ترجمة السيد محمد مسعود الكواكبي -1-

توفي في مثل هذا اليوم في دمشق قبل تسعين عاما في 15 من ربيع الآخر سنة 1348، الموافق 19 من أيلول سنة 1929 العالم الكبير الشيخ مسعود الكواكبي الحلبي عن 67 عاما، وهو الأخ الأصغر للشيخ عبد الرحمن الكواكبي.
وكان الشيخ مسعود نائب حلب في مجلس النواب العثماني، ونقيب أشراف حلب، وعضو المجمع العلمي في دمشق، وعضومحكمة التَّمييز في دمشق.رحمه الله تعالى. أحببنا نشر هذه الترجمة في ثلاث حلقات متتالية لطولها، وللتعريف بعالم من علماء هذه الأسرة العلمية العريقة  في الوقت الذي تشن فيها هجمة ظالمة جهلاء ،تنال من مكانة هذه الأسرة ونسبها ، ومنزلتها في العلم والدين.  
وبمناسبة ذكرى وفاة هذا العالم الجليل نننشر هذه الترجمة الحافلة التي كتبها صديقه العلامة المؤرخ محمد راغب الطباخ ونشرها في مجلة " الاعتصام" الحلبية سنة 1348، وكان الأستاذ الشيخ مجد مكي – وفقه الله - نشرها ضمن مقالات العلامة الطباخ والتي صدرت في مجلدين كبيرين. 
ترجمة السيد محمد مسعود الكواكبي( )
الحلقة الأولى

 

 


1281-1348هـ 

ولو كان سهماً واحداً لاتَّقيتُه= ولكنَّه سهمٌ وثانٍ وثالثُ

يا لله من دهر يأتينا بالمصائب بعد المصائب ، وينهالُ علينا بالخطوب والكوارث ، فلا نكادُ ننتهي من واحدة إلا وتعقبها الأخرى ، ذلك دأبنا معه ، وتلك حالتنا فيه ، وأنَّى لدرع صَبْرنا أن يقاوم تلك السهام وقد تكسَّرت النِّصال على النِّصال ، وأنَّى لقلوبنا أن تتحمّل . 
صُبَّت علينا مصائبٌ لو انَّها= صُبَّتْ على الأيام عُدْنَ لياليا

فُجِعَتْ الديارُ الحلبيَّة بالأمس بالعلَّامة الشيخ :  بشير الغزي ، وتلاه العلَّامة الشيخ أحمد المكتبي ، وتلاهما الأستاذ الصَّديق الشيخ :  محمد الحنيفي ، وفقيه هذه الديار شيخنا الشيخ محمد الزرقا ، وقفَّى على أثرهم الفقيه الأديب الشيخ كامل الهبراوي( ) ، فانطفأت تلك المصابيحُ التي كانت تَستنير بهم هذه البلاد في سنين مُتقاربة ، فرحلوا عن هذه الديار وكأنَّهم لم يأتُوا إليها . 
فكأنه بَرْقٌ تألَّق في الحِمى        ثمَّ انطوى فكأنَّه لم يلمع
وأصبحنا بعد أُفول هذه الشموس المشرقة نرفع الصوت ونقول : 
خَلَت الديار فلا كريم يُرتجى        منه النَّوالُ ولا مليح يعشق 
وما كدنا نمسحُ الدمع المُسْترسل لغيبوبة تلك الأقمار تحت أطباق الثَّرى حتى فاجأتنا الأنباءُ البرقيَّة من دمشق بوفاة عَلَمٍ من أعلام الشهباء ، وركنٍ عظيمٍ من أركانها، له في شرف النَّسب وكرم المَحْتِد الذِّروةُ العليا ، فكان لهذا النبأ العظيم رنَّة صدَّعت القلوب وأفاضت الدمع إلا أنَّه لم يسعنا تلقاء هذا المصاب الجلل إلا الاسترجاع وتلقِّيه بالصبر الجميل ، فذلك خيرُ ما يُلتجأ إليه ويتدرَّع به ، فإنَّ ذلك القضاء المُحَتَّم لا محيد عنه ولا مندوحة لكلِّ نفس منه «لابدَّ من صَنْعَا وإن ْطال السفر» . 
وإني لمحبَّتي له ومعرفتي بفضلة الغزير ومعاشرتي له مدَّة طويلة ، أحببتُ أن أُترجم هذا الراحل الكريم ، وأذكر ما لديَّ من أشعاره وآثاره ، وقد كان أتحفني بذلك كلِّه حالَ حياته بطلبٍ مني ، فكان بذلك المنعمَ المتفضِّلَ وهو عندي بخطه ، وأحببتُ بل اقترح عليَّ غير واحد من مُحبِّيه وعارفي فضله أن أنشر ذلك في صفحات « الاعتصام »   تخليداً لذكره في بطون الكتب على ممرِّ الأجيال وكرِّ العصور . 


نسبه : 


هو محمد مسعود أبو السعود بن الشيخ أحمد بهائي بن محمد مسعود بن الحاج عبد الرحمن بن الحاج محمد بن محمد بن الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد الشيخ أبي يحيى الكواكبي ، دفين الجامع المعروف به في محلة الجلُّوم الصُّغرى ، ابن برهان الدين إبراهيم ، بن علاء الدين علي، بن شيخ المشايخ والعارفين صدر الدين موسى الأردبيلي، بن الشيخ صفي الدين إسحاق الأردبيلي، بن الشيخ أمين الدين جبريل ، بن الشيخ صالح ، بن الشيخ أبي بكر قطب الدين أحمد حيدر «زاوة في الهند 570 =670» بن الشيخ صلاح الدين رشيد ، بن الشيخ محمد الحافظ ، بن الشيخ عوض الخوَّاص، بن الشيخ فيروز شاه البخاري ، بن الشيخ محمد المهدي ، بن بدر الدين حسن شرف شاه، بن أبي القاسم محمد بن ثابت بن حسين بن أحمد ، بن الأمير داود بن علي ، بن الإمام موسى الثاني ، بن الإمام إبراهيم المرتضى بن الإمام موسى الكاظم ، بن الإمام جعفر الصادق ، بن الإمام محمد الباقر ، بن الإمام علي زين العابدين ، بن الإمام الحسين السبط ، بن الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ورضي عنهم . 


ولادته ونشأته : 
 

ولد في الثلاثين من شعبان سنة إحدى وثمانين ومئتين وألف( ) ، وحفظ نحوَ النصف من القرآن العظيم ، وقرأ العلوم العربية والمنطق والفقه الحنفي على والده، وعلى الشيخ محمد الكحيل، والشيخ عبد القادر الحمصي، وتعلَّم مبادئ التركية والرياضيات، واللسان الفرنسوي في المدرسة الرُّشديَّة الرسميّة بحلب ، ثم استزاد من الفرنسويَّة قراءةً وكتابةً على معلِّمين مخصوصين ، ثم أكبَّ على المُطالعة فأكمل اللسان التركي، وحصل من الفنون العصريَّة مثل الطبيعيات والهندسة والجغرافيا والتاريخ والهيئة على حظٍّ وافر، وتعلّم الخطَّ عند الشيخ محمد العريف في المدرسة الشَّرَفية حينما كان يُعلِّم فيها، وبرع في أنواعه الثلاث ، ثم بالممارسة تعلَّم الخط الفارسي والديواني ، ثم سَمَت نفسه إلى تعلُّم الخط العبراني والرومي والأرمني . 


ما تولاه من المناصب : 


أول منصب تولاه : مُعاون محرِّرِ المقاولات( ) ، وذلك في 4جمادى الأولى سنة 1297 ،وفي غُرَّة جمادى الثانية من سنة 1301 ، عُيِّن إلى ترجمة محكمة التجارة ، وفي 17 من المحرم من سنة 1308 ، رُقِّي إلى رئاسة الكتاب فيها . 
وفي 13من ربيع الأول سنة 1312 ، طلب إلى الآستانة ، وهناك كلِّف لإنشاء جريدة تدعى «استقامت» أمر السلطان عبد الحميد الثاني بإصدارها باللغتين العربية والتركية لتدافع عن إدارته ، فذهب واجتهد في التَّنصُّل من هذا التكليف ، وأقام إلى 26 محرم سنة 1313 ، وكان قد صرف النظر عن الجريدة فعاد إلى حلب .
 ثم في 25 ربيع الأول سنة 1314 ، عُيِّن مرة ثانية إلى رئاسة الكتاب في محكمة التجارة ، وبقي إلى 2 ربيع الأول سنة 1319 ، ثم عُيِّن مديراً لمدرسة الصنائع فلم يُباشرها ، وذهب إلى الآستانة فَعُيِّن إلى عضويَّة هيئة تدقيق المؤلفات في نظارة المعارف إلى أن أُلْغيت الهيئة المذكورة بإعلان المشروطيَّة .
 وفي تلك الأثناء عقدت جمعيَّة حضرها كل عربي في الآستانة ، وهم مئات ، وشكّلوا حزباً سياسياً باسم «جمعية الإخاء العربي» فانتخب المترجَم باسم حلب في اثنين وعشرين عضواً . 


انتخابه لمجلس النوَّاب العثماني : 

 

لما حصل الانقلاب العثماني ، وأعلنت المشروطيَّة في عهد السلطان عبد الحميد خان العثماني ، وذلك في سنة 1326 ، وصدر الأمر بافتتاح مجلس النوَّاب العثماني ، وأن تنتخب كل نوَّابها ،كان المترجَم في مقدِّمة من توجَّهت الأنظار لانتخابه ، وذلك لما عُلم من مقدرته وكفاءته واستقامته ، وكنت وقتئذ في مقدِّمة الدعاة إليه ، ونشرتُ يومئذ نشرةً بيَّنتُ فيها مزاياه ، فكان ثاني ستَّة من المُنْتَخَبين عن نفس الشهباء ، وذلك في 27 رمضان سنة 1326 ، فتوجَّه مع بقية النوَّاب إلى الآستانة ، وهناك انتظم في لجنة الاستدعاء من المجلس النيابي ، وكان من أعضاء الحزب الحر المعتدل ، ثم عند إلغاء هذا الحزب وتشكُّل حزب الحريَّة والائتلاف كان من أعضائه ، وصدر باسمه بضعة أعداد من جريدة للحزب دُعِيَت «تقديرات» ، ثم ألغتها حكومة الاتحاديين ، وبقي السنين الأربع التي هي الدورة الأولى .  

 

تعيينه لنقابة أشراف حلب : 


وفي أثناء وجوده في الآستانة ، عُيِّن لنقابة أشراف حلب ، وذلك في 22 ربيع الأول سنة 1327 ، وبقي فيها إلى غاية جُمادى الآخرة سنة 1338 ، ومن تولى نقابة أشراف حلب يُسْنَد إليه تولية الوقف المشهور بوقف بشير باشا الواقع مسجده وعقاراته في مكان واحد من المحلَّة المعروفة بالجدَيْدَةِ ، وقد تكلَّمت على هذا الوقف في الجزء الثالث من تاريخي «أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء» ص263 ، وذكرت ثمَّة أنه انتقل إلى المترجَم بعد وفاة الشيخ أبي الهدى الصيادي . 
ولما كان في توليته قام بأمره أحسن قيام ، ورمَّم عقاراته ، فازدادت الرغبة فيه ، ونَمَا رَيْعُه وتبلغ وارادت هذا الوقف 1500 ليرة عثمانية ذهباً .
 ومبلغ كبير من ريع هذا الوقف اشترط واقفه أن يُرْسَل إلى الحرمين الشريفين في كُلِّ سنة ليُصْرَف في جهات مخصوصة ، وفي أثناء الحرب العامَّة ، حالت الحوائل دون إرسال ما هو مخصَّص للحرمين وبقي في صندوق الوقف ، فاجتمع لديه منه مبلغ لا يُستهان به ، ولما فُصِل عن نقابة الأشراف في التاريخ المتقدِّم ، وعُيِّن لها السيد عبد الرزاق الصَّيَّادي النقيب الحالي سلَّم المترجَم هذه المبالغ لدائرة الأوقاف . 
 والدائرةُ لم ترسلها إلى الحرمين وتَصَرَّفت فيها كما تريد، وَلِيمَ المترجَم على تسليمه هذه الأموال للدائرة ، وأنَّ الأوْلى به أن يُرسلها رأساً إلى الحرمين أو أن يُوزِّعها على مَنْ في الشهباء اليوم من المهاجرين من أهل المدينة المنوَّرة ، وكنت من جملة اللائمين له ، وعَدَدْنا ذلك هفوةً منه رحمه الله تعالى . 
 ثم على إثر إنسحاب الدولة التركية من حلب ، وُحِّدت محكمة الحقوق والجزاء فَجُعلتا محكمة واحدة ، وانتخب إلى رئاستها فلم يقبلها . 
ثم عُيِّن مديراً للأوقاف بحلب في 29 محرم سنة 1337 ، وبقي فيها عشرين يوماً ، واسْتَعْفَى ، وكان أثناءها قد انتخب إلى رئاسة نادي العرب ، فبقي فيها نحو ستة أشهر ، ثم انسحب عن كلِّ عمل إلى أن أُلِحَّ عليه بقَبول رئاسة ديوان الرسائل في مديريَّة الداخليَّة عند استقلال دولة حلب فَقَبل ، لكن لدى الكتابة إلى الحكومة المُنْتَدَبة بذلك لم توافق عليه مُتَعلِّلةً بأن ترجمته عندها لا تسمح لها بقَبوله فبقي معتزلاً . 
وفي سنة 1923م انتخب إلى عضويَّة المجمع العلميِّ في دمشق ، وكان يعهد إليه النظر في بعض الكتب المطبوعة التي تَرِِدُ إلى المجمع ، وكان يكتب عليها كتابةَ خبير بصير ، ويُبيِّن كثيراً مما وقع فيها من الأغلاط المطبعيَّة ، ممَّايدل على تَضَلُّعه في اللغة العربيَّة .
 وأول ما كتب عليه كتاب «معاني الشعر» لأبي عثمان الأشنانداني الذي طُبع في دمشق ، وذلك في المجلد الثالث من المجلة (ص347) الصادر سنة 1341هـ ، وسنة 1923م .
 وآخر كتابته ما كتبه على نسخة من صحيح البخاري رواية الحافظ أبي عمر بن َسعَادة ، كانت في مكتبة جامع القرويين بفاس  ،ثم فُقِدت منه ، ثم ظهرت أخيراً وأخذ عنها فرع التصوير الشمسي ، وذلك في الجزء السابع من المجلد التاسع ص448 ، المؤرخ في المحرم من هذه السنة 1348 . 
وفي شعبان سنة 1340 ، اجتمعت جمعيَّة من المفكِّرين ، فانتخبته في اثني عشر للمداولة فيما يجب عمله إصلاحاً للحالة الوطنيَّة ، فقرَّروا مطالب ثلاثة وكتبوها ،فوقَّع عليها أهل الطبقة الأولى والثانية من الحلبيـين ، وكان لها تأثير بتوحيد سوريا بعد تفريقها إلى دول . 
 وفي الشهر المذكور اجتمع كبارُ مُتَولِّي الأوقاف وشكَّلوا نقابة للمُتَولِّين ، فانتُخب للهيئة الإداريَّة . 
 ثم في ذي الحجّة من هذه السنة عندما تشكَّلت الحكومة الاتحاديَّة عُيِّن إلى كاتميَّة سرِّ الرئاسة فبقي إلى جمادى الثانية من سنة 1341 إذ عُيِّن إلى عضويَّة محكمة التَّمييز في دمشق ، فقام بأعبائها أحسن قيام . 
وقد جمع إلى الاستقامة وشرف النفس دقَّةَ النظر وسُرعةَ الخاطر وعُلوَّ الهمَّة ، ولم يزل في هذه الوظيفة إلى أن فُصِل عنها في 3 ذي الحجة سنة 1347و20حزيران سنة 1928 ، وذلك بقرار من رئيس مجلس الوزراء القاضي بتأليف أعضاء جُدُد لمحكمة التَّمييز السوريَّة، فلزم بيته القاطن فيه بدمشق في محلّة الشهداء. 


رُتَبُهُ : 


وكان له من الدولة التركيَّة وسامٌ مجيديٌّ ومدرسية أدرنة ، ثم رفع إلى باية أزمير المجردة سنة 1325 ، ثم إلى باية المخرج في محرم سنة 1337 . 


خُطَبُهُ المنبريَّة : 


وتولَّى خطبة جامع أوغلبك منذ سنة 1305 ، ولم يكن مَسْلَكُه في الخطبة مسلك الجمهور من تلاوة بعض المواعظ المدوَّنة المسجَّعة ، التي حفظها الناس لكثرة تردُّدها على أسماعهم ، بل كان في كلِّ جمعة يتكلَّم على موضوع اجتماعيٍّ له مناسبة بما عليه الناس من عادة سيِّئة ، فلذلك كان المستمعون يُلقون إلى خطبته السمع ، ويحصل منها - بتوفيقه تعالى - النفع الجزيل . 
تنظر الحلقة الثانية هنا 
-------------
  - مجلة ( الاعتصام ) الحلبية ، الجزء السابع : ( رجب 1348هـ = 1928م ) . 
(1) المتوفى يوم الخميس 18 شعبان 1346 هـ عن 81 عاماً رحمه الله تعالى ، وقد تقدَّمت ترجمته .  
 2)- هذا البيت لأبي إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزي المتوفى سنة 523 عن 82 عاماً، وسيأتي مقال للطباخ عنه.
(3 ) أي أنه يصغر أخاه عبد الرحمن الكواكبي بستة عشر عاماً .  
(4) أي مسجّل المحكمة .