بين إعلال الحديث وإعلال ذوي الهيئات

معلومٌ عند أهل العلم أن الإدخال والتلقين والإدراج... من أسباب إعلال الحديث عند المحدثين..

فكم من شيخٍ وعالمٍ وقدوةٍ أدخَلَ عليه المقرَّبون منه ما يُعَلُّ من أجله؛ - إنْ على حساب اعتقاد أهل السنة، أو فقههم المعتمد، أوقضاياهم...- وذلك بسبب مجاملةٍ أو إحراجٍ أو طيبِ ضيافةٍ، أو حسن إقامةٍ، أو ملاطفة، أو تصريح في مجلس خاص ... فما لم يتبرأ القدوة ممَّا أُوقِعَ فيه؛ يبقى معلولا ومتحفظا عليه... 

ويختلف أهل الحديث بين ردِّه وبين إعذاره ولكن لا يعدو كونه عندهم مغفَّلاً إن لم يبرأ ممَّا أوقع فيه ...

فقد ذكر ابن حبان سفيان بن وكيع بن الجراح في "المجروحين" وقال: «وكان شيخا فاضلا صدوقا، إلا أنه ابتلي بورَّاق سوء كان يُدخِل عليه الحديث، وكان يثق به فيجيب فيما يقرأ عليه، وقيل له بعد ذلك في أشياء منها، فلم يرجع، فمن أجل إصراره على ما قيل له استحقَّ الترك، وكان ابن خزيمة يروي عنه، وسمعته يقول: حدثنا بعض من أمسكنا عن ذكره، وهو من الضرب الذي ذكرته مرارا: أن لو خرّ من السماء فتخطفه الطير أحب إليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أفسدوه».

قلت: وقد أخبرنا أكابر أشياخنا الأعلام عن أحد العلماء الكبار صادقي النية أنه ابتلي برسول من قبل الظلمة وثق به وبما يملي عليه ولم يسمع من أقرانه الذين يثق بهم فابتلي بترك الناس له ...

وأما من يبرأ ممَّا نسب إليه بسبب ما تقدم من الإدخال أو الملاطفات المحرجة فقد سلم من العلة، وخرج من العهدة، فقد حكى الحافظ الذهبي عن ابن الدبيثي أنه قال: سمعت تميم بن البندنيجي يقول: أبو الفضل الطوسي خطيب الموصل: ثقة صحيح السماع، أدخل عليه محمد بن عبد الخالق في حديثه أشياء لم يسمعها، وكان قد دخل عليه ولاطفه بأجزاء ذكر أنه نقل سماعه فيها... فقبلها منه وحدّث بها اعتمادا على نقل محمد له، وإحسان الظنّ به، فلما علم كذب محمد، طلبت أصول الأجزاء التي حملها إليه، فلم توجد، واشتهر أمره، فلم يعبأ الناس بنقله، وترك خطيب الموصل كل ما شك فيه، وحذر من رواية ما شك فيه.

قال الذهبي: «قلت: وبعد ذلك جمع خطيب الموصل مشيخته المشهورة، وخرجها من أصوله».

وممن أدخلت عليه أحاديث أفسدت حديثه بسبب عدم معرفته بها، أو بسبب عجزه، أو تساهله عن تركها والبراءة منها: قيس بن الربيع، وأبو صالح كاتب الليث:

أما قيس بن الربيع: فإنه ابتلي بابن له أدخل عليه ما ليس من حديثه وهو لا يعلم، فأفسد حديثه.

قال جعفر بن أبان الحافظ: «سألت ابن نمير عن قيس بن الربيع؟

فقال: كان له ابن، وهو آفته؛ نظر أصحاب الحديث في كتبه، فأنكروا حديثه، وظنوا أن ابنه قد غيرها». 

وقال علي بن المديني: «إنما أهلكه ابن له قلب عليه أشياء من حديثه». 

وقال ابن حبَّان: «قد سبرت أخبار قيس بن الربيع من رواية القدماء والمتأخرين وتتبعتها، فرأيته صدوقا مأمونا حيث كان شابا، فلما كبر ساء حفظه، وامتحن بابن سوء، فكان يدخل عليه الحديث، فيجيب فيه ثقة منه بابنه، فلما غلب المناكير على صحيح حديثه ولم يتميَّز؛ استحق مجانبته عند الاحتجاج، فكل من مدحه من أئمتنا وحث عليه؛ كان ذلك منهم لما نظروا إلى الأشياء المستقيمة التي حدث بها عن سماعه، وكل من وهاه منهم، فكان ذلك لما علموا مما في حديثه من المناكير التي أدخل عليه ابنه وغيره».

قلت: فكم أفسد أبناءٌ على آبائهم بسبب إقحامهم في مواقف مخزية، رغبة بمصالح، أو رهبة من مفاسد، وطلابٌ على أشياخهم لاختلافهم معهم في المنهج والمعتقد فيستدرجونهم فيجيبهم الأشياخ مجاملة لهم فيفسدون مصداقيتهم عند العامة عندما لا يتبرأون ممَّا نسب إليهم. 

قال ابن حبان في ترجمة عبيد بن كثير ابن عبد الواحد التمار: «روى عن الحسن بن الفرات، وعن ابنه زياد بن الحسن، عن أبان ابن تغلب نسخة مقلوبة ... أدخلت عليه، فحدث بها، ولم يرجع حيث بيِّن له، فاستحق ترك الاحتجاج به» .

هذا ويَعذُر أهل الحديث ذلك الراوي الذي أدخلت عليه الأحاديث، فلا يتهم بوضعها، مع كونهم يحكمون عليه بما يناسب حاله من الغفلة ونحوها.

فقد ترجم الذهبي لأبي القاسم هارون ابن أحمد القطان فقال:

«روى حديثا باطلا؛ كأنه - المسكين - أدخل عليه، ولا يشعر» .

وذكر سبط ابن العجمي هارون القطان هذا في "الكشف الحثيث، عمَّن رمي بوضع الحديث"، وبيَّن أنه ينبغي أن يعذر فلا يدرج في المتهمين بالوضع، فقال: «فعلى أنه أدخل عليه، فلا يذكر مع هؤلاء، إلا أنه لا يحتج به؛ لأنه مغفّل» .

فكم من مغفَّلٍ في جانب من الجوانب مع نجابته وثقته في باقي الفنون كلَّف الأمة عيوناً دامية ومهجاً باكية، ومستقبلاً مجهولاً... فالمسلم كثيرٌ، كبيرٌ، ومتكاملٌ بإخوانه، كما أنه ناقصٌ مغفلٌ إذا انفرد بعقله ومصلحته...

ومن الغفلة أن يدعو الشخصُ الناسَ إلى الثقة المطلقة بمغفَّلٍ فيما غفل عنه !!

فالخطأ والوهم لا يسلم منه كبير أحد من الحفاظ، مهما بلغ من الحفظ والإتقان، قال الإمام مالك: «ومن ذا الذي لا يخطئ؟!».

وقال عبد الله بن المبارك: «من ذا يسلم من الوهم؟!». 

وقال عبد الرحمن بن مهدي: «من يبرئ نفسه من الخطأ فهو مجنون».

وقال الترمذي: «وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبيت عند السماع، مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة، مع حفظهم».

ولكن المعوّل عليه هو البراءة من الخطأ حيث وقع، وقبول نصيحة إخوانه، وعدم تقديم مصلحته الشخصية النفعية على مصلحة المسلمين العامة، وصون العلم الذي يحمله عن كل ما من شأنه أن يسبب هوانه عند العامة ...

فينبغي أن يراعي القدوة أقلام عوامّ الخلق بلْه خواصّهم ولو كانوا متحاملين، حتى لا يتسبَّب في فرارهم إلى جانب الباطل والبعد عن أهل الحق، فإذا كان الظالم سيف الله في الأرض - فيما يقال-، فإنّ ألسنة الخلق سوط الله يقوِّم به اعوجاج ذوي الهيئات، إذا فهموا ذلك عن الله تعالى، قال الإمام العارف بالله زروق: العارف يرى الخلق أقلام الحق... وغير العارف يرى أفعالهم من حيث هم، فيُقبِل ويدبر حسب ما يوجهه منهم...

ويكون ذلك بترك ما يستفزهم، والبعد عن مواطن الشبهات، حرمةً لمقام العلم والكتاب والسنة، ولهذا أصل في الشريعة؛ ففي حديث صفية رضي الله عنها عند البخاري قالت: ".. خرج النبي صلى الله عليه وسلم معها، فلقيه رجلان من الأنصار، فنظرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجازا، وقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " تعاليا، إنها صفيَّة بنت حيي " قالا : سبحان الله يا رسول الله. قال : " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئا". 

فتعظيما لمقام النبوة أن يلغ فيه أحد؛ حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إزالة اللبس رحمة بهم وتعظيما لمقام النبوة والقدوة... 

نسأل الله السلامة من الزلل إنه خير مسؤول وأكرم مأمول، والحمد لله رب العالمين ... 

---------------------

انظر: علل الحديث، المقدمة، لابن أبي حاتم، علل الحديث لكل من الدارقطني، والترمذي، وابن حنبل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين