تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل

التقديم للكتاب:

نظرت إلى أمتي الإسلامية، واستشعرت عجباً من مواقفها . أنا وصاحبي نؤمن بجملة القصائد المطلوبة، وأنا وهو مشغولان بما يستنفد العمر وفاءً بأعباء الحق وتكاليفه . . ومع ذلك نهدر الكثير المتفق عليه، ونحتفي بالقليل الذي يظن فيه خلاف . . أنا وهو مثلاً نؤمن بأن الله حق وأنه واحد وأنه لا شريك له وأنه لا يشبه المخلوقات  )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( (الشورى:11) . . ومع ذلك فقد يرد في دين الله مثلاً أن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير . . فيغفر للمستغفرين ويجيب السائلين . . فنقول جميعا: يستحيل أن يكون النزول على حقيقته المادية . . ونتفق على أنه على كل شيء شهيد ومهيمن ومقتدر . . ثم يقول بعضنا: المقصود بالنزول هو التجلي، ويقول الآخر هو نزول يخالف ما نألف ولا ندري كنهه .

بهذه الكلمات المعبرة الرائعة يتناول الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل . . قضية في غاية الأهمية في حياة الأمة الإسلامية . . ويضيف: هل هذا التفاوت في الفهم أو التعبير في هذه القضية وأشباهها، يجعل الأمة أحزابا متباغضة وأقساما متنافرة، وفرقا يضرب بعضها بعضا، كي يضعف صفنا كله أمام الكافرين بالله، الكارهين لوحدانيته وجلاله؟ لقد تدبرت هذه الحال ونتائجها وتذكرت قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) بل لقد ساءلت نفسي: هل المولعون بقضايا الخلاف صغيرها وكبيرها والذين يحشدون أفكارهم ومشاعرهم وأوقاتهم للانتصار فيها والفرح بخذلان مخالفيهم . .هل هم مخلصون للقضايا المتفق عليها؟ لماذا ننسى القواعد التي تجمعنا، ونمشي للدروب التي نتفرق فيها؟

آخر أهل الأرض

ويجيب الشيخ الغزالي رحمه الله عن هذه التساؤلات فيقول: الحق أن هذا الاهتمام بالأمور الخلافية لون من الطفولة الفجة والزيغ الفار بأهله من ميدان الحق، لأنه كثير التكاليف، إلى ميدان آخر لا مشقة فيه ولا تزحمه واجبات ثقال . . أمة هي خُمس العالم من ناحية التعداد تبحث عنها في حقول المعرفة فلا تجدها وفي ساحات الإنتاج فلا تحس بها، شغلت نفسها بمباحث نظرية شاحبة، وقضايا جزئية محقورة وانقسامات ظاهرها الدين وباطنها الهوى . . واستغرقها هذا كله فلم تعط عزائم الدين شيئا من جهدها الحار وشعورها الصادق، فكانت الثمرات المرة أن صرنا حضاريا وخلقيا واجتماعيا آخر أهل الأرض في سلم الارتقاء الحضري .

حكومات فرعونية إقطاعية وجماهير تبحث عن الطعام، ومن يدور حول اللذة وطرقها، ومتدينون مشغولون بالقمامات الفكرية وحدها كأنما تخصصوا في التفاهات . . أما العالم المتقدم، فهو يعبد نفسه، ويسعى لجعل الشعوب المتخلفة- وأولها المسلمون- عبيدا وأرضهم مصادر للخامات التي يحتاج إليها أو الأتباع الذين يستهلكون ما يصنع، ثم هناك بعيدا عن الأعين بنو إسرائيل يمكرون ليقيموا الهيكل، أو جماعة الكهان والكرادلة الذين يعملون لإقامة مملكة الرب، تمهيدا لنزول المسيح له المجد وأنا رجل مسن عرفت ديني بعد دراسة نقية للوحي الأعلى . . أشعر أحيانا بفخر وأنا أقول لنفسي إنني مع الملائكة أشهد لله بالوحدانية والعدالة . . إنني مع كل ذي معرفة شريفة نشارك الملأ الأعلى في إعظام الله وإجلاله والعلم عندنا يستحيل أن يخاصم الدين أو يخاصمه الدين، إنني وراء محمد- صلى الله عليه وسلم- الإنسان الكامل، من أتباعه في الدعوة على بصيرة .

رسالة كبرى

ويؤكد العلامة الغزالي أن هذا الكتاب يعد محاسبة للنفس لموقفنا في الحاضر، والماضي، ولن يصلح لنا مستقبل إلا إذا دققنا في هذا الحساب، ووضعنا أيدينا على أسباب العوج . . ويتساءل: هل يشعر المسلمون بأن لهم رسالة كبرى تزحم البر والبحر وتشغل الإنس والجن؟ ويجيب: ما أخالهم يشعرون . . بأنهم يعيشون في زوايا متواضعة متناحرة من الأرض . . ينظرون إلى التقدم الحضاري بعيون ناعسة، ينظر العالم كله إليهم نظرة استهانة، ربما أعطاهم شيئا من العون بالمال الذي يسألون وربما تصدق عليهم بشيء من العون الأدبي الذي إليه يرنون . . إنني أجزم بأن فلسفة الكون في القرآن الكريم بعيدة جدا عن أفهام قرائه، وأن جمهرة المسلمين لا تسمع من هدير الآيات شيئا طائلا، فهم كمثل الذين ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء .

لقد تحرك كل ذي دين لنصرة دينه، وطولب المسلمون وحدهم بنسيان دينهم وعدم التجمع في شعائره أو شرائعه، ولحظت فتيانا لا ينقصهم الإخلاص يبتغون التجمع على دينهم ورفع أعلامه، لكنهم لا يدرون ما الطريق؟ .

ويطوف بنا الكاتب بين حدائق الكتاب . . ويتوقف عند إسلامية المعرفة، فيشير إلى أن أول علم تلقاه آدم عن ربه، رفع مكانته، وأقنع الملائكة بأنه أهل للحياة والخلافة في الأرض والسيادة على أرجائها . . ولا نزعم أن آدم عرف الكيمياء والفيزياء والفلك . . لكننا نزعم أنه عرف الأبجديات التي تتكون منها هذه العلوم مع إدمان البحث والمعرفة وأوتي عقلا يقدر به على معرفة آيات الله في الملكوت الكبير ودلالة هذا العالم الضخم على عظمة بانيه وبارئه والرحلة من الجهل إلى المعرفة بعيدة الشقة وهذه رسالة آدم وبنيه على الأرض، بها تميز على الملائكة، وبها استحق الخلافة .

إن أبانا آدم كان يتلقى العلم عند ربه، ويستمع إلى أمره ونهيه . . ومن مصادر هذا العلم الكون الذي يدل على الله ويربط الحياة الإنسانية بالكون ويحمي الحقوق . . إن المسلمين الأولين لهم أياد على العالم لا ينكرها إلا متعصب جاحد . . اخترعوا علوم المعاني والبيان والبديع والنحو والصرف لخدمة الإعجاز البياني في القرآن الكريم، وخدمة هذا الكتاب تحتاج إلى جانب ذلك إلى علوم الأحياء والفيزياء والكيمياء والفلك وطبقات الأرض وغيرها . . والجهالة بهذه العلوم خيانة مخزية للإسلام وخيانة إنسانية عامة لرسالة أبينا آدم . . فلماذا يغوص غيرنا في الماء ويسبح في الفضاء ونحن ننظر مشدوهين؟ لماذا يملك الإلحاد الكهرباء والذرة ولا نملك نحن إلا الهراوات نهدد بها من يعترض أهواءنا؟

الجهاد العلمي

أليس عجيباً أن تكلف أمة ببناء إيمانها على دراسة الكون، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره وقواه، بينما المبطلون يسابقون الريح نشاطا وعزيمة، ونحن جاثمون على الثرى؟ الآخرون سيروا الأقمار الصناعية وأرسلوا مركبات الفضاء تزودهم بالمعرفة . . لهم أظفار تخنق وتذبح وتصعق . . أما نحن، فقد نتودد إليهم مشترين من أسواقهم أو متزودين منهم أو مستعيرين من أسلحتهم ما نحتاج إلى تعلمه منهم . . ولقد كان لتعمق الأوروبيين في العلوم الكونية أثره في انفتاح أبواب الغنى عليهم . . استناروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها غيرهم فخدمهم الرطب واليابس والسائل والجامد والحديد والذهب والتراب والهواء . . إننا لم ننحرف عن رسالتنا الإسلامية فقط . . بل نسينا انتماءنا إلى آدم الذي علمه الله الأسماء كلها . إن المسلمين والعرب خاصة مسؤولون أمام الله عن هذا الجهل والجهالة السائدة بدين الله .

وإن كنا يخامرنا الأسى لحال المسلمين في القرون الأخيرة ولمستواهم العلمي الهابط وغيابهم عن المجامع العلمية . . فماذا نعمل للنهوض؟ والواقع أن الجهاد العلمي في معركة البناء فريضة لازمة . . وإذا لم ننتصر فيها فسيكون عقابنا شديداً . . وتجديد الإسلام ليس نشاطا في ميدان واحد، بل في ميادين شتى، وليس صمودا أمام عدو واحد بل أعداء كثيرين . . أشدهم بأسا يكمن داخل بلادنا وعلينا في مسيرة الإصلاح أن تكون لنا مبادئ أساسية وهي أن النساء شقائق الرجال، والأسرة أساس الكيان الخلقي والمجتمعي، وللإنسان حقوق مادية وأدبية تناسب تكريم الله له، والملوك أجراء لدى شعوبهم، والشورى أساس الحكم، والملكية الخاصة مصانة، والأسرة الإسلامية مسؤولة عن الدعوة، واختلاف الدين ليس مصدر خصومة، وعلاقة المسلمين بالأسرة الدولية يحكمها الإخاء الإنساني المجرد، ولا بد من إسهام المسلمين في كل ما يرقى بالجنس البشري .

الغش الثقافي

ويؤكد المؤلف: إننا في هذه الأيام كي ننتصر على الإلحاد وعلى الأعداء المتربصين بالكتاب والسنة يجب أن نقلم أظفار هؤلاء الواقفين أمام الفقه الصحيح، والعمل الجاد المثمر . . إنهم حرب على الإسلام . ويضرب مثالا عندما أسقط المرتدون الخلافة الإسلامية في تركيا، أقاموا نظاما علمانيا ظاهره الانفلات من الأديان كلها وباطنه مخاصمة الإسلام وحده، ومتابعة أوروبا في مظاهر حضارتها ويضيف: أقول لدعاة السلام في العالم: نحن قبلكم ندعو إلى السلام ونكره إراقة الدماء، وما نخوض حربا إلا دفاعا عن عقيدتنا وتأمينا لدعوتنا .

إن الغش الثقافي وباء تعرضت له الأمة الإسلامية قديما وحديثا، يتصدى له الراسخون في العلم فيكسرون شوكته ويكشفون حقيقته، فإما قطعوا دابره ونجت الأمة منه، أو بقيت له ذيول هنا وهناك لتنفث شرها بين أصحاب الغفلة حتى يتيقظ لها العلماء فيتم القضاء عليها . . وإن التدين الصوري وراءه إمداد من القصور العقلي والغرور الأعمى . . وقد يدفع إلى اقتراف رذائل منكرة .

لقد لاحظت أن عددا من قادة الثقافة ورجال السياسة مبتلون بسرطان الخلاف الفقهي . . ويشاركهم في هذا البلاء أذناب يطنون- حول مآربهم ومجالسهم- طنين الذباب، إن أمراض القلوب، لا الخلاف الفقهي، أخطر شيء على الدنيا والدين معا . . فالخلاف الفقهي مثل الخلاف بين أي حزبين في أي بلد . . الناس متفقون على الأصول الرئيسية والأهداف العامة، وربما تفاوتت أنظارهم في الترتيبات الداخلية للبيت . . أما في أمتنا فقد رأيت الرعاع يبنون على هذا الخلاف ويخرجون منه بنتائج مدمرة .

تحميل الملف