الهجرة وحاضر المسلمين (9- 15)

المُبَوَّأ الحسن:

قد وعد الله تعالى المهاجر بالتبوئة الحسنة في مُهاجَره، فقال سبحانه:[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {النحل:41}.

قال الألوسي: ( أي مباءة حسنة، وحاصله: لنُنزِلنَّهم في الدنيا منزلاً حسناً، وعن الحسن : داراً حسنة،والتقدير الأول أظهر لدلالة الفعل عليه، والثاني أوفق بقوله تعالى:[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا] {الحشر:9} .وفُسرِّ ذلك بالغَلَبة على أهل مكة، الذين ظلموهم ، وعلى العرب قاطبة، وقيل: هي ما بقي لهم في الدنيا من الثناء ، وما صار لأولادهم من الشرف، وعن مجاهد: أن التقدير معيشة حسنة، أي: رزقاً حسناً، وقيل التقدير: عطية حسنة، والمراد بالعطية: المعطى، ويفسَّر ذلك بكل شيء حسن، ناله المهاجرون في الدنيا)اهـ (1).

العبرة بعموم اللفظ:

إنَّ الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هو الذي ينبغي المصير إليه، فقد قال الألوسي بعد كلام: ( وقال بعضهم: إن {الذين هاجروا}عام في المهاجرين كائناً من كان، فيشمل أولهم وآخرهم، وكأن هذا من قائله اعتبار لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب، كما هو المقرر عندهم)(2).

هل هو لا يتناهى إلى منازل الذين جاؤوا من بعدهم؟!

وأقول: لأن يكون القرآن نزل خاصاً بالمهاجرين إلى المدينة فحسب، ولا يتناهى إلى منازل الذين جاؤوا من بعدهم، وما ترامت إليه الليالي ، بَعْد أن بَعُد العهد بمتنزَّل الوحي، أو لا شأن له ، بما يخامر العالم الإسلامي هذه الأيام، من اللأواء والضنك، والهجرة القسرية والاختيارية التي أصبحت دَرْب المسلمين الدائب، فإذا انقطعت من قُطر تفجرت في قطر آخر، كهجرة الفلسطينيين الأولى عام 1368هـ 1948م، بعد احتلال اليهود لجزء من فلسطين ، وهجرتهم الثانية عام 1387هـ ـ1967م، ثم هجرة السوريين أثناء جهادنا مع المجرم حافظ الأسد ، في نهاية القرن الرابع عشر الهجري وبداية القرن الخامس عشر منه ـ الموافق أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات الميلادية ، ثم هجرة الأفغان أثناء قتالهم مع جيوش الاتحاد السوفييتي ، ثم هجرة أهل البوسنة والهرسك أثناء حربهم مع الصرب، وهجرات الألبان المتتالية نتيجة اضطهاد الصرب لهم ، ثم هجرة الشيشان بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، في حربهم مع الروس، ثم هجرة العراقيين بعد احتلال أمريكا للعراق، وغير ذلك.

وهكذا فكلما ازداد وعي المسلمين، وتواتر جهادهم، تحدَّرَ عن ذلك هجرات جديدة!..

يستلهمون من إرشاداته:

هذا والمسلمون المهاجرون يتلون كتاب ربِّهم صباحَ مساء، ويستلهمون من إرشاداته وتطميناته وبشرياته، فلأن لا يكون يعنيهم في شيء ـ إلا السابقين الأولين من المهاجرين ـ فلقد أرى أنَّ هذا الرأي يندُّ عن الجانب الأمثل.

فأنى لهؤلاء ألا تمسهم أرواح هذه الحسنة:

فأنى لهؤلاء الذين توطَّنوا تحت النجوم، وتزايلوا عَبْر الفجاج، ألا يَسْعَدوا بنفحات قوله تعالى:[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {النحل:41}.أفحريٌّ بهم ألا تمسَّهم أرواح هذه الحسنة؟!.

كلا ، بل قد تروَّح مَن اطلعت على أمره من المهاجرين بعليل نسيمها حقاً ، مما يُعَزِّز قول من قال بالعموم.

ولأجر الآخرة أكبر:

ثم لا ينبغي أن يتردد على خلد ظانٍّ أن المهاجر قد استنفد بحسنته هذه في الدنيا أجره ! لا، بل إن أجره في الآخرة كامل غير منقوص، بل هو أكبر، كما قال تعالى: [وَلَأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {النحل:41}.

قال الألوسي عند قوله تعالى : {وَلَأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ} [النحل: ٤١].: ( أي : أجر أعمالهم المذكورة في الدار الآخرة أكبر مما يعجل لهم في الدنيا. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءً يقول له: خذ بارك الله تعالى لك، هذا ما وعدك الله تعالى في الدنيا ، وما أُخِّر لك في الآخرة أفضل، ثم يقرأ هذه الآية )اهـ(4).

فقد وقع أجره على الله :

على أن ثواب الهجرة يقع للمهاجر بخروجه من بيته إن مات في الطريق ، قبل أن يصل إلى مقصده، لقوله تعالى:[وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:100}.أي وجب أجره بمقتضى وعد الله تعالى وفضله، إذ يحصل له ثواب الهجرة كاملاً، لأنه اعتمل فيه قصْدها، لكن الموت حال دون ذلك، وكذلك كل من قصد فعل طاعة ، ولم يقدر على إتمامها(5).

قال الألوسي : ( وأقيم { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ} مقام ـ يثبه ـ لما أنه مؤذن باللزوم والثبوت، وأن الأجر عظيم لا يُقادَر قَدْرُه، ولا يُكتنه كنهه، لأنه على الذات الأقدس ، المسمَّى بذلك الاسم الجامع)اهـ(6).

قد يحدث بعض اللأواء:

وقد يحدث في الهجرة بعض اللأواء ـ شأن ما يحدث للناس عامة ـ غير أن هذا لا ينافي المبوَّأ الحسن! فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وُعِك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبتِ كيف تجدك؟ ويا بلاك كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:

كلُّ امرئٍ مُصَبِّح في أهله=والموت أدنى من شِراك نعله

وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول:

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة=بوادٍ وحولي إذْخرٌ وجليل

وهل أرِدَنْ يوماً مياه مَجِنَّة=وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطفيل(7)

قالت عائشة : فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : اللهم حَبِّب إلينا المدينة كحُبِّنا مكة أو أشد، وصحِّحْها ، وبارك لنا في صاعها ومُدِّها ، وانقل حُمّاها فاجعلها بالجحفة(8).

وجاء في رواية النسائي: أن ثالثهم في البيت عامر بن فهيرة ، قد أصابته الحمَّى أيضاً، قالت عائشة رضي الله عنها:

ثم دنوت إلى عامر بن فُهيرة ، فقلت: كيف تجدك؟ فقال:

لقد وجدتُ الموتَ قبل ذَوقه =إن الجبان حَتْفُه من فوقه

كلُّ امرئٍ مجاهدٌ بِطوقه=كالثور يحمي أنفه بِرَوْقه

فقلت: هذا والله ما يدري ما يقول(9).

هذا أمر محسوس لمن سكنها:

قال السيد أحمد زيني دحلان بعد ذكره دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة: ( فاستجاب الله له، فطيَّبَ هواءها وترابها وساكِنَها ، والعيش بها، حتى إن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة، لا تكاد توجد في غيرها، وقد تكرر دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتحبيب المدينة والبركة في ثمارها. قال العلامة الزرقَاني : والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول ، والتكرير لطلب المزيد، وقد ظهر ذلك في الكيل، بحيث يكفي المُدُّ بها مالا يكفيه بغيرها، وهذا أمر محسوس لمن سَكَنها ، ونقل الله حُمّاها إلى الجحفة(9).

الحلقة الثامنة هنا

* * *

(1) روح المعاني : ج14،ص145مع حذف يسير. 

(2) المرجع السابق : ج14،ص146. 

(3) روح المعاني : ج14ص146. 

(4) روح المعاني ج5ص128، الخازن من مجمع التفاسير : ج2ص149ـ150. 

(5) روح المعاني ج5ص128. 

(6) عقيرته : صوته ببكاء أو بغناء، جليل: نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت، وغيرها. مَجِنة: موضع على أميال من مكة، شامة وطفيل: جبلان بقرب مكة. انظر :فتح الباري ج7ص210. 

(7) صحيح البخاري : باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة. 

(8) انظر السيرة الدحلانية بهامش الحلبية ج1 ص332، وقال فيها تفسيراً لقول عائشة رضي الله عنها : أي : لأنها سألتهم عن حالهم فأجابوها بما لا تعلق له اهـ . أي : وقد قالت عن أبيها بمثل ما قالت عن عامر. 

(9) السيرة الدحلانية بهامش الحلبية: ج1ص333.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين