ترجمة السيد محمد مسعود الكواكبي -3-

 

وفي رحلتي إلى دمشق في العام الماضي سنة 1347 في مهمَّة تتعلق بالمدارس العلمية والمدرسة الخسرويَّة وأرباب الشعائر الدينيَّة ، زرته في بيته الذي كان يقطنه في محلة الشهداء ، ودار بيننا أحاديث كثيرة ، وأنشدني من لفظه أرجوزة نظمها لتُلقى في جمعية شبان المسلمين التي كان يسعى في تأسيسها في دمشق ، وكان فيها العامل الأكبر ، وبعد ذلك أتحفني بها بخطِّه الجميل  ،ونُشرت في مجلة الفتح المصريَّة ، بدون توقيع ولعلها من آخر نظمه ، وهي : 

 

ربي في بدء المقال أحمد=مُصَلياً على الرسول أحمدْ

مَنْ جاءنا من جانب الخلَّاق=مُتمِّمـاً مكارم الأخلاق

وآله وصحبه الهادينا=من أيّدوا بالجد هذا الدينا

وبعد فاصحوا أيها الأُباة=فإنه طال بنا السُّبات

بدون سعي ليس يكفينا الدعا=إذ ليس للإنسان إلا ما سعى

إن لم يصاحب عملاً توكلُ=من الفتى فذلك التأكُّلُ

لا فخر في مكارم الأسلافِ=إلا لمقْتف من الأخلافِ

ما الفخرُ في مآثر الأجداد=وما لنا منها سوى التَّعدادِ

ماذا يفيد شَمَمُ الآباءِ=إذا خلا النَّسل من الإباءِ

بقدر إحتياجنا إلى الأمم=نُبعد عن عزَّة نفس وشَمَمْ

والمرءُ مأسور لما يحتاجُ=حتى ذوو ملك عليهم تاجُ

فَلْنعن في تربية البنينا=تربية عن غيرنا تُغْنينا

وذاك في الفنون والصنائع=فهي أساس هذه البدائع

ولنأخذ الحكمة لا نهتمُّ=بجنس مَنْ فيها به نأتمُّ

أما الذي يُبدِّل فينا زيَّه=فذاك نَذل فاقد المزيَّه

رقيُّ أهل الغرب في صنعتهم=لا في سفورهم وقبعتهم

وإنما التقدُّم المحمودُ=أنْ يُبْدَل الخمولُ والجمودُ

فلنجتهد فيما به صلاحُنا=ولا يتمّ دونهُ فلاحُنا

وأن تكون اليدُ منا واحدة=في درءِ ما يبثّه الملاحدة

معظم ما نراه من فظائع=لم ينبعث عن مقتضـى الطبائع

فالمرء في طبع سليم فطرته=يفسده قرينه أو أسرته

قالوا -وتلك قولة الشقيِّ - :=يمنعنا الدين من الرُّقي

ألم يكن ذا الدين في نَضَارة؟=يوم أقام تلكم الحضارة

وهل سوى الأئمة الأعلام=مُؤسِّسو حضارة الإسلام

لكن مريد العيش كيف شاء=يبغضُ ديناً يحظر الفحشاء

ما حرَّم الرحمن شيئاً عَبَثاً=لكن لكونه مُضـراً خبثا

وكل ما شرعه في شرعته=فهو لما يعلم من منفعته

فكم من الشـر بهذا السكر=نحول جسم وخمول فكر

وكم من الأسواء في القمار=من قتل أسرة ومن دمار

صواحب الخدور والجمال=إن رحن يبرزن إلى الرجال

يزينهن تلكم الأزياء=يرتفع الإيمان والحياء

وليس بعد ذاك الاختلاط=عدٌّ لأولاد الزنا الأملاط

وهذه طلائع الإباحة=وإنَّ فيه منتهى القباحة

ما أمة في مثل ذا تهورت=إلا وعُقْبى الأمر أن تدهورت

ما زان ذات الخدر مثل العفّة=ولم يشنها شائن كالخفّة

هل تستوي ثنتان ذي معاهرة=دنيئة وذي حَصَان طاهرة

مَنْ يرض للمرأة خدْناً غَيْرَهْ=فماله إذن عليها غَيْرَةْ

لأن ذا يغاير الحصانَهْ=وإنَّ من أحبَّ شيئاً صانَهْ

فهذه أفكارنا نبُثُّهَا=في أمّةٍ على التُّقى نحثُّها

جمعنا على الهدى ائتلاف=فليس فيما بيننا اختلاف

السَّعي في شيوخنا بالحزم=والسَّعي في شبابنا بالعزم

ما اجتهد العبد بصدق النية=فخاب ما يرجوه من أمنية

فنسأل الله لهذا العملِ=تحقيق ما لنا به من أملِ

وأن يزيد النفع في تعميمه=ويخلق التيسير في تتميمه

 

مرضه ووفاته : 

ابتدأ به المرض بالتهاب أمعاء بسيط لم يدم أكثر من ثلاثة أيام ، وشفي منه تماماً ، ولكن نوبة جديدة أصابته في الدماغ ، على أثر التوعُّك والضعف الذي أصابه من التهاب المعي ، وهذه النوبة تدعى في الطب«نزف دماغي» لبثَ فيها مُغمى عليه لا حسَّ به ولا حركة مدَّة أسبوع كامل ، ثم توفي ليلة الجمعة خامس عشر ربيع الثاني سنة  1348،الموافق 19أيلول سنة 1929 ، ودفن حسب وصيَّته في أقرب تربة من البيت الذي يقطنه ، وهي تربة نبي الله ذي الكفل عليه السلام في جبل قاسيون في صالحيَّة دمشق . 

 

صفته وأخلاقه : 

كان رحمه الله تعالى مربوعَ القامة ، أسمرَ اللون ، نحيفَ الجسم ، أزجَّ الحاجبين ، أسود العينين ،تشفَّان عن ذكاء مفرط وقلب زكي ، دمث الأخلاق ، كثير البشْر عند الملاقاة ، متأنياً في أقواله وأفعاله ، يأتيك بفصل الخطاب بعد تروٍّ قليل ، محبوباً عند الجمهور من المسلمين وغيرهم لحُسْن سلوكه في كلِّ عمل وَلِيَهُ ، فلم تكن تُطلق حرية الكلام والانتخاب للناس في مرة إلا وكان في مقدّمة من يرشَّح ويُنتخب للعمل ، ولكن لما كان يعقب ذلك تَسُلُّط المتسلِّطين على حرية الناس وعلى المناصب كان ينسحب ولا يُزاحم . 

 وكان محباً للنفع العام ، لا يدع فرصة يؤمِّل منها خدمة البلاد إلا انتهزها ، فمن ذلك يوم إعلان المشروطيَّة  ،سنة ست وعشرين وثلاثمئة ، إذ كان في الآستانة ، فإنه خاف من سُوء تفسير الحوادث التي حدثت ، وعودها على الموضوع بالعكس ، فأسرع إلى كتابة تفاصيل الوقائع في رسائل طويلة ، يبعث بها إلى بعض أحبائه ، ولما رأيت أنَّ فيها تهدئة للأفكار  ، جعلت أطبعها وأذيعها على الناس في حلب ، فكان لها أحسن وقع لما هو معهود في المترجَم من صدق الحديث ،والوقوف على الحقائق ، واطمأنَّ الناس بها وانتصح الكثيرون ممَّن لم يكونوا يعلمون ما هي الحرية فيظنونها شيئاً من الفوضى وخلع العذار . 

وكان رحمه الله تعالى متحلياً بالتقوى ، متمسِّكاً بالدين ، الصلاحُ صفة ذاتيَّة له ، وحُسْنُ المعاملة أمر طبيعيٌّ فيه ، حَسَن العقيدة لا ترى فيها شيئاً من العوج الذي عليه بعض ذوي المعرفة أو مُدَّعيها من أهل هذا العصر ، مُبغضاً لمن كان على هذه الصفة ، مؤنّباً له ، وأرجوزته التي قدَّمناها مُشْعِرة بذلك ، مُعْربة عما هناك .

وبالجملة فإنه لم يكن فيه شيء يشينه أو يُلام عليه ، سوى أنه لم يكن فيه من الجرأة ما كان في أخيه المرحوم السيد عبد الرحمن( ) ، وقد ليمَ على صمته في المجلس النيابي الذي كان انعقد في الآستانة عدّة سنوات ، وكان من أعضائه ـ كما قدَّمنا ـ فاعتذر عن ذلك بأبيات ذكرناها في نظمه .

ومختصر القول فيه: أنه كان حسنةً من حسنات الشهباء ، ودرّةً فريدة في تاجها ، وكانت خسارتنا به عظيمة ، وما أجدره بقول الشاعر : 

وما كان قيسٌ هلكه هلك واحد=ولكنَّه بنيانُ قومٍ تهدَّما

فرحمهُ الله رحمة واسعة ، وأغدق على جدثه شآبيب المغفرة والرضوان . 

في 25 جمادى الثانية سنة 1348هـ . كتبه

محمد راغب الطباخ الحلبي

 

تنظر الحلقة السابقة هـــنا