرادة في الواقع، ومتوقفاً عليه - لأن تأثير القدرة " في الممكن " أظهر من تأثير الإرادة ، إذ إن إبراز " الممكن " المسبوق بالعدم إلى ساحة الوجود ، على الوجه الذي ظهر به، دليل مُسَلمٌ به على القدرة، ولا يحتاج هذا الاستدلال إلى كبير تأمل، لأنه يقوم على بداهة " قانون السببية "، أما إظهار الممكن بوجه معين، دون سائر الوجوه الجائزة في حقه، فيتطلب الوصول إلى دلالته، وهو " وجوب المخصص " لوناً من النظر والتدبر، فإيمان الإنسان بوجود الله - تعالى - مقتضى أدى إليه : أن كل محدَث لابد له من محدِث، فالكتابة تقتضي كاتباً، والصورة مصوِراً، والبناء بانياً، أما الإيمان بأن الله - تعالى - مريد ، أي : متصف بالإرادة، فمرده - علاوة على ما جاء به الوحي - إلى ما في العالم من ضروب الجواز، فالعالم له وجود مخصوص، حيث إن نقائض ما ظهر به الممكن إلى الوجود، وقبوله لها قبولاً ذاتياً، ممكنة عقلاً، ولولا المخصص الذي رجّح ما ظهر فعلاً على ما يمكن أن يكون عقلاً، لما وجد هذا العالم بما فيه، إذ تتزاحم الصور الممكنة في حق الممكن تزاحما متساويا،على بوابة الوجود، كل منها يريد الظهور، وبقوة واحدة، ولا يمكن - بالبداهة - أن تظهر كلها مرة واحدة مع تعارضها، من هنا كان لا بد من مخصِص - ومن خارجها - يخصصها ببعض ما يجوز عليها .

- هذا ، وينسحب هذا المعنى على المخلوق بعد وجوده، إذ تظل له مجموعة من صور الإمكان.

- قد تقرر أنه " يجب " لله - تعالى - صفة " إرادة " وهي صفة جاء تقرير الوحي لها بصيغة الفعل، مثل قوله - تعالى - في أخطر ظاهرة اجتماعية : {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }.

- ثمة حقيقة تبرز باستقراء مجموعة من الآيات، هي أن تعبير الإرادة في القرآن يدل على ، إمّا " الإرادة الكونية " ، أو : على " الإرادة الشرعية " والإرادة الكونية من وراء تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وهذه لا ترد، ولو اجتمع الكون كله لردها، وهذه بخلاف الإرادة الشرعية التي تجلي ما يريد الله من العبد أن يقوم به من عباده، وهذه ترجع إلى التكليف، ومعلوم أن المكلف يختار ما يراه، سواء وافق ما أراد الله منه، أو: لا ، فمختار المعصية قد اختار ما لا يريده الله منه ، وقوله - تعالى - يجلي هذه الحقيقة : { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ومثله ، قوله - تعالى - في حق من دعتهم الرسل إلى رحاب الإيمان ، فاختاروا " الكفر ، قال - تعالى - : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}.

- ويراد من الإرادة : المشيئة، قال البيهقي : قال الشافعي رحمه الله : " المشيئة إرادة الله ".

وقال الراغب : " المشيئة - عند الأكثر - كالإرادة سواء ". وقال الإمام الغزالي : " ... لم يزل الله موصوفاً بها - أي : الإرادة - مريداً في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدرها، وعلى هيئاتها التي صوَّرها، فما من شيء يقع إلا يقع وفق علمه وإرادته وبقدرته ".

- والإرادة - لغة - : مطلق القصد إلى تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، و - عرفاً - : هي صفة ، وجودية ، قديمة ، قائمة بذاته - تعالى - تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، على وفق العلم، إذ إن الممكن يجوز في حقه متقابلات : كالوجود والعدم، وكونه بصفة دون صفة، كالأبيض والأسود، والطويل والقصير، والصغير والكبير، وكونه في جهة دون جهة ... إلى آخر ما يتصور في حقه من زمان، وصورة، وهيئة، ومكان ...

- إن وجود العالم في الوقت الذي وجد فيه، كان ممكناً عقلاً أن يتقدم عليه، أو يتأخر عنه، وإن وجوده قبل ذلك أو بعده مساو في الإمكان لوجوده في الوقت الذي وجد فيه، إذ ليس زمان - في حقه - أولى من زمان ، فكل الأزمنة صالحة لبدء الوجود، وإنشائه فيه، والإرادة تعين زماناً من الأزمنة، وترجح وجهاً من الأوجه - الممكنة المتساوية أصلاً - ترجيحاً ، يقتضي غلبته على سائر ما يجوز في حق الموجود الممكن، ولولا الترجيح لظلت الأزمنة كلها، والأوجه جميعها في مستوى واحد من القبول، ومن البداهة أن هذا الزمان المرجح هو الذي علم الله - تعالى - أزلاً أنه سيكون ظرفا للممكن دون سائر الأزمنة الأخرى إذ لا سبق بين تعلق العلم بالأشياء تعلق انكشاف، وتعلق الإرادة بها تعلق تخصيص ، فكلا التعلقين أزلي ، وترتب تعلق الإرادة وفق العلم في إطار التعقل فحسب .

- ومعلوم أن صفة " العلم " لا تكفي في الترجيح ،لأنها ليست صفة تأثير، ولأنها تتعلق بالمعلوم على ما هو عليه تعلق انكشاف ، دون أن تؤثر فيه، أو تغيره، كما لا تكفي صفة " القدرة " في الترجيح، لأن نسبتها إلى الضدين المتقابلين - في الإيجاد - واحدة.

- دليل صفة الإرادة :

- قد جرى الاتفاق على إطلاق القول " بأن الله تعالى مريد " وشاع هذا في كلام الله تعالى المنزل، وكلام رسل الله - عليهم الصلاة والسلام .

قال تعالى : { وربك يخلق ما يشاء ويختار }، وقال : { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد }، وقال: { إن ربك فعال لما يريد }، وقال :{ إنما قولنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كن فيكون } كما قال تعالى : {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} .

- وقد ترجم البخاري رحمه الله " للمشيئة والإرادة " بقوله تعالى : { تؤتي الملك من تشاء }، وقوله : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله}، وقوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً ، إلا أن يشاء الله }.

- ثم دعوة القرآن الكريم أن يحيل العباد الأمور كلها إلى مشيئة الله بارزة في الآية الأخيرة، ولم يقتصر ذلك على ما يحتمل الوقوع، بل تخطاه إلى ما يقطع بوقوعه، فقد علم الله تعالى أن المسلمين سيدخلون المسجد الحرام قطعاً، ومع هذا جاء قوله ببشارة الدخول : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } فكان تعليماً ليواطئ اللسان ما انعقد عليه الجنان من أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى، وهذا نجده في كل ما كان يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم معلوما على سبيل اليقين، أو مظنونا، إنه صلى الله عليه وسلم حين دخل المقابر قال : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " ومن المقطوع به اللحاق بمن مات، لقوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } ولا يخرج عبارة " إن شاء الله " عن معناها الأصلي استعمالها أحياناً من قبل بعضهم على سبيل التسويف، أو التعليق، وهم عازمون على النقض .

- ثم إن أنسًا -رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا دعوتم الله - تعالى - فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم : إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له ".

- وعن أبي عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه، حين ناموا عن الصلاة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنالله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء " .

- كذلك لا يفهم من قولنا " مريد " بحسب اللغة ، إلا ذات ثبتت لها صفة الإرادة، إذ لا يتعقل " مريد " دون " إرادة " كما لا يكون " عليم " دون " علم "، وإن نازع في هذا من نازع .

- وجاء في تفسير العلامة البيضاوي - رحمه الله - بعد ما فسر قوله- تعالى- : {إن في خلق السموات والأرض ... }... واعلم أن دلالة هذه الآيات - أي الكونية - على وجود الله تعالى ووحدته، من وجوه كثيرة، والكلام المجمل أن هذه الظواهر : " أمور ممكنة، وجد كل منها بوجه مخصوص، من وجوه محتملة، وأنحاء مختلفة، فكان لابد من موجد قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته، وتقتضيه مشيئته " فالعالَم الذي هو أفعال الله تعالى دالٌّ على صفة الإرادة، إذ هو مختص بضروب من الجواز لا تعد، ولا يترجح ضرب منها على آخر إلا بمرجح ، والمرجح - هنا - صفة الإرادة، خذ مثلاً قضية أن الممكن ما يقبل الوجود والعدم، فالبداهة تقتضي أن الحادث - وهو ما كان عدمه سابقاً على وجوده - يجوز فيه تقدير استمرار عدمه الذي لا بداية له في جانب الماضي، فاختصاصه بالوجود، دون استمرار العدم، يفتقر - عقلاً - إلى المخصص ـ ومن خارج ذات الحادث، إذ يستحيل أن يحدث نفسه، أو بنفسه ـ لأنه غير موجود قبل ظهوره حتى يحدث نفسه، وتصور حدوثه بنفسه يناقض قانون السببية من جهة، ومن جهة أخرى يلزم منه رجحان أحد الأمرين المتساويين - في حق الحادث - وهما الوجود والعدم - دون مرجح، يضاف إليه أن العدم سابق على الوجود، وهو بهذا السبق أقوى، والأصل استمرار الحال على ما هو عليه مالم يطرأ عليه ما يغيره، ومعلوم أن صدور الفعل حال استواء الداعي إليه، وإلى تركه، محال ، فبأن يكون ممتنعاً حال كونه مرجوحا، فمن باب أولى، فالعدم - كما مر - سابق، وراجح من حيث الواقع ، فدلَّ على أن الذي رجح جانب وجود الممكن على عدمه هو الله تعالى المتصف " بالإرادة " المخصصة، وبعدم المماثلة للحوادث، ولو وجد العالم بطريق الإيجاب الذاتي، أو الطبع، أو التعليل لكان قديمًا، أو كان فاعله حادثاً، لوجوب مقارنة المعلول لعلته، وكلا الأمرين مستحيل .

- إن صدور " الحادث " الذي سبقه العدم، عن " القديم " الذي لا بداية لوجوده، بطريق " الإيجاب الذاتي " يقتضي عدم تخلف الموجب عن الموجب، والمعلول عن علته - كما في حركة الخاتم بحركة اليد - وهذا يستلزم قدم الكون، وهو باطل ، وقد تعاضدت الأدلة على حدوثه، أو يستلزم حدوث الخالق تعالى، وهو باطل أيضاً، لما يلزم من افتقاره - كالكون - إلى من يحدثه، لذا لا يتصور صدور هذا العالم إلا بطريق الإرادة، وبهذا نصل إلى أن الله - تعالى- صانع للعالم بالاختيار، قال - تعالى- : {فعال لما يريد } . و{ يخلق ما يشاء ويختار } ومن كان كذلك وجبت له الإرادة، فـالله تعالى تجب له الإرادة ، ويدخل في " الإرادة " نفي الإيجاب الذاتي، وهو إسناد الكائنات إلى الله تعالى على سبيل التعليل، أو الطبع، وكذا نفي الذهول والغفلة " .

- وقد اضطر من أنكر من الفلاسفة صفة " الإرادة " إلى القول بقدم العالم، ونسبته إلى خالقه نسبة المعلول إلى علته، وقد غفلوا عن كون العالم فعلاً، وكونه فعلاً يقتضي أنه لم يكن ثم كان، إذ الفعل حدث مقترن بزمان، وغفلوا عن أنه من الممتنع - عقلاً - أن يظهر الممكن بكل ما يجوز في حقه دفعة واحدة، لأن ما يجوز في حقه يلغي بعضه بعضاً، وبالتهاتر يسقط وجود الممكن بالكلية، ألا ترى الحال حين تتعارض إرادتان متكافئتان، إحداهما تريد الممكن طويلا ً، والثانية تريده قصيراً، وهو - في ذاته - يقبل كلاً من الطول والقصر، فبأي الصورتين يظهر الممكن ؟ فإذا علمنا أن الممكن يطلب طلباً ذاتياً كلاً من الشكلين، ويقبل أن يظهر بكل منهما، حكمنا أنه إن يظهر بالطول دون القصر كان لعامل خارجي، هذا في شكلين فحسب، فكيف إذا كان الممكن يتزاحم عليه مالا يعد من الصور والأشكال، من حيث الكم والكيف والمقدار والزمان والمكان، مما يحيل أن يظهر بها كلها لتناقضها، واختلاف ما بينها، إن الممكن - بهذه المثابة - يشبه كمية من زجاج ذائب مصهور، تصلح - أساساً - أن تتشكل بأشكال من الأواني ذات أحجام وألوان وهيئات لاتعد، ويتعذر أن تظهر بها كلها دفعة واحدة، مع قبولها لكل منها قبولاً ذاتياً، لأن كل شكل - متصور تقبله الكتلة - يلغي بظهورها فيه بقية الأشكال المتصورة ، فإن بدا في قالب كأس - مثلاً - امتنع - بالضرورة - أن تظهر بقوالب أخرى ممكنة، لأن المحل لا يقبل إلا ظهورا واحدا، وصفحة الوجود لا تسمح بظهور النقائض والمتضادات، دفعة واحدة، في موجود واحد، بآنٍ واحد، لئلا يجتمع الوجود والعدم، والبياض والسواد، والطول والقصر، وما لا يعد من المتقابلات، ومالا يعد من الصور الممكنة في حقه.

- وكما لا يظهر الممكن بإرادتين متعارضتين - كما مر - لا يظهر بإرادات متعارضة من باب أولى .

إن نظرة فاحصة إلى المخلوقات توقفنا على ما يلي :

- إنه لا توجد في الدنيا مادة مجردة عن الصورة، كما لا تفارق الصورة حاجتها إلى المادة، ولا تنفك عنها، وأنه يمكن لأي مخلوق - عقلا - أن يكون على صورة غير الصورة التي تبدى بها، ومن الممكن أن تتخلف الصور والأنظمة والأوضاع التي نشاهدها في الكون، وتتغير ببدائل أخرى، على أننا لا نعني بالصورة الشكل والقالب فحسب، بل نعني بها ما به قوام المخلوق بعامة، كمعاني الإنسانية في كيان الإنسان، وما يتميز به عن سائر الكائنات من جهة، وعن بعضه بعضاً من جهة ثانية، فالعقل لا يمنع أن تكون الأشياء من حولنا على صفة غير صفتها التي هي عليها، كمية وكيفية ومكاناً وزماناً و ... - فالأرض - مثلاً - وتوزيع اليابسة والماء عليها، ومدارها حول الشمس، وكتلتها وعناصر تكوينها، وزمان ظهورها، والليل والنهار، لا يمنع العقل أن يكون كل منها سرمدا، والماء النازل من السحاب عذبا فراتا، لا يحيل العقل نزوله ملحاً أجاجاً، ولعل " بصمة الإنسان " من أبرز الأمثلة على قبول الأشياء غير شكلها،" فالبصمة " كما هو معروف تبرز- على صغرها - فيما لا يعد من الأنماط، حتى إنه تعد بمليارات الأشكال، قدرت بثلاثة وستين ملياراً، دون أن تتطابق بصمتان، قال تعالى يشير إلى هذه المعاني : {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً } وقال : {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون } .

- وقال تعالى :{ أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون } ، إذ إن الأشياء الظاهرة تقبل الوضعيات الأخرى كلها قبولاً ذاتياً متساوياً، ومن القوانين العقلية: عدم رجحان أحد المتساويين على الآخر دون مرجح، وبدهي أن الممكن إذا كان - في ذاته - يقبل صوراً عديدة قبولاً ذاتياً متساوياً، فإنه - في ذاته - كذلك، لا يملك أن يختار صورة دون صورة، أو أن يرجح شكلاً مما يجوز في حقه على آخر، لأن نسبة الصور الممكنة لذاته نسبة متساوية، كحبل تجاذبه طرفان تساوت قوتهما، أو كجرم تعادلت فيه قوتا الجذب والطرد، لهذا إذا ظهر الممكن ببعض ما يجوز عليه دل على أن هناك من اختار الوضعية التي ظهرت بها الأشياء دون سائرها الجائزة في حقها أساساً، ودل على أن ما ظهر به إنما بفاعل خارجي - لا من ذات الممكن - وهو فاعل مختار رجح أحد المتساويات، وأمده بالغلبة، فالظهور، ولولا التخصيص ما شمَّ رائحة الوجود، بله أن يأخذ شكلاً دون شكل، وعليه ، فإن العالَم - الذي هو فعل الحق سبحانه - مختص بضروب من الجواز، لا تعد، ولا يترجح ضرب على آخر إلا بمرجح، والمرجح هو الله بما اتصف به من صفة الإرادة، وتأثير الإرادة بالتخصيص، سابق على تأثير القدرة بالإبراز، وعلم الله تعالى بما سيكون سابق عليهما، وإن كان كل من تعلق العلم، وتعلق الإرادة أزليان، ولا سبق بين التعلقين إلا في التعقل ...

- إن صفة العلم - مثل صفة الكلام والسمع والبصر والحياة - ليست من الصفات التي لها تأثير فيما تتعلق به، لأنها - ما خلا صفة الحياة - تتعلق بالأشياء على ماهي عليه تعلق انكشاف، والحياة لا تعلق لها سوى قيامها بالذات، وتعلق العلم بالأوجه الممكنة في المخلوق، لا شأن له بتخصيصه .

- وصفة " القدرة " نسبتها إلى الضدين - المتقابلين المتصورين في أي ممكن - واحدة ، ويتأتى بها كل من الضدين تأتياً واحداً ، وبروز الفعل بكلا الضدين محال ، ولا رجحان فيه لضد على ضد .

- وأما " الإرادة " فشرط في الترجيح، ويمتنع ثبوت المشروط دون شرطه، لهذا لابد من ثبوت صفة للذات - هي الإرادة - تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه .

- إن تأثير القدرة في الممكن فرع تأثير الإرادة، فربنا - تبارك وتعالى - لا يوجد من الممكنات، إلا ما أراد وجوده، ولا يعدم إلا ما أراد إعدامه، شهد بهذا الكون كله، بما فيه من نسب مضبوطة مقدرة من إشعاع، وبحر ويابسة، وغازات ووحدات كونية هائلة وتنوعات - تشمل كل الظواهر التي برزت بمقادير دقيقة، وأوجه مخصوصة - فالكون يشهد بهذا، ويشهد به ألف مليون خلية عصبية، وسبعمائة وخمسون مليون سنخ رئوي، وقوانين الحرارة، والغلاف الجوي، وظاهرة النتح في النباتات، ورقة عظام الطير، ولا أدل على هذا من البصمات.

قال تعالى : {وخلق كل شيء فقدره تقديراً } إن الآية دلت على تعلق صفات القدرة والإرادة والعلم.

وقال تعالى :{ في أيِّ صورة ما شاء ركبك }

- بعد هذا الذي هو بعض ما يعرض لبيان الحقيقة، ما أظن، بل، لا يتصور في حق الباحث حيث كان مؤمنا أن يعتقد أن هذا الكون وجد بذاته، أو كيّف ذاته بمثل هذه التنوعات دون موجد قدير مريد عالم !

الحلقة الأولى هـــنا

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين