تبكيكَ حروفُ العربية في رحيل العلامة محمد أحمد الدالي

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}

فَقَدناهُ فِقدانَ الرَّبيعِ ولَيتَنا / فَدَيناهُ مِن ساداتِنا بِأُلُوفِ

عليكَ سلامُ اللهِ وَقْفًا فإنَّني / أرى الموتَ وَقَّاعًا بِكُلِّ شَرِيفِ

رحم الله أخانا الدالي

أيُّ ركنٍ بموتهِ قد تهدَّم؟!

وأيُّ جبلٍ برحيله قد هوَى؟!

وأيُّ عقدٍ بفَقده قد انفصَم؟!

ما أشدَّ حزنَ العربية اليوم!

وما أشدَّ حزنَ أهلها ومحبِّيها!

بعد أن ماتَ فارسُها الذي لا يُجارى

وعَلَمُها الذي لا يُضاهَى

وخَدينُها الذي لا يُسامَى.

وقد فارقها اليوم...

فبكَت عليه حروفُها

وبكَت له مخطوطاتُها

وبكَت عليه أعلامُها!

وكأنِّي بجامع العلوم الأصبهاني يقول له:

ترفَّقْ واتَّئِدْ ولا تَبْعَدْ، فما عرَفتُ بين من قرأ كتُبي من يَفْرِي فَرْيَكَ فيها، ويَصُولُ ويجولُ في أرجائها، ويُخرج للناس الطيِّبَ المفيد من نشَراتها.

وكأنِّي بالفرزدق يطوي القرونَ مُناديًا:

ما زلتُ أرقُب عملَكَ في ديواني، هذا الذي كلَّت دونه هممُ الرجال، وتقطَّعَت دونه أعناقُهم، ووقفَ الجميعُ ينتظرون هل في دنيا العربية من ينهَدُ له، أو ينهضُ به؟!

عرَفتُ أخانا الدالي منذُ نحوٍ من نصف قرن، فما عرَفتُ أحدًا في مثل دأَبِه ونشاطِه، ونهَله من علوم العربية وتضلُّعه منها، وعُكوفه على نصُوصها ومخطوطاتها.

وكان أحصفَ منَّا رأيًا حين اعتزلَنا في مركز البحوث بدمشق، فلم ينضمَّ إلينا على الرغم من ترشيح شيخنا العلَّامة النفَّاخ رحمه الله له، في إثر نيله درجةَ دبلوم الدراسات العُليا، ذلك أنه أقام مركزًا للبحث في صَومعَته، تلك التي كان يأوي إليها في حيِّ الشَّعْلان، ونأوي إليه فيها فما نجدُ إلا العلمَ والأدبَ والفهم والجِدَّ والحفاوة والتكريم، وقد كتبَ في صدرها بخطٍّ مشرقٍ سَلسال، كلمةَ الحسن البصريِّ رحمه الله:

(ابنَ آدم، إنما أنت أيام؛ كلَّما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك).

أكتبُ هذا الكلام، والفجيعةُ تجتاحُني، والحزنُ يهزُّ كِياني، والمرضُ ينخر في عظمي، وما أشبهَ حالي بحال الشيخ محمد بشير الإبراهيمي حين قال:

إن بين جَنبيَّ ألمًا يتَنَزَّى، وإن في جوانحي نارًا تتلظَّى، وإن بين أناملي قلمًا سمتُه أن يجريَ فجَمَح، وأن يسمَحَ فما سَمَح، وإن في ذهني معانيَ أنحى عليها الهمُّ فتهافتَت، وإن على لساني كلماتٍ حبسَها الغمُّ فتخافتَت.

وأنا أردِّد بيتَي الشَّريف الرضيِّ اللذَين طالما قرأناهما معًا (أنا والدالي):

ما أَسرَعَ الأيَّامَ في طَيِّنا / تَمضِي عَلَينا ثم تَمضِي بِنا

في كلِّ يومٍ أمَلٌ قد نأى / مَرامُهُ عن أجَلٍ قد دَنا

وبعدُ أيضًا؛ فقد صحِبتُ الأخ الحبيب العلَّامة الدالي نحوًا من خمسين عامًا، في الِحلِّ والتَّرحال، وفي الإقامة والغُربة، فما سمعتُ منه إلا خيرًا، وما علمتُ عنه إلا خيرًا، بل ما علمتُ عليه من سُوء، ولا رابَني منه شيء؛ يحضُر صلاةَ الجمعة معنا، وكثيرًا ما صلَّينا فروضَنا معًا، وما كان أحرصَه على قراءة آية الكُرسيِّ بعد كلِّ صلاة، وما كان أحرصَه على صلاة الليل، يستيقظُ لها قبل الفجر، كما حدَّثَني مِرارًا، ثم يأخذ في عمله فلا يقوم عنه إلا لصلاة الفجر، ثم للتوجُّه إلى الجامعة.

وإذا ما كنَّا في سهرة، وتجاوز الأمرُ حدَّه، رأيتَ عيونه قد ذبُلت، والوَسَن قد داخلَها، والنُّعاسَ قد اعتراها، فيمضي أمامنا لا يلوي على شيء.

أحسَبه - ولا أزكِّي على الله أحدًا - من الذين صَدَقوا اللهَ ما عاهَدوه، فأدَّوا الأمانةَ على حقِّها، ونهَضوا بلغة القرآن على وجهها، وكانوا خيرَ الأوصياء عليها.

رحمه الله وجزاهُ عن العربية وأهلها خيرَ ما جزى عالمًا عن لغته، ومُصلحًا عن أمَّته.

وأخلفَ على الأمَّة فيه خيرًا.

الكويت 16 ربيع الآخِر 1443ه

21/ 11/ 2021م

من اليمين: د. محمد طاهر الحِمصي، د. فيصل الحفيان، د. الدالي، د. الطيان

في الكويت

في مدرَّج شفيق جبري بكلية الآداب جامعة دمشق، عام 2000م

من اليمين: ضياء الدين القالش، د. الطيان، أيمن بن أحمد ذوالغنى، د. أيمن الشوَّا، الأستاذ عاصم بن محمد بهجة البَيطار، هاشم الشاطر، الأستاذ محمد علي حمد الله، د. الدالي، محمد بونجة، خليل عبد الله

 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين