انتصرت غزّة

منذ أن تمكّن مجاهدو غزّة من اختراق حصون اليهود وحيازة كنوز من وثائقهم، وكسر هيبتهم الزائفة، وتحطيم خرافة "الجيش الذي لا يُقهر"... منذ ذلك اليوم تحقق انتصار غزة. ولكن هل بدأت المعركة منذ ذلك اليوم؟ لا. بل إنها بدأت قبل ذلك بشهور، بل بسنوات. ولا نبالغ بأنها جولة من جولات هذه المعركة منذ عدوان بني قينقاع وإجلاء بني النضير سنة 4هـ وغزوة بني قريظة سنة 5هـ.

وماذا عن معركة اليوم وقد تمخّضت عن قتل المئات وأسر المئات وانتحار العشرات من جنود العدو وضباطه، وتحطيم العشرات من دباباته وآلياته التي كان يمتلكها، وكانت تعد من أفتك الأسلحة وأحدثها وأشدها تحصيناً... واستشهاد الألوف والمئات من أطفال غزة وشيوخها ونسائها وشبابها، وتحطيم مساكنها ومستشفياتها وبُناها التحتية...

وحتى نفهم ما يجري، ونضع كل حادث في موقعه الصحيح، لا بد أن نتذكر هذه الحقائق:

1- عندما نذكر ضحايا أهل الإيمان وضحايا أهل الكفر، نستحضر حقيقة أن قتلانا في الجنة، إن شاء الله، وقتلاهم في النار. ولا سواء!!.

2- أكتب هذا المقال بعد شهرين من ابتداء المعركة الأخيرة، ولا تزال غزة تقاوم، ولا تزال معنويات شعبها عالية، على الرغم من دعم قوى الاستكبار العالمي للكيان الصهيوني، دعمٍ بأعتى الأسلحة والبوارج والصواريخ والقذائف والجنود... فضلاً عن الدعم بمليارات الدولارات، والدعم السياسي والإعلامي... يقابل ذلك دعمٌ خجول لأهل غزة من شعوب مسلمة يتجلى بمظاهرة هنا، ومسيرة هناك... ودعم "كلاميّ" من بعض الحكومات والمنظمات...

إنه، وفق معايير أهل الأرض، ما كان لغزة أن تثبت وتقاوم أكثر من بضعة أيام، لكنه الإيمان.

3- إن فساد اليهود وشرورهم لا تخفى على أحد، وهي ليست وليدة شهور أو سنين، بل هي طبيعتهم منذ أيام سيدنا موسى عليه السلام، وقد عانت الشعوب منهم عبر التاريخ. ويكفي أن نتذكر مواقف زعماء الغرب من اليهود خلال القرون الأخيرة:

يقول (بنجامين فرانكلن) أحد زعماء الاستقلال الأميركي في عام 1789م: "هناك خطر عظيم يتهدد الولايات المتحدة الأميركية، هو خطر اليهود، فكل أرض يحل فيها اليهود ستعاني من إطاحتهم بالأخلاق، وإفسادهم الذمة التجارية، وهم يعملون على خنق الشعوب التي يقيمون بينها"!..

ويقول (نابليون) في عام 1808م: "اليهود هم أذل فئة على وجه الأرض، ويجب علينا ألا ننظر إليهم بوصفهم عنصراً متميزاً، بل بوصفهم غرباء يرتكبون الجرائم البشعة"!..

ويقول الملك الفرنسي (لويس التاسع): "إنّ أفضل حجّةٍ يمكنك استخدامها مع اليهودي، هي أن تغرز خنجرك في معدته"!..

وتقول إمبراطورة النمسة (ماريا تريزا) في عام 1777م: "اليهود هم الوباء الذي يجلب الاضطرابات للدولة، كما يجلب الفقر للناس بالربا الفاحش الذي يمارسونه، وهم يمارسون كل أنواع الشرور والمخازي، التي يبغضها كل رجل شريف"!.. (صحيفة الرباط - العدد 39-29ت1 1991م).

وإن من أكثر ما يغيظ اليهود هو رؤية الصحوة الإسلامية وهي تتنامى وتمتد منذ نصف قرن أو يزيد، وهذا ما يتجلى، أكثر ما يتجلى، في قطاع غزة حيث تسيطر حركة حماس، وتخرّج حفّاظ القرآن من الشباب والشابات، وما يرافق هذا من ارتفاع مستوى الوعي الإسلامي، ومستوى السلوك الإسلامي في أبناء غزة. ولنتذكر في هذا ما قاله "حاييم هيرتزوغ" رئيس الكيان الصهيوني في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، عندما كان قبل ذلك رئيساً للاستخبارات الصهيونية "الموساد": "إن ظهور الصحوة الإسلامية بهذه الصورة المفاجئة المذهلة، أظهرت بوضوح أنّ كل وكالات الاستخبارات الغربية والأميركية، كانت تغط في سبات عميق"!.. ويضيف: "إنّ عودة الحركات الإسلامية لممارسة نشاطها في المنطقة العربية، تثبت أن الأساليب المتبعة لكبت نشاطها كانت فاشلة"!... ثم يختم أقواله بالتصريح محرضاً الغرب: "إن الحركات الإسلامية هي عدوّ كل ما هو غربي"!. (جريدة جيروزاليم بوست الصهيونية: 25/9/1978م).

 ونقلت صحيفة الشرق الأوسط في 28/2/1981م تحليلاً لوكالة رويترز حول اكتشاف تنظيم إسلامي في فلسطين المحتلة منذ عام 1948م جاء فيه: "إن الصحوة الإسلامية التي انتشرت في فلسطين تثير قلق سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وأن هذه السلطات تنظر بقلق بالغ إلى تزايد أعداد المترددين على المساجد، وخاصة الشباب الذين أصبحوا ينادون علانيةً بضرورة العودة إلى أصول الإسلام".

ونشرت جريدة "الرأي" الأردنية في 12/4/1981م ترجمة لدراسة نشرتها جريدة "يديعوت أحرنوت" وفيها: "الفتيات المسلمات يشاركن في نشاطات الحركة الإسلامية في فلسطين". "الخطب في المساجد تحوّلت إلى خطب سياسية فيها تحريض واضح ضد إسرائيل". "الحركة الإسلامية تتسع وينتمي إلى صفوفها اليوم أكثر من عشرين بالمئة من شباب القرى العربية في فلسطين".

ونقلت صحيفة "القبس" الكويتية بتاريخ 12/10/1981م نصّ مقابلة إذاعية مع "مناحيم بيغن" يقول فيها بيغن: "... وعندما كنت في أمريكا قام الرئيس السادات بحملة اعتقالات ضد أعدائه من الإخوان المسلمين. وقد سمعتُ اعتراضات كثيرة هناك ضد هذه الحملة لتنافيها مع الديمقراطية، ولكني دافعتُ عن إجراءات السادات وأقنعت المعترضين بأن عليهم أن يتناسوا الديمقراطية حين يتعلق الأمر بالمسلمين".

وهذا هو امتداد لعقائدهم الباطلة التي استمدّوها من تلمودهم ومن كتابهم "المقدّس!". ففي الإصحاح السادس من "سِفر يشوع" عندهم، موضّحاً البنية النفسية الإرهابية المتأصّلة في نفوس اليهود، والممتزجة بالحقد والخسّة والشر: (... ودمّروا المدينة، وقَضوا بالسيف على رجالها ونسائها وأطفالها وشيوخها، وبقرها وحميرها وغنمها)!.. والمدينة المذكورة هي مدينة أريحا، التي احتلّها اليهود في العصور الغابرة، ويتابع: (ثم أحرقوا بالنار كل ما فيها)!.. ثم يهدّد "يشوع" كل مَن يحاول إعادة بناء مدينة أريحا، لأنها بنظرهم ملعونة بسبب مقاومتها لشعب الله اليهودي: (ملعونٌ أمام الربّ، كل مَن يحاول إعادة بناء مدينة أريحا)!.

4- ولا ننسى أن قادة الكيان الصهيوني هم أنفسهم قادة العصابات الإجرامية، فمناحيم بيغن وإسحاق شامير هم من قادة عصابة شتيرن التي ارتكبت، بالاشتراك مع عصابة أرغون، مجزرة دير ياسين سنة 1948م وغيرها من الجرائم.

وشمعون بيرز هو مؤسس عصابة كيبوت الموت، وهو الذي ارتكب مجزرة قانا في لبنان سنة 1996م.

وإسحاق رابين من عصابة الهاغانا التي دمّرت بعض قرى القدس سنة 1948م وقتلت العشرات من أبناء قرية السموع سنة 1963م، وهو صاحب جريمة تكسير عظام أبناء الانتفاضة في أواسط الثمانينيات... لذلك استحق جائزة نوبل للسلام!!!.

ولا يتسع المقال لذكر كل زعماء الإجرام وتعداد جرائمهم، فليس عيزرا وايزمان، أو بنيامين نتن ياهو، أو إيهود باراك، أو أرييل شارون... بأنظف سجلّاً ممن ذكرنا.

5- والعجب بعد هذا ممن يلوم أهل غزة، ويحمّلهم مسؤولية ما تعرّضوا له من تقتيل وتخريب، وكأنه يقول لهم: ألم يكن أفضل لكم أن تخضعوا وتذلّوا وتتركوا عدوّكم يرسّخ جذوره في أرض اغتصبها ويضم إليها أراضي أخرى؟!. إن منطق هذا اللائم إنما يليق بالبهائم التي لا يهمها إلا أن تملأ بطونها ولو بعلفٍ ممزوج بالمهانة. وإن بعض اللائمين لم يكتفِ بهذا الهراء بل تواطأ مع العدو وحمى مصالحه، وحاصر المجاهدين وقطع عنهم بعض ما يمكن أن يصل إليهم من مَدَد!.

6- إن أبناء القسام وجنود أبي عبيدة عندما دخلوا المعركة عرفوا ثمنها، واتّخذ كل منهم من نفسه مشروع شهيد، ذلك أن سلعة الله غالية. إن سلعته الجنة. وعلموا أن الله تعالى وعدهم -إن جاهدوا في سبيله- أن يدخلهم الجنة: (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة. يُقاتِلون في سبيل الله فيقتُلون ويُقْتلون. وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن). {سورة التوبة: 111}.

وهم ماضون في طريق الجهاد سواء رأوا النصر بعده في هذه الدنيا أم اختارهم الله شهداء، وقد قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (فاصبر إنّ وعد الله حقّ. فإمّا نرينّك بعض الذي نَعِدهم أو نتوفّينّك. فإلينا يرجعون). {سورة غافر: 77، 78}.

ومع أملنا وثقتنا بأنهم سيرون النصر بأعينهم، فلنفرض أسوأ الاحتمالات في معيار البسر، وهو أن يُقتَلوا فلا يبقى منهم أحد. ألم يكن هذا مصير أهل الأخدود؟ ألم يقل المولى عنهم إنهم حصلوا على "الفوز الكبير"؟.

(ولينصرنّ الله مَن ينصرُه. إنّ الله لقويٌّ عزيز).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين