الوقوفات الثنائية التدبرية

التقديم للبحث:

أسرار القرآن لا تنتهي وعجائبه لا تنقضي، والوقف والابتداء عينان نضَّاختان عين فجَّرها السلف، وعين ما زال يفجرها الخلف، وما يتولَّد منهما من معانٍ وأسرار عينان تجريان، أسرار عرفها السلف، وأسرار جديدة ومتجددة يكشفها الخلف. ولذلك نبع المعاني القرآنية لا ينضب، وإلا لكان الأمر بالتدبر عبثاً، وحاش لله أن يأمر بالتدبر والتفكر ولم يكن فيه أمر مفيد، ووراء ذلك شيء جديد، ورغم أن سور القرآن وآياته وكلماته محدودة - محفوظة من الزيادة والنقصان - ولكنها بالمعاني تجريان وبالأسرار نضاختان، فلا يجوز أن نعتبر معاني الآيات محدودة، وإلا ساوينا بين كلام الله وكلام البشر والفرق بين كلام الله وكلام البشر كالفرق بين خلق الله وصنع البشر، فالله جعل من التراب فخاراً بشراً، والإنسان صنع من التراب آنية فخاراً، فكم هو الفرق بين الآنية والإنسان؟

 

ولا عجب، فإن كلام الله (لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء)، ويؤيد هذه الحقيقة ما نسمعه من إلهامات ولطائف من أهل اللغة والتفسير والإعجاز العلمي والإعجاز العددي اللذان لم يكونا معروفين من قبل. وكل فترة نسمع جديدا، ونجزم دون تردد ونوقن دون شك أن هناك الكثير من المعاني لم تعرف بعدُ.

 

{ما نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]، وهذا يدل على عظمة كلام الله وما يطوي تحته من أسرار.

 

وهنا سؤال يطرح نفسه في الحال: هل ما ذكره السلف من معاني القرآن هو النهائي والأخير؟

 

لا شك أن هناك المزيد والجديد. وإذا كان ذلك كذلك، فكيف نفهم المعاني؟ مع احتفاظنا بالمعاني السابقة النفيسة الغزيرة مصطحبين القول المعروف (ما ترك الأول للآخر) معدلاً بقول بعضهم: (كم ترك الأول للآخر).

 

 

 

يمكن فهم القرآن بالقرآن وبالسنة وباللغة وربما بالعلم والواقع، وكل فهم يعضد الآخر ويكمله ولا يتعارض معه، وهنا يكمن السر في كلمات القرآن، فترى ابن البادية يفهم شيئا من آية، ويفهم منها ابن المدينة فهما آخر، ويفهم المختصون في علم ما فهماً ثالثاً بالبحث والتقنية.. ولا تتعارض هذه المفاهيم مع بعضها ولا يمنع أن أذكر بعض الأقوال المتغايرة في هذا الموضوع والراجح منها.

 

يقول ابن تيمية رحمه الله: (يجب أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن).

 

وقال آخرون: (لم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة إلا آيات قلائل) وما أظن أن هناك تعارضاً إذا فهمنا القول ضمن سياقه وعرفنا قصد قائله.

 

والقول الواضح في هذا: (والراجح أن الرسول الله بيَّن للصحابة الكرام رضوان الله عليهم ما دعت الحاجة إلى بيانه وفسَّر لهم ما أشكل عليهم، وأجابهم على أسئلتهم).

 

وهنا يُطرح سؤال: لماذا لم يفسّر رسول الله الله القرآن كاملا ؟

 

الجواب: (لو فسّر رسول الله القرآن كاملاً لأغلق باب التفسير، ولما جرؤ أي عالم على التفسير. وليبقى الباب مفتوحاً أمام المفسرين، ولتبقى حركة التفسير مستمرة في الأجيال اللاحقة. ولو فسره لهم رسول الله بما حوت آياته من علوم ومعارف فقد لا يستوعبونها، وقد تكون محل استغراب لبعضهم.

 

ولذلك قيل: (خير مفسر للقرآن هو الزمن). ويرى الإمام الطبري: (أن التفسير هو بيان مراد اللفظ المنقول عن الصحابة والتابعين، والتأويل هو بيان المعاني المختلفة التي تحتملها ألفاظ القرآن).

 

وجاء في المرجع نفسه: (إننا لا نرى أن التفسير بالرأي المحمود جائز فقط، بل نرى أنه واجب لا بد منه لمن ملك الأدوات التي تعينه على صواب الرأي).

 

وقد دلت آية النساء(83): { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، أن في القرآن ما يستنبطه أولوا الألباب باجتهادهم ويصلون إليه بإعمال عقولهم. ولو أن التفسير بالرأي غير جائز لما كان الاجتهاد جائزاً، وباب الاجتهاد لا يزال مفتوحاً إلى اليوم.

 

وقد ثبت أن الصحابة اختلفوا في تفسيره على وجوه، ومعلوم أنهم لم يسمعوا كل ما قالوه في تفسير القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أنه لم يبين لهم كل معاني القرآن، بل بيَّن لهم بعض معانيه، وبعضه الآخر توصَّلوا إلى معرفته بعقولهم واجتهادهم، ولو أن القول بالرأي في القرآن محظوراً لكانت الصحابة رضي الله عنهم قد خالفت ووقعت فيما جرم الله، ونحن نعيذ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من المخالفة والجرأة على محارم الله.

 

والوقف والابتداء أحد وسائل الفهم في كتاب الله تعالى، ومن هنا ندلف إلى علم الوقف والابتداء، وكلما تبحَّر القارئ به يجد أمامه أبعاداً وآفاقاً.


تحميل الملف