ترجمة الشيخ محمد زرزور (1912-1982)

بقلم ولده عدنان
 
وبعض الذكريات عن «بدوي»
هو الشيخ محمد بن الشيخ ياسين بن محمد بن ياسين بن محمد زرزور، يتسلسل نسبه بهذين الاسمين أو على هذا النحو كما قرأته بخط جدي رحمه الله إلى نحو عشرين اسمًا. ونقل والدي عن أبيه أن أصل العائلة من صعيد مصر، هاجرت إلى الشام وأقامت في حي الميدان الفوقاني بدمشق.
 
ولد والدي رحمه الله في الحي المذكور عام 1912 من أبوين صالحين، وكان أبوه معلمًا في (مكتب) أو شيخ كتّاب كما كان يدعى في ذلك الحين، وكانت أمه من آل الحلبي- من حي الميدان أيضًا- معروفة بالتقوى والصلاح، وقد قامت على تربيتي أنا وأخي الأكبر الأستاذ ياسين، ولم أعهدها منذ أن أدركت إلا وهي تقوم الليل وتصوم رجب وشعبان ورمضان، وثلاثة أيام من كل شهر.. وربما يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع رحمها الله رحمة واسعة وجزاها ووالديَّ عني خيرًا.
 
وبعد أن أتم تعليمه في (مكتب) والده بدأ بطلب العلم الشرعي في حلقات الشيخ علي الدقر وعلى يد بعض تلاميذه.. ثم على الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي لم تنقطع صلته به وحبّه له وإعجابه به حتى آخر يوم في حياته ولكن ظروفه العائلية لم تمكنه من متابعة التفرغ لطلب العلم، فقد توفي والده وله من العمر نحو ثمانية عشر عامًا، ولما لم يمض على زواجه سوى بضعة أشهر، وترك له أمًّا وأخًا وأختًا في سن صغيرة.. فاشتغل بإعالتهم.
وكان قد بدأ يتردد على ا لخطاط المعروف ممدوح الشريف، ويأخذ عليه بعض الدروس وقواعد الخط، ولكنه توفي فتابع تلمذته لفترة طويلة على الخطاط بدوي الديراني. وكان يقول رحمه الله: هو أستاذي الذي علمني الخط، وكان يعدّه بقية الخطاطين العظام. وبهذه المناسبة فقد كان لبدوي ملاحظات على كثير من خطوط ممدوح رحم الله الجميع.
 
ولما اشتد عوده في الخط بدأ يكتب اللوحات والكليشات.. وصار الخط مورد رزقه، بل إن عمله في نطاق التوظيف الحكومي أولاً في دائرة النفوس- أي السجل المدني- عام 1939 ثم في وزارة المعارف كان لكونه خطاطًا، وخصوصًا في وزارة المعارف- التربية فيما بعد- لأنه يكتب الشهادات الابتدائية والإعدادية والثانوية. ولما كثر عدد الخريجين تفرغ لكتابه الشهادات الثانوية فقط. في الوقت الذي لم ينقطع فيه عن إمامة أحد المساجد الصغيرة في حي الفلايبنية بالحي المذكور. وهو المسجد الذي كان في الأصل (مكتب) والده، ثم حوّل بعد ذلك إلى مسجد.. وكان والده الشيخ ياسين الذي توفي شابًا في نحو الثانية والأربعين يعلّم في هذا المكتب مبادئ الإملاء والحساب على الطريقة القديمة قبل افتتاح المدارس الحديثة. وقد (تخرج) في هذا (المكتب) معظم شباب الحي أو فتيانه في ذلك الحين.
 
ولم تنقطع صلة والدي بأستاذه «بدوي» طيلة حياته، بل توثقت خصوصًا بعد أن أصهر أخي الأستاذ ياسين على الأستاذ بدوي وتزوج ابنته. بل كان والدي- كما لاحظت في بعض المواقف- لا يستغنى عن مشورة أستاذه والرجوع إليه أمام بعض اللوحات الضخمة أو الكبيرة التي كان يكلف بكتابتها، وبخاصة في نطاق خط (الثلث) للإفادة من خبرته في فن التركيب الذي كان بدوي يجيده، بوصفه- أي فن التركيب- جزءًا لا يتجزأ من هذا الخط أو من هذا النوع من أنواع الخطوط، علمًا بأن الخطاط «بدوي» برع في جميع أنواع الخطوط.. وبخاصة الثلث الذي يعد أعلى أو أصعب أنواع الخطوط، و(الفارسي)- أو الانسيابي- الذي طوّره كذلك وأدخل عليه بعض «الجماليات» الجديدة.. وأشاعه أو (فرضه) في سوق الخط ببلاد الشام.
 
وعلمًا كذلك بأن بدوي كان يقدم الخطاط حسني (البابا فيما أظن) على نفسه في القدرة على تركيب لوحات الخط الثلث.. أو في المدة اللازمة لفراغه من هذا التركيب على أقل تقدير؛ فقد سمعته مرة يقول: إن ما يركّبه حسني في ساعة واحدة أركبه أنا في يوم! أو: إن ما أكربه أنا في يوم يركبه حسني في ساعة!
وكان بدوي يتفنن في كتابة الخط الثلث- في كثير من الأحيان- بقطع الحروف، وأعني كتابة بعض حروف الوصل حروف قطع.. يستعين بها على التركيب وملء المساحات من جهة، ولأن هذا يضفي جمالية- وفينطاق التقابل والتوازن بخاصة- من جهة أخرى. فكلمة «تجري» يكتبها هكذا: وكلمة «عفا»: .. وهكذا.
 
وزار مرة تركية واطلع في مساجدها وقصورها على خطوط الخطاطين الأتراك العظام.. ولفت نظره مثل هذا القطع الذي أشرنا إليه.. وكانت اللوحات كبيرة الحجم وبارعة القوة والجمال.. فسمعته يحدّث والدي- وقد زارنا في البيت- قائلاً: يا شيخ محمد. إن حرف العين (ع) أو الحاء (ح) الذي رأيته في تركيب بعض لوحات الثلث- أظن في جامع بورصة- «أتربع» فيه.. وإياك!!
رحم الله والدي الكريم ورحم الأستاذ بدوي رحمة واسعة.