![ترجمة السيد محمد مسعود الكواكبي -3-](https://islamsyria.com/storage/Setting/default_image/no.png)
وفي رحلتي إلى دمشق في العام الماضي سنة 1347 في مهمَّة تتعلق بالمدارس العلمية والمدرسة الخسرويَّة وأرباب الشعائر الدينيَّة ، زرته في بيته الذي كان يقطنه في محلة الشهداء ، ودار بيننا أحاديث كثيرة ، وأنشدني من لفظه أرجوزة نظمها لتُلقى في جمعية شبان المسلمين التي كان يسعى في تأسيسها في دمشق ، وكان فيها العامل الأكبر ، وبعد ذلك أتحفني بها بخطِّه الجميل ،ونُشرت في مجلة الفتح المصريَّة ، بدون توقيع ولعلها من آخر نظمه ، وهي :
ربي في بدء المقال أحمد=مُصَلياً على الرسول أحمدْ
مَنْ جاءنا من جانب الخلَّاق=مُتمِّمـاً مكارم الأخلاق
وآله وصحبه الهادينا=من أيّدوا بالجد هذا الدينا
وبعد فاصحوا أيها الأُباة=فإنه طال بنا السُّبات
بدون سعي ليس يكفينا الدعا=إذ ليس للإنسان إلا ما سعى
إن لم يصاحب عملاً توكلُ=من الفتى فذلك التأكُّلُ
لا فخر في مكارم الأسلافِ=إلا لمقْتف من الأخلافِ
ما الفخرُ في مآثر الأجداد=وما لنا منها سوى التَّعدادِ
ماذا يفيد شَمَمُ الآباءِ=إذا خلا النَّسل من الإباءِ
بقدر إحتياجنا إلى الأمم=نُبعد عن عزَّة نفس وشَمَمْ
والمرءُ مأسور لما يحتاجُ=حتى ذوو ملك عليهم تاجُ
فَلْنعن في تربية البنينا=تربية عن غيرنا تُغْنينا
وذاك في الفنون والصنائع=فهي أساس هذه البدائع
ولنأخذ الحكمة لا نهتمُّ=بجنس مَنْ فيها به نأتمُّ
أما الذي يُبدِّل فينا زيَّه=فذاك نَذل فاقد المزيَّه
رقيُّ أهل الغرب في صنعتهم=لا في سفورهم وقبعتهم
وإنما التقدُّم المحمودُ=أنْ يُبْدَل الخمولُ والجمودُ
فلنجتهد فيما به صلاحُنا=ولا يتمّ دونهُ فلاحُنا
وأن تكون اليدُ منا واحدة=في درءِ ما يبثّه الملاحدة
معظم ما نراه من فظائع=لم ينبعث عن مقتضـى الطبائع
فالمرء في طبع سليم فطرته=يفسده قرينه أو أسرته
قالوا -وتلك قولة الشقيِّ - :=يمنعنا الدين من الرُّقي
ألم يكن ذا الدين في نَضَارة؟=يوم أقام تلكم الحضارة
وهل سوى الأئمة الأعلام=مُؤسِّسو حضارة الإسلام
لكن مريد العيش كيف شاء=يبغضُ ديناً يحظر الفحشاء
ما حرَّم الرحمن شيئاً عَبَثاً=لكن لكونه مُضـراً خبثا
وكل ما شرعه في شرعته=فهو لما يعلم من منفعته
فكم من الشـر بهذا السكر=نحول جسم وخمول فكر
وكم من الأسواء في القمار=من قتل أسرة ومن دمار
صواحب الخدور والجمال=إن رحن يبرزن إلى الرجال
يزينهن تلكم الأزياء=يرتفع الإيمان والحياء
وليس بعد ذاك الاختلاط=عدٌّ لأولاد الزنا الأملاط
وهذه طلائع الإباحة=وإنَّ فيه منتهى القباحة
ما أمة في مثل ذا تهورت=إلا وعُقْبى الأمر أن تدهورت
ما زان ذات الخدر مثل العفّة=ولم يشنها شائن كالخفّة
هل تستوي ثنتان ذي معاهرة=دنيئة وذي حَصَان طاهرة
مَنْ يرض للمرأة خدْناً غَيْرَهْ=فماله إذن عليها غَيْرَةْ
لأن ذا يغاير الحصانَهْ=وإنَّ من أحبَّ شيئاً صانَهْ
فهذه أفكارنا نبُثُّهَا=في أمّةٍ على التُّقى نحثُّها
جمعنا على الهدى ائتلاف=فليس فيما بيننا اختلاف
السَّعي في شيوخنا بالحزم=والسَّعي في شبابنا بالعزم
ما اجتهد العبد بصدق النية=فخاب ما يرجوه من أمنية
فنسأل الله لهذا العملِ=تحقيق ما لنا به من أملِ
وأن يزيد النفع في تعميمه=ويخلق التيسير في تتميمه
مرضه ووفاته :
ابتدأ به المرض بالتهاب أمعاء بسيط لم يدم أكثر من ثلاثة أيام ، وشفي منه تماماً ، ولكن نوبة جديدة أصابته في الدماغ ، على أثر التوعُّك والضعف الذي أصابه من التهاب المعي ، وهذه النوبة تدعى في الطب«نزف دماغي» لبثَ فيها مُغمى عليه لا حسَّ به ولا حركة مدَّة أسبوع كامل ، ثم توفي ليلة الجمعة خامس عشر ربيع الثاني سنة 1348،الموافق 19أيلول سنة 1929 ، ودفن حسب وصيَّته في أقرب تربة من البيت الذي يقطنه ، وهي تربة نبي الله ذي الكفل عليه السلام في جبل قاسيون في صالحيَّة دمشق .
صفته وأخلاقه :
كان رحمه الله تعالى مربوعَ القامة ، أسمرَ اللون ، نحيفَ الجسم ، أزجَّ الحاجبين ، أسود العينين ،تشفَّان عن ذكاء مفرط وقلب زكي ، دمث الأخلاق ، كثير البشْر عند الملاقاة ، متأنياً في أقواله وأفعاله ، يأتيك بفصل الخطاب بعد تروٍّ قليل ، محبوباً عند الجمهور من المسلمين وغيرهم لحُسْن سلوكه في كلِّ عمل وَلِيَهُ ، فلم تكن تُطلق حرية الكلام والانتخاب للناس في مرة إلا وكان في مقدّمة من يرشَّح ويُنتخب للعمل ، ولكن لما كان يعقب ذلك تَسُلُّط المتسلِّطين على حرية الناس وعلى المناصب كان ينسحب ولا يُزاحم .
وكان محباً للنفع العام ، لا يدع فرصة يؤمِّل منها خدمة البلاد إلا انتهزها ، فمن ذلك يوم إعلان المشروطيَّة ،سنة ست وعشرين وثلاثمئة ، إذ كان في الآستانة ، فإنه خاف من سُوء تفسير الحوادث التي حدثت ، وعودها على الموضوع بالعكس ، فأسرع إلى كتابة تفاصيل الوقائع في رسائل طويلة ، يبعث بها إلى بعض أحبائه ، ولما رأيت أنَّ فيها تهدئة للأفكار ، جعلت أطبعها وأذيعها على الناس في حلب ، فكان لها أحسن وقع لما هو معهود في المترجَم من صدق الحديث ،والوقوف على الحقائق ، واطمأنَّ الناس بها وانتصح الكثيرون ممَّن لم يكونوا يعلمون ما هي الحرية فيظنونها شيئاً من الفوضى وخلع العذار .
وكان رحمه الله تعالى متحلياً بالتقوى ، متمسِّكاً بالدين ، الصلاحُ صفة ذاتيَّة له ، وحُسْنُ المعاملة أمر طبيعيٌّ فيه ، حَسَن العقيدة لا ترى فيها شيئاً من العوج الذي عليه بعض ذوي المعرفة أو مُدَّعيها من أهل هذا العصر ، مُبغضاً لمن كان على هذه الصفة ، مؤنّباً له ، وأرجوزته التي قدَّمناها مُشْعِرة بذلك ، مُعْربة عما هناك .
وبالجملة فإنه لم يكن فيه شيء يشينه أو يُلام عليه ، سوى أنه لم يكن فيه من الجرأة ما كان في أخيه المرحوم السيد عبد الرحمن( ) ، وقد ليمَ على صمته في المجلس النيابي الذي كان انعقد في الآستانة عدّة سنوات ، وكان من أعضائه ـ كما قدَّمنا ـ فاعتذر عن ذلك بأبيات ذكرناها في نظمه .
ومختصر القول فيه: أنه كان حسنةً من حسنات الشهباء ، ودرّةً فريدة في تاجها ، وكانت خسارتنا به عظيمة ، وما أجدره بقول الشاعر :
وما كان قيسٌ هلكه هلك واحد=ولكنَّه بنيانُ قومٍ تهدَّما
فرحمهُ الله رحمة واسعة ، وأغدق على جدثه شآبيب المغفرة والرضوان .
في 25 جمادى الثانية سنة 1348هـ . كتبه
محمد راغب الطباخ الحلبي
تنظر الحلقة السابقة هـــنا
![](https://islamsyria.com/front/imgs/bg-vector.png)
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول