بصيرة ومسؤولية

أيها الأخ المسلم الذي أكرمه الله تعالى بالحج، حيث تكون، ومن أي مكان قدمت، وأياً كان عملك وبلدك!.. تذكَّرْ -وأنت الآن تستعدُّ لمغادرة الأرض المقدسة مصحوباً بالسلامة والعافية والقبول- أنّ أمتك وبلادك تواجه تحدياتٍ كبيرة، وتحيط بها مصاعب شتى، وتتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها، وتذكرْ أن ذلك يضاعف من مسؤوليتك، ويزيدُ من حجم التكاليف التي عليك. تذكرْ ذلك جيداً، وحاولِ النهوضَ بمسؤولياتك هذه، وتكاليفك هذه دون أن يقعدَ بك خوفٌ من كثرةِ الأعداء، وضخامةِ التحديات، وفُشُوِّ الجِراحات.

تذكرْ ذلك.. وتذكرْ أن لك قدرة عجيبةً على النهوض -بإذن الله- من بين الركام المحدق بك، والمصائب التي تواجهك، والشرور التي تنوشُكَ من كل جانب، وقدرتُك هذه قدرةٌ ذاتيةٌ مكنونة، مستقرة في أعماقك، وهي بعض هدايا الإسلام لك وعطايا الإيمان لك، وهي السرُّ الحقيقي الكبير الذي يعلل نهوضك بعد كبوة، وانتفاضك بعد كل هزيمة، وجهادك بعد كل كارثة.

لذلك لم يفقد أهل البصيرة والذكاء إيمانهم بمقدرتك حتى في أشدِّ الأوقات التي احْلَوْلَكَ فيها الظلام، وكثرت فيها الجراحات، وظن أهلُ السوء أن أمرك قد انتهى وباد، ذلك أنهم عرفوك بما وعوا من تاريخك، وما أحاطوا به من طبيعة بنائك المدهش، وتركيبك العملاق، وما حفظوه من جهادك المؤمن الدؤوب عَبْرَ أجيالٍ وأجيال، وخلالَ دهورٍ وأحقاب، وإنك في هذا لبرهانٌ لا يُرَدُّ على أصالتك واستعلائك، وعلى أصالة الدين الذي تنتسب إليه، واستعلاء الإيمان الذي تشمخ به.

أيها المسلم حيث أنت!.. تذكّرْ ذلك كلَّه، وكن على مستوى ذكراك هذه؛ يكُنْ لك الفوز المبين، والانتصار الباهر، في دينك ودنياك، ويكُنْ لأمتك المجدُ والشرف والنصر والغلبة. وتذكر أنك أعجوبةُ الدنيا بما صنعتَ من أمجادٍ وبطولات، ووثبةُ الظفر بما اقتحمتَ من منيع الحصون والبلدان، وأغرودةُ الأكوان بما بنيتَ للبشرية من عدلٍ وحقٍّ ومساواةٍ ورحمة، وأنشودةُ الطهر الفاضل، والفضيلة الطاهرة، والخيرِ المستعلي، والنفعِ الأبيّ، بما كان منك يومَ أن كانت لك السيادةُ من مواقفَ نبيلةٍ متوضئةٍ طهور، أملاها عليك انتماؤك للإسلام، وأمَّتِه الكريمة الماجدة المعطاء، خيرِ أمة أخرِجت للناس، منذ كانت أرض، وكانت أمم، وكان ناس.

لقد كانت لك مواقف، ارتفعتَ فيها إلى الأفقِ الذي يليق بالمؤمن أن يكونَ عليه، فنأيْتَ عن الشحِّ والأثرة، والظلمِ والجبن، والبغيِ والعدوان، وكل ما يسوء وينحط، ويسفُّ ويهون، واستشرفتَ آفاق الجودِ والعطاء، والبرِّ والرحمة، والعدالةِ والمساواة، والشجاعةِ والصدق، وكلِّ ما يطيب ويحلو، وما يطهر ويسمو، وما يشرف ويزكو، وما يعبق ويعلو، مما هو بك لائق، وأنتَ به جدير.

ليس معنى هذا أنك لم تَكْبُ قط، ولم تَسْقُطْ قط!.. لكنك كنتَ تنهض دائماً، لتثبتَ أصالتك وشرفَ انتمائك للإسلام، وجدّيةَ اتباعك للقرآن الكريم، في أيام الشدة كما أثبتَّها أيام العزِّ والظفر.

 ومرةً كانت كبوتُك كبيرة، وكان سقوطك مفزعاً؛ حتى لقد دبَّ اليأس في القلوب، والحزن في النفوس، واستبدَّ بالناس قلقٌ وشك، وريبةٌ وتوجس، وحيرةٌ وشجن، وألمٌ مُمِضٌّ مستبدٌ مقيم، وتوارى كثير من الشرفاء هنا وهناك حتى لا يسمعوا قالة السوءِ التي أخذ يذيعها عنك حاسدوك ومبغضوك، وكارهوك وشانئوك، وأعداؤك اللئام الذين يفرحون إن وقَعْت، ويُساؤون إن وثَبْت، لكنَّك خيَّبتَ ظنونَ السوء، وكذَّبتَ أقاويل الحاسدين حين قمتَ مفاجئاً عن وثبةٍ مظفَّرة، مبادراً عن انتفاضة كريمة، وأَفَقْتَ عن نبأةٍ وضيئةٍ زهراء بعدَ إذ غرقتَ في الصمت، فتجاوزتَ الكبوةَ التي كانت، ونجوتَ من السقطةِ التي حلَّت، ونهضتَ من بين الحطام والركام، والدمار والخراب، والمأساة الفاغرة أشداقَها، لتصوغَ فجراً جديداً لك، خصيباً مزدهراً، ثرياً معطاء، نبيلاً كالعهد بك، سامياً كخلائقك، طاهراً كصفاتك وفضائلك، مشرقاً ثَرّاً، وضّاءً متألقاً، تبدأُ به عهداً جديداً من مسيرتك الخيِّرة المباركة، في هدايةِ الناس، وقيادةِ الضائعين، وإخراجِ الحائرين من التيه، وتبنّي الدعوة للإيمان، وإرشاد الناس جميعاً لهدي الإسلام العظيم.

فتلك مهمتك الأصلية الكبرى التي انتُدِبْتَ لها بحكمِ أنك مسلم، يهتدي بالقرآن الكريم، ويستضيء بنوره الرباني المتألق، وينتسبُ إلى أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

أيها المسلم الذي أكرمه الله تعالى بالحج!.. تذكّر هذا كلَّه، وحاول أن ترتفعَ إلى هذه الآفاقِ الشمّاء، وأقدِمْ ولا تُحجِمْ، وليكُنْ منقلبُكَ إلى أهلك وذويك وأنت مستشعرٌ هذه المعاني الكبار، عازمٌ على الوفاءِ بمسؤولياتها الجسام.

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين